شجَّعت شركة "غوغل" (Google) في أوائل العقد الأوَّل من الألفيَّة الجديدة، على اتِّباعِ سياسة عملٍ جديدةٍ للموظَّفين يخصص الموظف من خلالها 80% من ساعات عمله لإنجاز المشاريع الأساسية، في حين يُخصِّص الـ 20% المتبقية (ما يعادلُ تقريباً يوم عملٍ واحداً في الأسبوع) للنشاطات والهوايات التي تحاكي شغفَه واهتماماته الشخصية.
أدَّت هذه السياسة إلى كثير من الإنجازات التي حققتها "غوغل" مثل إطلاق خدمة البريد الإلكتروني الخاصة بها "جي ميل" (Gmail) و"غوغل أدسنس" (Google AdSense)، و"خرائط جوجل" (Google Maps)، وجميعها تطبيقات سادَتْ العالم، وحقَّقتْ وما تزال تحقِّقُ للشركة أرباحاً هائلةً، ونظراً للنتائجَ المُبهِرة التي حقَّقتها غوغل؛ فقد حذت شركات أخرى حذوها، مثل "سلاك" (Slack)، ومنصة التواصل الاجتماعي "إكس" (X) المعروفة سابقاً بـ "تويتر" (Twitter)، وشركة "بافر" (Buffer) وبدأت بتطبيق سياسة المشاريع الجانبية على مستوى الشركة.
ما هو مشروع الشغف وما هي أهميته؟
تُعرَّفُ مشاريعُ "الشغف" أو المشاريع الجانبية أنَّها النشاطات التي يمارسها فرد أو مجموعة أفراد، بغرض المتعة فقط، ودون أيِّ هدفٍ ربحيٍّ.
قد لا يتحوَّل أي مشروع شغفٍ، أو نشاطٍ جانبي من خلال التطبيق العملي إلى خدمةٍ، أو منُتجٍ، أو علامةٍ تجاريَّةٍ مُعترف بها، لكنَّ هذا النوع من النشاطات هامٌ جداً لعدَّة أسباب، وخاصَّةً في بيئات العمل الحديثة.
أوَّلاً؛ يدركُ الموظفون في الشركات التي تسمح إدارتها لفريق العمل بتخصيص وقتٍ لمشاريع الشغف أنَّ الإدارة تهتمَّ بأشياء أخرى غير تحقيق الأرباح؛ وهي سعادة الموظَّفِ، وغنيٌّ عن البيان أنَّ سعادة الموظف، وقدرته على ممارسة النشاطات الإبداعية تعزِّز قدرته على التفكير النقديِّ والتفكير خارج الصندوق، وأضِفْ إلى ذلك أنَّ هذه النشاطات تؤدِّي إلى تطوير عقليَّة ريادة الأعمال لدى الموظَّفين، وهو ما ينعكس إيجاباً على الإنتاجية.
ثانياً؛ تؤدِّي مشاريع الشغف في كثيرٍ من الأحيان إلى تعزيز شعور الموظف بالرضى، عندما يتعلَّق هذا النوع من المشاريع بخدمة المجتمع والأعمال الخيرية.
أمثلة عن مشاريع الشغف في عالم الشركات:
1. الإشراف البيئي:
تُعَدُّ سلسلة فنادق "ماينور" (Minor) إحدى أبرز الشركات في قطاع الفنادق، فتمتلك منتجعات وفنادق مثل "أنانتارا" (Anantara) و"تيفولي" (Tivoli) وغيرهما، وتتميز هذه الشركة بامتلاكها لكثير من الفنادق والمنتجعات القريبة من المناظر الطبيعية الخلابة، فتتوزَّع معظم هذه الفنادق والمنتجعات بين أجمل جزر العالم مثل "جزر المالديف" (Maldives)، و"صحارى الشرق الأوسط "(Middle East)، والغابات الكثيفة في "تايلاند" (Thailand).
يقول "إيان دي توليو" (Ian Di Tullio) كبير المسؤولين الاقتصاديين في سلسلة فنادق "ماينور": "الإشرافُ البيئي عملٌ هامٌّ لمشروعنا التجاري؛ لأنَّ استمراريته منوطة بالحفاظ على هذه البيئات الفريدة".
لذلك يرى "إيان" أنَّ نجاح الشركة على الأمد الطويل يتعلَّق بفهم ِالفوائدَ التي يؤدِّي إليها الحفاظ على البيئة لكلٍّ من مشروعهم التجاري، والمجتمع بشكلٍ عام، ومع أخذ ذلك في الحسبان، فقد قرَّرت الشركة الاضطلاع بدورٍ مسؤولٍ في الحفاظ على البيئة من خلال التشجيع على مشاريع جانبية تهدف للحفاظ على البيئة، مثل: إنشاء مؤسسة "غولدن تراي إنجل إيجِن إيليفانت" (Golden Triangle Asian Elephant Foundation)، إضافة إلى التعاون مع خبراء الحياة البحرية، وعلماء الأسماك لتأسيس مجلة "وورد أوف كيهافا" (World of Kihavah) وهي مجلَّة تسلِّط الضوءَ على النظام البيئيِّ، والشعابِ المرجانيَّة، والأسماك الموجودة في منتجع "أنانتارا كيهافا" الموجود في "جزر المالديف".
شاهد بالفيديو: 14 نصيحة لتحويل شغفك إلى أفكار قابلة للتنفيذ
2. الدَّمج بين العمل في مجال الضيافة ونشاطات الحفاظ على البيئة:
بدأ منتجع "ساندوس كاراكول" (Sandos Caracol) في "بلايا ديل كارمن" (Playa del Carmen) في "المكسيك" (Mexico) بوصفه مشروع شغفٍ يدمجُ بين الحفاظ على البيئة وتقديم الخدمات في مجال الضيافة، وتحوَّلَ تدريجياً إلى مشروعٍ تجاريٍّ ناجحٍ.
تلقَّتْ مبادرات فريق العمل (من زراعة الأشجار، واستخدام الطاقة النظيفة كمنظومات الطاقة الشمسية، وإعادة تدوير النفايات العضوية واستخدامها كسماد للمزروعات، وغير ذلك من النشاطات الصديقة للبيئة) كثيراً من الإشادات من قِبَل مؤسَّسات متخصِّصة في مجال البيئة والمشاريع الصديقة للبيئة، مثل: شهادة الاستدامة (شهادةٌ تمنحها منظَّمة "مارتي" للفنادق التي تمارس النشاطات التي تؤدي إلى الحفاظ على البيئة والحدِّ من النشاطات الملوِّثة) و"مارتي" (MARTI ) مُنظَّمة متخصِّصة في مجال السياحة في بيئات الشعاب المرجانية في منطقة "ميزوأمريكا" (Mesoamerica)، كما حصلَتْ الشَّركة على ميداليات ذهبية من قبَل منظَّمة "تريفلايف" (Travelife) و"تحالف الغابات المطيرة" (Rainforest Alliance).
كما يُكرِّس منتجع "ساندوس كاراكول" البيئي جهوده للتثقيف من خلال النشاط السياحي، ويُستثمَر المنتجع بانتظامٍ لنشر الوعي بالثقافات، والسكَّان الأصليين في المنطقة، والحياة البريَّة المهدَّدة بالانقراض، والنُظُم البيئية النادرة، وظهَر مفهوم "تجربة السياحة الطبيعية الشاملة" في عام 2014، وكان الهدفُ منه تثقيف الزوَّار بأهميَّة الحفاظ على البيئة، من خلال تقديم تجارب سياحية فريدة تقوم على زيارة الغابات والتعرُّف إلى النباتات والحيوانات الموجودة في البيئة المحيطة، خاصَّةً مع بدء تلاشي الخط المرجاني الساحلي بسبب تغيرات المناخ.
3. مساعدة الشركات الأخرى على خفض التكاليف:
بدأت شركة "كارنيفال" (Carnival) العاملة في مجال الرحلات البحرية بعمليات استخراج الوقود الحيوي عن طريق معالجة بقايا الزيت المخصَّص للطهي في السفن.
طُبِّقَتْ هذه الآليَّة على سفينة "ديسكفري برينسيس" (Discovery Princess) أكبر السفنِ في أسطول شركة "برينسيس كروز" (Princess Cruises)، كما تحدَّث نائب المدير الأول لرحلات "آلاسكا" (Alaska) في شركة "كارنيفال" "روبرت مورغنستيرن" (Robert Morgenstern) في مؤتمر "إيمباكت" (Impact) الخاص بتجارب الاستدامة عن نجاح هذه المبادرة، فقال: "سرعان ما تحوَّل ما بدأناه بوصفه مشروعاً جانبياً إلى تجربة منحَتنا الشعورَ بالرضى، نظراً للأبعاد الخيرية لهذا المشروع، وما حقَّقته من إيرادات للشركات الأخرى العاملة في نفس المجال".
تُعزِّز "كارنيفال" الاقتصاد المحلي؛ من خلال خفض كلفة شراء الوقود الحيوي العادي، فيمكن للمستفيد من الزيت المُعالَج أنْ يبيعَ الوقودَ الحيويَّ النَّظيف لغيره من أصحاب الشركات، والحقيقة أنَّ هذا الحل المُبتكر الذي قامت به "كارنيفال" - القائم على إعادة تدوير بقايا زيت الطهي - يساعدُ غيرها من الشركات العاملة في نفس المجال، ما يُعَدُّ بلا شكٍّ عملاً خيرياً بامتياز.
كيف تؤثِّر مشاريع الشغف في الأرباح النهائية للشركات؟
يعيش 20 فيلاً في الغابات والمروج المحيطة بإحدى منتجعات شركة "ماينور" في شمال تايلاند؛ وذلك بفضل المبادرات البيئية للشركة، فضلاً عن منح زوار المنتجع فرصاً ثمينةً للتعلُّم عن الفيلة، والمساهمة من خلال التبرُّعات في الحفاظ على حياة هذه الكائنات.
يقول "دي توليو": "تبرَّعنا في عام 2023 بمبلغ 55 ألف دولار خُصِصَت بالكامل لصالح مشاريعٍ تهدفُ للحفاظ على الحياة البريَّة، وتثقيفِ المجتمع المحليِّ حول الفيلة البريَّة، والفيلة التي تعيش في الأَسر".
يضيف: "نؤمنُ بقوَّةٍ بأنَّنا قادرون من خلال التزامنا باتِّباع نهجَ عملٍ صديقٍ للبيئة، على تحقيقِ نتائجَ إيجابيَّةٍ على صعيد نجاح الشركة، وهذا النهج يجذبُ العملاءَ، ويدفعهم للحجز في فنادقنا".
كما تُعَدُّ شركة "ماينور" أوَّلَ شركةٍ تُجري تقييماً شاملاً للشعابِ المرجانية في المحيط، وتأملُ إدارة الشركة أن تُلهِمَ هذه المبادرة باقي الشركات العاملة في نفس المجال، للتعاون مع الجهات الرسمية في المالديف، والقيام بمزيد من النشاطات بهدف الحفاظ على البيئة.
إضافة إلى ذلك، فإنَّ هذه المبادرات توضِّح السبب الذي يجعل فنادق ومنتجعات شركة "ماينور" الوجهة الرئيسة للزوار الراغبين بممارسة نشاطات مثل الغوص والغطس خلال إقامتهم في فنادق الشركة، ما يعني أنَّ مبادرات ماينور البيئية تُعزِّز أرباحها.
يقول "ميغيل جواردادو" (Miguel Guardado) المسؤول عن فندق الإقامة الخاص بمنتجع "ساندوس كاراكول": "يحجزُ في منتجعنا سنوياً حوالي 4000 شخص للاستمتاع ببرنامج السياحة الطَّبيعية الشَّاملة".
يوضِّح "ميغيل" أنَّ إضافة نفقات هذا البرنامج إلى مُجمَل نفقات الإقامة في المنتجع، توضِّح للزوار الأثر الإيجابي لما يدفعونه من أموال في الحفاظ على النظام البيئي.
ترى شركة "كارنيفال" أنَّ مبادرتها هي نهجٌ استباقيٌّ وموائمةٌ مبكِّرة لمتطلبات العمل في مجال النقل البحري مُستقبلاً، ففُرِض على جميع شركات النقل البحري أن تطبِّق كل ما يلزم من تقنيات للالتزام بالحياد الكربوني بحلول عام 2050، ومبادرة شركة "كارنيفال" هي واحدة فقط من العديد من الحلول المبتكرة التي تستفيد من مختلف الموارد المحلية، لتعزيز قدرة الشركة على الوفاء بهذا الالتزام بحلول موعده.
الجوانب التي يجب مراعاتها عند التخطيط لمشاريع الشغف:
يجب مراعاة ما يأتي قبل البدء بتنفيذ أي مشروع شغف على نطاق الشركة:
- الجدوى الاقتصادية للمشروع.
- الاستمرارية.
- ملاءمة المشروع لأهداف الشركة.
للتوضيح؛ لا ينبغي أنْ تسعى إدارة الشركة من خلال مشاريع الشغف إلى تحقيق الأرباحِ فحسب، على الرغم من أنَّه يجب أخذ هذه النتيجة بالحسبان، ويجب أيضاً ألا يستنزف المشروع موارد الشركة، مثل: وقت وجهد الموظفين، وتكاليف الإعداد، والصيانة دون تحقيق نتائج إيجابية.
ضع في حسبانك أنَّه يمكن أن يستغرق مشروع الشغف وقتاً طويلاً، ما يعني أنَّه قد لا تظهر آثاره من ناحية زيادة الأرباح إلا على الأمدِ الطويل، كما في حالة شركة "كارنيفال كروز" ومبادرتها لإعادة تدوير مخلَّفات زيت الطهي وتحويله إلى وقودٍ حيويٍّ، فصحيح أنَّ المشروع قصيرُ الأمدِ، ولكنَّ النتيجة النهائية المطلوبة والمتمثِّلة بتحقيق الحياد الكربوني هي بحلول عام 2050.
في الختام:
قد لا تكون جميع مشاريع الشغف ذات مردودٍ هائلٍ على الأرباح كما في حالة "غوغل" وابتكاراتها التي حقَّقت لها أرباحاً بمليارات الدولارات بفضل هذا النوع من المشاريع، ولكن من المؤكَّد أنَّ مشروع الشغف المناسب سيؤدِّي بطريقة أو بأخرى إلى نتائجَ إيجابيَّةٍ على صعيد الشركة تؤدِّي حتماً إلى زيادة أرباحها.
أضف تعليقاً