بدأ هيريغل التدرُّب على (كيودو) وهو فنُّ الرماية الياباني الذي يُستخدَم في القتال، وتلقَّى تعليمه على يد رامٍ أسطوري يُدعى (آوا كينزو) الذي كان مقتنعاً بأنَّه ينبغي للمبتدئين إتقان أساسيات الرماية قبل محاولة إطلاق السهم على هدفٍ حقيقيٍّ، ومن ثم اعتماد هذه الطريقة.
خلال السنوات الأربع الأولى من تدريبه، سُمِح (لهيريغل) أن يُطلِق النار على أسطوانةٍ من القش على بعد سبعة أقدام فقط، وعندما اشتكى (هيريغل) من البطء الشديد لوتيرة التعلُّم، أجابه معلمه: "إنَّ الطريق إلى الهدف لا يُقاس، فما أهمية الأسابيع والأشهر أو حتى السنوات؟".
وعندما سمح له أخيراً بإطلاق سهامه على أهدافٍ أبعد، كان أداء (هيريغل) مزرياً؛ فقد انحرفَت السهامُ عن مسارها وقلَّت شجاعته وزاد إحباطه مع كل رمية، وظنَّ هيريغل أنَّ سبب مشكلته هو ضعف تحديده للهدف؛ ومع ذلك، نظر (كينزو) إلى تلميذه وأجاب بأنَّ الأمر لا يتعلق بالهدف، ولكن بالطريقة التي يتعامل بها المرء مع الهدف، والتي تحدد النتيجة بدورها.
أصيبَ (هيريغل) بالإحباط من هذه الإجابة وردَّ قائلاً: "إذاً عليك أن تصيب الهدف معصوبَ العينين"، توقَّف (كينزو) برهةً ثم قال: "تعال وشاهدني مساءً".
شاهد بالفيديو: 8 أخطاء شائعة في تحديد الأهداف
الرماية في الظلام:
عندما هبط الليل، عاد الرجلان إلى الساحة حيث قاعة التدريب، ومشى (كينزو) إلى مكان رمي السهام المعتاد في حين كان الهدف مخفيَّاً في الظلام.
قام (كينزو) بخطواته المعتادة حيث وقف في المكان المخصَّص للرمي واتخذ وضعية الرماية وسحب خيط القوس بإحكام وأطلق السهمَ الأول في الظلام. كتب (هيريغل) لاحقاً مستذكراً الحادث: "لقد عرفتُ من صوت السهم أنَّه أصاب الهدف".
تناول (كينزو) مباشرةً سهماً جديداً وأطلقه مجدَّداً في الظلام، وعندها قفز (هيريغل) على الفور وركض عبر الفناء للتحقق من الهدف، وذكَر في كتابه "فلسفة زن في فن الرماية" (Zen in the Art of Archery): "عندما أشعلتُ الأضواء عند الهدف، ذُهلتُ حينما اكتشفتُ أنَّ السهم الأول قد أصاب منتصف الهدف، في حين كسر السهمُ الثاني نهاية السهم الأول واستقرَّ بجانبه". لقد أصاب (كينزو) الهدف مرتين دون أن يكون قادراً على رؤيته.
كل شيء يشبه الرماية:
يقول الرُماة البارعون: "إنَّ كل شيءٍ في هذا العالم يشبه الرماية"؛ فمكان موضع قدميك والطريقة التي تمسك بها القوس وحتى طريقة تنفُّسك في أثناء إطلاق السهم تحدِّد النتيجة النهائية.
وفي حالة (آوا كينزو) فقد فهم الرامي المُتمرِّس بشكلٍ دقيق العمليةَ التي أدَّت إلى إصابة الهدف، لدرجة أنَّه كان قادراًعلى تكرار سلسلة الحركات الداخلية نفسها دون رؤية الهدف الخارجي. يعرَف هذا الوعي الكامل للجسم والعقل من حيث ارتباط الهدف باسم "زانشين".
تُستخدَم كلمة زانشين عادةً في جميع فنون الدفاع عن النفس اليابانية للإشارة إلى حالة اليقظة في أثناء الاسترخاء، وترجمتها الحرفية هي: خُلوُّ العقل من رسائل التذكير. أي وبعبارةٍ أخرى، هو تركيز العقل تركيزاً تاماً على العمل وعلى المهمة التي يؤديها، كما تعني أيضاً أن تكون واعياً باستمرار لجسدك وعقلك ومحيطك دون أن تُحِسَّ بالتوتر، إنَّها اليقظة بلا جهد.
لكن حينما يتعلق الأمر بالممارسة، فإنَّ مفهوم زانشين له معنى أعمق؛ وهو أن تقرِّر أن تحيا حياتك بشكلٍ مدروس، والتصرف بوعيٍ عوضاً عن أن تكون ضحيةَ أي شيءٍ يعترض طريقك دون أن تُحِس.
عدو التحسن:
هناك مثلٌ يابانيٌّ مشهورٌ يقول: "بعد الفوز في المعركة، أحكِم إغلاقَ خوذتك على رأسك"؛ وبمعنى آخر: لا تنتهي المعركة عندما تنتصر؛ إذ تصبح كسولاً وتفقد حسَّ الالتزام وتتوقَّف عن الانتباه. وهذا ما يعنيه فنُّ الزانشين أيضاً: أن تعيش متأهِّباً بصرف النظر عمَّا إذا كان الهدفُ قد تحقَّق بالفعل أم لا، ويمكن تطبيق هذه الفلسفة على جوانب عدة من الحياة:
- الكتابة: لا تنتهي المعركة عندما تنشر كتاباً؛ بل عندما تنظر إلى نفسك كمنتجٍ منتهي الصلاحية وتفقد اليقظة اللازمة لمواصلة تحسين حرفتك.
- اللياقة البدنية: لا تنتهي المعركة عندما تحقِّق رقماً قياسياً جديداً؛ بل عندما تفقد التركيز وتفوِّت التمارين أو عندما تفقد تركيزك وتبالغ في التمرين.
- ريادة الأعمال: المعركة لا تنتهي عندما تقوم بصفقة كبرى؛ بل عندما تغترُّ بنفسك وتتراخى.
إنَّ عدو التحسُّن ليس الفشلَ ولا النجاح؛ وإنَّما الملل والإجهاد وعدم التركيز وعدم الالتزام بالعملية لأنَّها كل شيء.
فن الزانشين في الحياة اليومية:
يقول كينيث كوشنر (Kenneth Kushner) مؤلف كتاب "سهم واحد، حياة واحدة" (One Arrow, One Life): "ينبغي للمرء أن يتعامل مع جميع الأنشطة والحالات بنفس الصدق والإحكام والوعي الذي يتعامل به مع القوس والسهم".
نحن نعيش في عالم مهووس بالنتائج ونميل للتركيز على ما إذا كان السهمُ قد أصاب الهدف أم لا كما هو الحال مع (هيريغل)، ولو وضعنا تلك الكثافة والتركيز والإخلاص في العملية - فعرفنا أين نضع أقدامنا وكيف نمسك القوس وكيف نتنفس في أثناء إطلاق السهم- ستكون إصابةُ الهدف تحصيلَ حاصل.
الفكرة هي ألَّا تشغل تفكيرك بإصابة الهدف؛ بل أن تُعوِّد نفسك على الملل الذي يرافق القيام بالعمل وأن تستمتع بسير العملية، وأن تأخذ لحظةَ الوعي الكامل والتركيز، لحظة الزانشين وتحملها معك أينما حللتَ في هذه الحياة.
إنَّ الهدفَ وخطَّ النهاية ليسا هامَّين بقدر الطريقة التي نقترب بها من الهدف، لأنَّ كل شيء له هدف؛ وهذا هو مفهوم زانشين.
أضف تعليقاً