لقد شاع الفساد الإداري في كل الأنظمة السياسية الديمقراطية والدكتاتورية والرأسمالية والاشتراكية والمتعلمة والأمية والمتقدمة والنامية، فهو ظاهرة عالمية واسعة الانتشار تصيب جهاز الدولة بالشلل وتجعله غير قادر على القيام بمهامه كما يجب، وهو مشكلة خطيرة لها آثار سلبية هدامة لا تُعَدُّ ولا تحصى.
يُعَدُّ الفساد الإداري مرضاً قاتلاً منتشراً في مفاصل الأجهزة الحكومية، ويؤثر في كيان المجتمع واستقراره، كما يزيد من حدة الفقر والتفاوت الطبقي، ويدمر الدولة وينال من قيمها الاجتماعية، ويعطل مبادئ العدالة والنزاهة ويقتل المساواة فيها، كما يعرقل نموها وكل برامج التنمية التي تحاول القيام بها؛ إذ يحول دون تنفيذ مشاريعها الاستثمارية والاقتصادية.
يسبب الفساد الإداري تدني كافة الخدمات المقدمة من صحية وتعليمية وغذائية وسواها، وفي الحقيقة أصبح الفساد اليوم وباءً ينخر في بناء المجتمعات بكل تفاصيلها رغم التفاوت في نسبة الفساد بين المجتمعات، ويلحظ وجوده في المجتمعات العربية بشكل أكبر من غيرها من المجتمعات؛ وذلك بسبب ضعف البنية المؤسسية والظروف الأمنية التي تمر بها.
عموماً تتعالى الأصوات يوماً بعد يوم لإيجاد الحلول لهذه الظاهرة والقضاء عليها؛ وذلك لأنَّها تقف عائقاً في سبيل تحقيق التقدم وتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ومن ثمَّ تحقيق أمن وسعادة الإنسان ورفاهيته.
مفهوم الفساد الإداري:
الفساد الإداري آفة منتشرة في جميع بلدان العالم حتى يكاد لا يخلو يومنا من سماع أو قراءة خبر يطال الفساد وتداعياته، وهو ليس من الظواهر العابرة؛ وإنَّما مستمرة وتُعمِّق المعاناة في المجتمع، وتتجلى ممارسته في صدور أعمال وأفعال من المسؤول تنطوي على استغلال صلاحياته ونفوذه والسلطات المخول بها بطريقة مخالفة للقانون والقيم الاجتماعية والدينية والثقافية، كما يعني خيانة الأمانة والبعد عن المبادئ الأخلاقية والقيم والفضائل التي تحددها الأديان والبعد عن كل ما هو نقي في المجتمع.
جاء في تعريف البنك الدولي للفساد بأنَّه "سوء استغلال السلطة العامة من أجل الحصول على مكاسب خاصة"، وفي موسوعة العلوم بأنَّه "استخدام النفوذ العام لتحقيق أرباح أو منافع خاصة، وهذا يشمل أنواع الرشاوى للمسؤولين المحليين أو السياسيين ويستبعدها بين القطاع الخاص"، وهذا يعني أنَّه حصر الفساد ضمن القطاع العام في الدول مستبعداً فكرة وجود الفساد الإداري ضمن القطاع الخاص، لكن في حقيقة الأمر تشير الشواهد في وقتنا الحالي إلى وجود الفساد ضمن نشاطات القطاع الخاص، وقد عرَّفته منظمة الشفافية الدولية بأنَّه "استغلال السلطة من أجل المنفعة العامة".
الفساد أزمة أخلاقية ترتبط بالموظف العام الفاسد الذي يبحث عن المال ويفضل اكتسابه بالطرائق غير المشروعة وبشكل سري في الغالب ليحقق مصالحه الشخصية على حساب المصلحة العامة، وعموماً يمكن القول إنَّ الفساد الإداري هو عبارة عن النشاطات التي يقوم بها الموظف وتؤدي إلى انحراف المنظمة عن أهدافها الرسمية التي تكون غايتها تحقيق مصالح العامة.
أشكال الفساد الإداري:
- الرشوة: قد يضطر العملاء والمتعاملون مع المؤسسات الحكومية إلى تقديم الرشاوى للموظفين فيها من أجل خدمات معينة، كما يمكن أن تكون الرشوة مقابل قيام الموظفين بأعمال خارج إطار القانون كلياً ولا تسمح بها القوانين بأي شكل من الأشكال، فالرشوة أساس التفرقة بين المواطنين فمن يدفع يحصل على خدمته ومن لا يدفع يجب عليه أن يعاني الكثير لقاء الحصول على ما يريد من خدمات من المنظمات أو حتى لن يحصل عليها أبداً.
- استغلال النفوذ: ليس بالضرورة أن يتلقى الموظف رشوة مادية حتى يُعَدَّ فاسداً إدارياً، فقد يقوم باستغلال منصبه في الوظيفة ليقوم بتوظيف أقاربه أو قيامه بتبرير غيابهم عن مهامهم في الوظيفة والتغاضي عن محاسبتهم أو تقديم خدمات شخصية لهم دون أي اعتبار للعدالة الموضوعية.
- المحسوبية "الواسطة": وتعني تأثير العلاقات من قرابة وصداقة في حركة التوظيف داخل المنظمات، ويترتب عليها شغل الوظائف بأشخاص غير أكفاء وغير مؤهلين للعمل فيها.
- الانحراف التنظيمي: هي السلوكات التي تصدر عن الموظف في أثناء تأدية مهام ووظائف تؤثر في سير العمل وتعرقل إنجازه مثل:
- التأخر في الوصول إلى العمل والخروج قبل نهاية الدوام الرسمي.
- عدم ربط الإنتاجية بوقت العمل؛ أي يشعر العامل بأنَّه يمضي الكثير من الوقت في مكان العمل ويستمر بانتظار نهاية وقت الدوام دون أن ينظر إلى مقدار ما أنجز من عمل خلال هذه الساعات.
- رفض العامل تأدية العمل الموكل إليه أو عدم تأديته بالشكل الصحيح أو تنفيذه بالحد الأدنى.
- عدم الالتزام بتنفيذ التعليمات الإدارية والبحث عن الأعذار والمبررات لذلك.
- عدم التجديد والتطوير في العمل ومقاومة أي تغيير يمكن أن يحسن من آلية العمل.
- اللامبالاة والعزلة في العمل وعدم الرغبة في المشاركة في عملية صنع القرار.
- عدم الرغبة في تحمُّل أيَّة مسؤولية في العمل؛ لذا يتجنب إمضاء أو توقيع الأوراق الرسمية.
- إفشاء أسرار العمل.
- فرض الأتاوة واستغلال المال العام: والمقصود هنا قيام العامل بمخالفة القوانين وفرض الأتاوة على بعض الأشخاص، أو استغلال المال العام في شراء الأثاث وإقامة الحفلات ونشر التهاني والمناسبات من خلال الإعلانات في الصحف والتلفاز والمجلات وسواها.
- اختلاس الأموال وتهريبها: أي قيام المسؤول بالحصول على الأموال العامة بطريقة غير مشروعة وأخذها لحسابه الخاص وتهريبها للخارج.
- التزوير والغش: قيام المسؤول بتزوير أوراق رسمية بهدف الحصول على منفعة مادية أو شخصية أو يقوم بتخبئة بعض الأوراق الهامة.
شاهد بالفديو: 10 أمور تدل على سوء الإدارة في العمل
الآثار التي يخلفها الفساد الإداري في المجتمع:
- فقدان ثقة المواطنين بأجهزة الحكومة ومصداقيتها: فالفساد الإداري يضعف قواعد العمل الرسمية ويحول دون تحقيق الأهداف التي أُنشئت من أجلها هذه الأجهزة، ومن ثمَّ انعدام ثقة المواطنين بها ومحاولتهم تجنب التعامل معها.
- الفساد الإداري أبرز معوقات التنمية الاقتصادية والاجتماعية: فالفساد سبب في حدوث العديد من الحالات الاقتصادية التي تعوق التنمية مثل:
- خفض معدلات الاستثمار وهروب المستثمرين بسبب طلب الفاسدين الحصول على رشاوى وعمولات لقاء تسهيل عملهم والرغبة في الحصول على مزايا اجتماعية دون مراعاة مصالح المجتمع.
- خفض الإيرادات العامة التي تحصِّلها أجهزة الدولة من خلال الضرائب والرسوم، فالعديد من المسؤولين يتقاضون رشاوى من العملاء لقاء تخفيض أو إلغاء أو منحهم إعفاءات ضريبية.
- الفساد الإداري يؤثر في الإنفاق العام؛ إذ يقوم المسؤولون بزيادة التعقيدات في المشاريع الاستثمارية لفتح أبواب تلقِّي الرشاوى.
- تعميق الفجوة بين الأغنياء والفقراء والإخلال بمبادئ العدالة الاجتماعية: يدفع الفساد الإداري إلى تقسيم المجتمع إلى طبقتين؛ طبقة غنية جداً بسبب تلقيها الرشاوى، وأخرى فقيرة نتيجة تمتعها بالأمانة والمصداقية.
- انتشار البطالة وتقليص فرص العمل في المجتمع: إذ يعمل المسؤول الفاسد على تغليب مصلحته الشخصية على مصلحة المجتمع فيمنح الوظيفة حسب ما يريد دون مراعاة لكفاءات أو مؤهلات العناصر المطلوبة في العمل.
- خسارة المجتمع وقيمه الأخلاقية: يضعف الفساد الإداري ويزعزع القيم الأخلاقية في المجتمع من صدق وإخلاص وعدل وتكافؤ الفرص وبروز التعصب والتطرف وسواها.
- تقويض الفساد الإداري لمبدأ الشرعية السياسية.
- انتشار الفوضى ونشوء التطرف وتنامي الظواهر الأخرى مثل العنف والعنف المضاد من قِبل الجماعات التي تعرضت للظلم والحرمان.
- عدم وجود جدوى من الأنظمة والقوانين بسبب فساد القائمين على تنفيذها.
- هجرة الكفاءات الاقتصادية والعلمية بسبب عدم تقديرهم وبروز المحسوبية في إشغال الوظائف العامة.
- زيادة تكلفة الخدمات العامة التي تقدمها الحكومة مثل التعليم.
- هدر الموارد بسبب تضارب المصالح الشخصية بين المسؤولين في المشاريع.
- انتشار الفقر وتراجع مستوى معيشة الأفراد في المجتمع.
- إضعاف الاستقرار السياسي.
كيف يمكن أن نخلص مجتمعنا من آفة الفساد الإداري؟
- المحاسبة القانونية: وتعني خضوع أصحاب المناصب للمحاسبة القانونية عند قيامهم بأي عمل يخالف القانون سواء أكانت مخالفة قانونية أم إدارية.
- المساءلة: فمن واجب كل صاحب سلطة أن يقدم تقريراً عن الأعمال التي يقوم بها، ومن حق كل مواطن الحصول على أيَّة معلومة يريد معرفتها عن الإدارة العامة وطريقة عملها.
- الشفافية: وتعني علانية الإجراءات والأهداف ووضوح علاقة المنظمة مع عملائها.
- النزاهة: وهي تحلي المنظمة بالقيم الأخلاقية كالصدق والأمانة ومهنية العمل وسواها.
- زيادة ثقافة المجتمع وجعل الأجهزة الحكومية هي الحاكمة فيه بعيداً عن سلطة القبيلة والانقسامات.
- نشر التعليم الذي يُعرِّف بالحقوق والواجبات ويحارب الفساد.
- التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع مع تأمين تكافؤ الفرص وتكريس مبادئ العدالة.
- ترسيخ الديمقراطية وسيادة دولة القانون.
- نشر القيم الأخلاقية في المجتمع والحث على تنفيذ الواجبات ومعرفة الحقوق.
- منح الرواتب الكافية للحد من الرشوة والسرقة.
- استخدام نظم تقييم الأداء.
في الختام:
لقد صدق الفقيه "فالين" حين قال: "إنَّ الإدارة لا تساوي إلا ما يساويه الموظف العمومي الذي يمثلها ويتصرف باسمها"؛ إذ إنَّ أبرز ما يمكن أن ينجم عن الفساد الإداري هو الخلل والمشكلات التي تصيب أخلاقيات العمل وتقضي عليها شيئاً فشيئاً، إضافة إلى الوصول إلى مرحلة عَدِّ الفساد جزءاً طبيعياً من بنية المجتمعات وشيوع حالة ذهنية بتبرير وجوده وتسويغ استمراره؛ بل تجد له الذرائع التي تصوره على أنَّه شيء طبيعي وضروري لاستمرار حياة الإنسان والحصول على متطلبات الحياة، ففي الواقع هو آفة مهلكة وإذا لم نتصدَّ لها فإنَّها ستتكاثر بسرعة وتزداد فتكاً بالإنسان والمجتمع على حد سواء.
المصادر +
- إيثار عبود كاظم الفتلي، الفساد الإداري والمالي وآثاره الاقتصادية والاجتماعية في بلدان مختارة، جامعة كربلاء العراق 2009
- نورا عبد الغفار، الفساد.
- شريهان ممدوح حسن احمد، جهود مكافحة الفساد الإداري والمالي في المملكة العربية السعودية
أضف تعليقاً