في الحقيقة، هذا حال الجميع، حيث إنَّ التصور بأنَّنا نعي الحياة بطريقة لا يستطيعها أي شخص آخر ما هو إلَّا جانب متأصل في نفسياتنا، وهذا الانفصال الذي نشعر به موجود لدى جميع البشر حول العالم؛ وإليك أحد المعلومات التي يتداولها الناس، والتي قد تعكر صفوك: لم يتطور العقل البشري ليَبرع في فهم الحقيقة، بل ليَبرع في فهم ما هو أكثر فائدة للعقل البشري؛ ثم يوجهون إليك الضربة القاضية بهذه المعلومة المتداولة: لا يكون الأمر المفيد صحيحاً عادة، ويتضح من هنا أنَّنا لسنا موضوعيين كما ينبغي في معتقداتنا، وأنَّ تصوراتنا وتفكيرنا تتأثر بشدة بالانحيازات المعرفية.
لنفترض جدلاً أنَّك تنظر إلى صورة على شاشة الحاسوب لحفلة كبيرة تضم جمعاً غفيراً من الناس في مكان ما، والآن تخيل أنَّك تأمر الحاسوب كي يجعلك تصدق أنَّ كل شخص أشقر الشعر هو إنسان سيئ، فتعدِّل خوارزمية الحاسوب بحركة سريعة الصورة تدريجياً، فتضيف ملامح العجرفة والتعالي المكروهة على وجوههم؛ والآن تخيَّل أنَّك تأمر الحاسوب كي يُشعرك بأنَّك ثري، فيعدِّل بنقرة واحدة الملابس والمجوهرات وتسريحات الشعر لكل من في الصورة لتبدو بالية؛ ولنفترض الآن أنَّك تأمره أن يجعل هذه الحفلة مقيتة، ويقول لك: "شبيك لبيك"، وتنظر وإذ بهذه الحفلة تصبح كئيبة ومملة، ويتكاسل فيها الناس عن الحركة والتفاعل، ويحدقون في ساعات أيديهم كل حين.
هذا "الحاسوب" ليس إلَّا عقلك الباطن؛ فكما يفعل الحاسوب، فإنَّ عقلك الباطن يغيِّر نظرتك إلى الأمور بطرائق يمكن التنبؤ بها إلى حد بعيد؛ فتجاربنا ما هي إلَّا تعبير عن مزاجنا حينها، حيث تلفت الأشياء نظرنا حسب طبيعة هوياتنا، ونفسِّر الأمور بما يرضي مصلحتنا الذاتية؛ لذا عندما نفكر فيما إذا كان بإمكان الناس فقط رؤية ما نراه صحيحاً، فإنَّنا نقصد بذلك في الواقع أنَّ الناس ليس بمقدورهم رؤية ما نراه بالضبط؛ فقد يرى شخصان المشهد نفسه من الحفلة، لكنَّ "برنامج التصميم الغرافيكي الداخلي" لديهما يحوره بطرائق مختلفة تماماً.
يسمي علماء النفس "برنامج التصميم الغرافيكي" لعقولنا بـ (الانحيازات المعرفية)، والتي يشترك البشر جميعاً بامتلاكها؛ وسنقدم فيما يأتي ملخصاً لبعض الانحيازات المعرفية الأشهر، وتأثيرها في تصوراتنا وتفكيرنا، حيث يعدُّ فهم هذه الانحيازات أمراً هاماً كي نكف عن خداع أنفسنا بها، إضافة إلى تعلم التعاطف، وتفهم وجهات نظر الآخرين.
هذه القائمة من الانحيازات، وما هي إلَّا غيض من فيض؛ ولكنَّها أكثرها شيوعاً وأهمية، والتي كثيراً ما ننجر إلى الوقوع فيها:
1. الانحياز التأكيدي:
تعريفه: هو عملية البحث عن "الحقائق" التي تدعم المعتقدات التي نمتلكها مسبقاً، وتجاهل أي معلومات تقول العكس في الوقت نفسه.
قد يكون هذا انتقائياً؛ ورغم أنَّ انتقاء الحقائق لدعم وجهات نظر الفرد عادة ما يكون بمحض إرادتنا، لكن يحدث الانحياز التأكيدي في الحقيقة في اللاوعي؛ فمثلاً: إن اعتقدت أنَّ الأصفر هو لونك الجالب للحظ، فستبدأ فعلاً ملاحظة اللون الأصفر في كثير من الأحيان؛ ولا يعني هذا أنَّك على خطأ، إذ توجد العديد من الأشياء ذات اللون الأصفر في حياتك، وقد يكون بعضها حاضراً في تجاربك الإيجابية.
إذاً، لا تتعلق مشكلة الانحياز التأكيدي بكونك على خطأ، بل بعدم رؤيتك للمنظور الأشمل.
تكمن الحقيقة المذهلة والغريبة حول الانحياز التأكيدي في كونه يستشري عندما تصبح المعلومات متاحةً أكثر للناس؛ وقد يبدو هذا غير منطقي للوهلة الأولى، إذ يجب أن يحسِّن اكتساب مزيد من المعلومات معتقداتنا ويمنحها مصداقية أكبر، أليس كذلك؟
لكنَّ الأمر ليس كذلك في الواقع، إذ يحدث العكس بوجود الانحياز التأكيدي؛ فكلما ازادد كم المعلومات، ازدادت فرص انتقاء "الحقائق" التي تدعم معتقداتنا؛ لذا يؤدي اكتساب مزيد من المعلومات "المنتقاة" إلى تعزيزها.
يُفسِّر ذلك باختصار سبب كون الإنترنت مرتعاً قذراً للخطاب السياسي؛ فبدلاً من تغيير معتقداتنا للتكيف مع المعلومات الجديدة، نوائم المعلومات الجديدة وننتقيها لتتناسب مع معتقداتنا السابقة.
في الواقع، أدت سهولة الوصول إلى الانحياز التأكيدي عبر الإنترنت إلى إنشاء ما يسميه الباحثون "غُرف الصدى"، حيث يحصل الأشخاص باستمرار على معلومات تدعم وجهات نظرهم المترسخة لديهم مسبقاً ولا شيء غيرها، والتي تستفيد منها الشركات التقنية الضخمة كونها تبقي عملاءها في غفلة، رغم أنَّ هذه المعلومات بعيدة كل البعد عن الحقيقة.
كيف يجعلك الانحياز التأكيدي شخصاً أحمقاً؟
يزيد الانحياز التأكيدي من ثقتك بمعتقداتك على وجه العموم، ممَّا يجعل الحديث معك حول أي موضوع مهما كان عادياً أمراً لا يُطاق، وستظن أنَّ الأدلة تدعم قولك، وتتجاهل كلياً كل الأدلة التي تدحض وجهة نظرك.
وبالمثل، ستكون لدى الشخص الذي تحاوره على أرض الواقع أو على منصات التواصل الاجتماعي العقلية نفسه، فيلاحظ جميع الأدلة التي تدعم موقفه، بينما يتجاهل الأدلة التي تدعم موقفك تماماً؛ وستنظران إلى الصورة نفسها، لكن يراها كلٌّ منكما على هواه؛ ولكن توجد طرائق أبسط يُضَّلل فيها الانحياز التأكيدي حياتنا على حد سواء.
على سبيل المثال: يمكن أن يلعب الانحياز التأكيدي دوراً في تحديد نوع الأشخاص الذين نبني علاقات معهم في حياتنا؛ فإن وضعت صوراً نمطية للأشخاص، كأن تنظر إلى الرجال جميعهم على أنَّهم انتهازيون مثلاً، فمن المرجح ألَّا تصادف في حياتك إلَّا نماذج عن الصورة النمطية نفسها؛ ويرجع السبب في ذلك إلى أنَّك لن تلاحظ إلَّا السلوك الذي وسمته للأشخاص، فمثلاً: لن تلاحظ إلَّا الانتهازية في الرجال، متجاهلاً كل الأشخاص المهتمين والمتعاطفين الذين يمكن أن تقابلهم.
أيضاً، إن كنت تنظر إلى الحياة نظرةً تشاؤمية، ولا ترى إلَّا النصف الفارغ من كأسك، لن تعرف طعم الهناء في حياتك، ولن تملأ كل سعادة الكون كأسك.
إنَّ أفضل من يمثل الانحياز التأكيدي أصدق تمثيل هو الأمهات كثيرات الشكوى من تصرفات أبنائهن، فهن يدَّعين معرفتهن لما هو صحيح، مع أنَّهن في الواقع كثيراً ما يكنَّ على خطأ.
2. الانحياز إلى السلبية:
تعريفه: الانحياز إلى السلبية هو الميل إلى رؤية الجوانب السلبية من الأمور، وإغفال الإيجابيات؛ ويمكن إدراجه تحت فئة التشاؤم، لكنَّه لا يتعلق بالاعتقاد بأنَّ الأمور ستؤول إلى الأسوأ فحسب؛ فهو في الواقع ملاحظة الأمور السيئة وإيلاء أهمية أكبر لها على حساب نظيرتها الحسنة.
إن نظرنا إلى الأمر من منظور التطور، فسنجدها استراتيجية للتكيُّف؛ فرجل الكهف الذي لاحظ احتمالية وقوع مشكلة أو أزمة ما هو ذاته رجل الكهف الذي نجا؛ وفي المقابل، رجل الكهف الذي كان دائم الامتنان لهذا العالم الجميل من حوله وأتاح له تذوق الفاكهة الشهية، هو من افترسته الحيوانات الضارية.
يظهر انحياز السلبية في عدة أشكال؛ فنحن نعي تماماً أنَّ فقدان شيء ما أكثر إيلاماً من متعة نيله، ونأخذ التغذية الراجعة السلبية على محمل الجد أكثر من نظيرتها الإيجابية، كما نجري وراء التنبؤات السوداوية ونصدقها أكثر مما نفعل مع نظيرتها الإيجابية، ونكوِّن انطباعات سلبية، ونصدِّق أنَّ الصور النمطية السلبية أكثر من الإيجابية؛ وعند الحكم على شخصية شخص ما، ترجح كفة السلوكات السلبية لديه مقارنة بكثير من نظيرتها الإيجابية؛ وتطول القائمة.
رسم بياني يصف "النفور من الخسارة" أو الميل إلى التحيز لتجنب الخسارة مقابل تحقيق المكاسب
في الواقع، وجد علماء النفس في كل مجال بحثوا فيه أنَّ عقولنا بطبيعتها تهتم أكثر للتجارب السلبية.
كيف يجعلك الانحياز إلى السلبية شخصاً أحمقاً؟
يكمن الخطر في الانحياز للسلبية في أنَّنا نفقد منظورنا لما يُعد مشكلة حقيقية، وما هو مشكلة في منظورنا فقط؛ كمثَل المتعجرف الذي يعيش حياة من الرفاهية، وينفجر غاضباً بوجه النادل إن أخطأ في طلبه؛ أو الفتاة التي تتذمر من عدم تفعيل شبكة الواي فاي على متن الطائرة، غافلةً عن أهمية السفر الجوي الذي يعدُّ نقلةً نوعيةً في المواصلات.
ليست تلك مجرد مضايقات بسيطة في الحياة، حيث يتسلل الانحياز إلى السلبية إلى بعض أكثر تفاصيل حياتنا خصوصية، ويظهر جلياً عندما تتعرف على شخص مذهل لكنَّك تكوِّن نظرة عنه بأنَّه شخص مهمِل بناء على حذائه المتسخ، وتتحاشاه؛ وأيضاً عندما تتجاهل كمَّ المزايا الرائعة للعلاقة التي يسهم بها شريكك، لكنَّك تتجاهلها جميعها بسبب هوسك بتغيير أمر لا ينال رضاك.
يمكن أن يمتد الانحياز إلى السلبية إلى المجال المهني والمجتمعات أيضاً، ويوجد قول مأثور متعارف عليه في مجال الإدارة مفاده أنَّ الموظفين سيستمرون بالشكوى حتى لو تحسنت الظروف؛ فشكوى الموظفين باقية مهما حاولت إرضاءهم.
نلاحظ أنَّ ثقافة الشكوى منتشرة حول العالم بكثرة، رغم وجود الكثير من الأدلة التي تشير إلى درجة التقدم الملحوظ في جميع المجالات؛ وقد نتناسى ذلك، لكن انظر إلى وضع العالم الآن كيف تغير في غضون سنوات من عالم تسود فيه العبودية والفقر المدقع والحروب الطاحنة عبر القارات وملايين الضحايا إلى ما عليه الآن؛ فنحن لا نعي أنَّ الحياة في يومنا هذا قد قطعت أشواطاً بعيدة من ناحية الرفاهية والرخاء؛ ومع ذلك، إن أمضيت بضع ساعات على منصات التواصل الاجتماعي، فستعتقد أنَّ نهاية العالم قد اقتربت.
أصدق من يمثل الانحياز إلى السلبية هو ابنتك المراهقة الجاحدة، فأنت توفر لها الملابس والطعام والمسكن والتعليم والمال لجميع أنواع الأنشطة والهوايات، ومع ذلك لا تزال تقول أنَّك "دمرت حياتها" لأنَّك ربما لم تكن بكامل أناقتك أمام صديقاتها.
3. الانحياز إلى الدوافع الخارجية:
تعريفه: الانحياز إلى الدوافع الخارجية هو استجابة البشر الكبيرة للمكافآت والعقوبات، حيث يرتفع لدينا مستوى الحماسة لدى نيل مكافأةً على إنجازاتنا، وننأى بأنفسنا عما يسبب لنا الخطر، ونتوعد من لا يمنحنا امتيازات أفضل وربما نعاقبه؛ وكما قال الكاتب "أبتون سنكلير" (Upton Sinclair): "من الصعب أن تجعل رجلاً يفهم أمراً ما عندما يُبنى دخله على عدم فهمه له".
يدفعنا الانحياز إلى الدوافع الخارجية إلى اتخاذ قرارات غير عقلانية أو غير حكيمة أو غير أخلاقية، مدفوعين بحوافزنا الخاصة.
تستمر حلقة من السببية في الدوران في أذهاننا، فنشعر بمشاعر طيبة تجاه الأمور التي تعمل لمصلحتنا، ونشعر بمشاعر سيئة تجاه نظيرتها التي لا تنفعنا؛ وبالمثل، فإنَّنا نميل إلى تبرير الأسباب لتعزيز المشاعر الطبية، واختلاق أسباب لتجنب كل ما يمنحنا مشاعر سيئة؛ فإن كنا نختار حوافزنا تبعاً للفائدة التي سنجنيها منها، فستعمل عقولنا على إقناعنا بأنَّ هذا الأمر فيه خير لنا، وكثيراً ما يتجاهل الأشخاص العاديون المعايير الأخلاقية أو الاجتماعية على نطاق أوسع لتحقيق المكاسب الفورية من الأفعال الشانئة.
إنَّه لمن السهل علينا الجلوس والقول من منبرنا هذا: "يا لهم من مجموعة من الأشخاص السيئين، من المستحيل أن أتصرف مثلهم!"، لكنَّنا في الحقيقة قد لا نتوانى عن تلك الأفعال؛ فكل ما هنالك أنََّنا لا نستطيع رؤية كيف نفعل ذلك، أو أنَّ عقولنا تحجب عنا رؤيته.
كيف يجعلك الانحياز إلى الدوافع الخارجية شخصاً أحمقاً؟
لا يجعلنا الانحياز إلى الدوافع الخارجية أشخاصاً سيئين بقدر ما يرينا مدى شناعة تصرفاتنا في ظل ظروف معينة، فمثلاً: قد يجد المدير التنفيذي حافزاً بأسعار الأسهم الملائمة و(مظلة الهبوط الذهبية) للقيام بمجازفات قصيرة الأمد على حساب سلامة الشركة على الأمد البعيد، وربَّما يجني مزيداً من الأرباح لنفسه في الوقت الراهن معرِّضاً الشركة بأكملها إلى الخطر مع الوقت.
أو مثلاً: نظام السجون السيئ في الولايات المتحدة، وحتى مراكز الاحتجاز التي تُجهَّز لإبقاء مزيد من الأشخاص في السجن لفترات أطول، وعدم تشجيع إعادة التأهيل أو التعليم الذي قد يمنع السجناء من ارتكاب الجرائم في المستقبل.
عندما نتمادى في الانحياز إلى الدوافع الخارجية، لا نتحول إلى أشخاص سيئين فحسب، ولكن ربما إلى وحوش؛ لكن انظر إلى الناحية المشرقة، يمكننا تصميم أنظمة أكثر ذكاء تُبعِد الحوافز السيئة، وتعزز الجيدة؛ وكما نرى من خلال الانحياز إلى الدوافع الخارجية، يستجيب البشر لسياسة الترهيب والترغيب، وكل ما علينا فعله هو التفكير ملياً في وقت وكيفية استخدامها.
أصدق من يمثل هذا الانحياز هو الشخص الذي يكسب أموالاً طائلةً بطرائق ملتوية ويشتري العقارات هنا وهناك، لكنَّه دائم إلقاء المواعظ عن عدم نجاح الأشخاص بسبب كسلهم.
4. انحياز الفاعل - المراقِب:
تعريفه: انحياز الفاعل - المراقِب هو الميل إلى أن نعزو سلوكنا السلبي إلى أسباب خارجية بعيدة عن نطاق سيطرتنا، في حين نعزو سلوك الآخرين السلبي إلى أسباب داخلية خاضعة إلى نطاق سيطرتهم؛ فإن أخفقت في القيام بأمر ما، تحاول إيجاد الذرائع الذي تُبعد عنك اللوم؛ لكن إن أخفق أحدهم مرتكباً خطأك نفسه، فمن المحتمل أن تلقي عليه اللائمة، متهماً إيَّاه بكونه شخصاً سيئاً.
كذلك الأمر عندما تقود السيارة وترتكب مخالفة مرورية، فتبرر مخالفتك بأسباب قاهرة، وتلوم الآخرين إن ارتكبوا المخالفة نفسها، وتنعتهم بأبشع الصفات.
كيف يجعلك انحياز الفاعل - المراقب شخصاً أحمقاً؟
قد لا تدرك ذلك، لكن يحوِّلك انحياز الفاعل - المراقب إلى شخص بغيض وسيئ جداً، ويتجلى ذلك في أكثر من شكل، والأمثلة لا حصر لها؛ فعلى سبيل المثال: يحدث ذلك عندما تتجادل مع شريكك، وتبرر سلوكك السيئ، وتؤنبه على سلوكه.
قد تبرر بعض حالات الغش في الامتحان في المدرسة لأنَّ المسؤوليات الملقاة على عاتقك منعتك من الدراسة، ولكن عندما يُكتشَف غش طالب آخر، تأخذ بإطلاق الأحكام؛ أو قد تصل متأخراً وتلقي اللائمة على حركة المرور، في حين أنَّه عندما يتأخر أصدقاؤك عن موعدهم، تعدُّ ذلك امتهاناً لكرامتك كإنسان.
أصدق من يمثل انحياز الفاعل - المراقب هو أخوك الأكبر منك سناً ذو الطباع السيئة، والذي اعتاد ضربك في كل مرة أزعجته فيها أو عبثت بأشيائه، ولكنَّك تنتقم منه شر انتقام، فتصبح أنت الابن العاق والبذرة غير الصالحة في نظر والديك.
5. انحياز الإسناد إلى المجموعة:
تعريفه: هو التحيز الذي يدفعنا إلى افتراض أنَّ سمات الشخص مشابهة لسمات المجموعة أو المجموعات التي ينتمي إليها، وتعدُّ الصور النمطية القائمة على العرق أو الجنس أكثر الأمثلة وضوحاً على انحياز الإسناد إلى المجموعة.
من الجدير بالذكر هنا أنَّ عقلك يستهلك كثيراً من الطاقة، وتوجد الكثير من البيانات والمعلومات الحسية التي يجب التدقيق فيها؛ ونتيجةً لذلك، فإنَّ كل هذه التحيزات المعرفية هي بمثابة اختصارات يستخدمها الدماغ لتوفير الوقت والطاقة.
كيف يجعلك انحياز إسناد المجموعة شخصاً أحمقاً؟
إنَّه لمن الواضح أنَّ تحيز الإسناد الجماعي يجعلنا بسهولة عنصريين أو متحيزين جنسياً، وهذا سلوك ينمُّ عن حماقة واضحة؛ لكن لا يكمن الشيء الغريب في انحياز إسناد المجموعة في أنََّنا نقع ضحية له، لأنَّنا جميعاً نفعل ذلك أحياناً؛ وإذا اعتقدت أنَّك لا تفعل ذلك، فمن المحتمل أنَّ هناك سبباً (أو تحيزاً) يفسر ذلك.
تعدُّ الطريقة التي نحاول بها الاستفادة من انحياز إسناد المجموعة لصالحنا أكثر الأمور إثارة للاهتمام، حيث يعدُّ ذلك سمة متأصلة في الطبيعة البشرية؛ فنحن لا نحكم على الآخرين كونهم عناصر من المجموعات المتصوَّرة حتى لو لم يكونوا مثل تلك المجموعات مطلقاً، ولكنَّنا نرغب أن ننتمي اجتماعياً إلى المجموعات التي ترفع من معنوياتنا وقيمتنا كأشخاص.
بعبارة أخرى: نحن نحاول التلاعب بانحياز الإسناد إلى المجموعة لأشخاص آخرين لجعله يصب في صالحنا، فنشتري الملابس والسيارات ونتظاهر بالبذخ لنظهر للعالم أنَّنا راقون أو رائعون جداً أو عصريون، ونمضي الوقت مع المجموعات التي نريد أن يظن الآخرون أنَّنا ننتمي إليها، معتقدين أنَّها ستمنحنا الألق؛ فنحن نستخدم لغة عامية وتعبيرات تتناسب مع مجموعتنا المفضلة على أمل أن يرانا الآخرون كجزء من تلك المجموعة الاجتماعية.
لا حرج في قضاء الوقت مع الأشخاص الذين يرفعون مكانتك الاجتماعية؛ لكن تكمن المشكلة عندما تستغلهم لتسلق السلم الاجتماعي، مما يجعلك شخصاً مُستغلاً وانتهازياً؛ وبالمثل، لا حرج في الإشارة إلى أنَّ بعض الأشخاص جزء من مجموعة أو فئة أوسع؛ لكن عندما تحكم عليهم كأفراد مثلما تحكم على المجموعة (بتعصب أعمى)، فهذا دليل على أنَّك تواجه مشكلة؛ لذا ببساطة، تعامل مع كل فرد على أنَّه غاية في حد ذاته، وليس وسيلة لتحقيق غاية أخرى.
أصدق من يمثل هذا التحيز هو جدك العنصري الذي يقول شيئاً مهيناً لمجموعة ما، ثم يخفض الجميع رأسه ويتظاهرون أنَّهم لم يسمعوه يقول ذلك.
هل يمكننا التغلب على انحيازاتنا المعرفية؟
لقد أصبحنا ندرك الآن الانحيازات المعرفية لدينا، لذا لا ينبغي أن تعد مشكلة بعد الآن، أليس كذلك؟
في الحقيقة، هذه التحيزات المعرفية سمة متأصلة في الطبيعة البشرية، ولا يمكن إيقافها بنقرة زر؛ لذا فإنَّ إدراكها لا يكفي، بل يجب أن نبقى على دراية بها، خاصة في الأوقات الحاسمة التي نقع فيها ضحية لها؛ لذلك، ربما تكون أفضل أداة لإدارة تحيزاتك هي قدرتك على أن تكون أكثر وعياً ويقظةً في حياتك.
نعلم أنَّ اليقظة الذهنية قد أصبحت كلمة طنانة عامةً يُفترَض بها أن تعالج المجتمع من كل العلل وغيرها؛ ولكن ما نتحدث عنه هنا هو تطوير حالة ثابتة من الوعي الذاتي، حيث يمكنك تحديد أفكارك ومعتقداتك والنظر فيها والتساؤل عنها باستمرار.
إنَّ ملاحظة انحيازاتك هي الخطوة الأولى في التعامل معها بصورة أكثر فاعلية؛ لكنَّ كونك أكثر وعياً بذاتك لا يعني بالضرورة أنَّك ستلاحظ تحيزاتك عندما تظهر، بل يعني أن تتعمق أكثر وتفهم لماذا يبدو أنَّك تفقد السيطرة على أفكارك ومشاعرك عندما تواجه تلك الانحيازات.
هذه بعض الأمثلة:
- لماذا أنت عرضة إلى الانحياز إلى السلبية ولا ترى سوى الجانب السلبي لكل شيء؟ ربما لديك بعض الاستياء العالق، والذي تحتاج إلى العمل عليه.
- لماذا تنغمس في الاعتقاد بأنَّك على حق طوال الوقت؟ ربما يكون لديك مخاوف عميقة حول ذكائك تحاول التستر عليها.
- هل انحياز الإسناد إلى المجموعة يخدم حاجة ماسة للتفوق؟ هل الرغبة في الشعور بأنَّك تنتمي إلى مجموعة ما قوية لدرجة أنَّك على استعداد لتشويه صورة مجموعة أخرى من أجل الشعور بالانتماء؟
إنَّ التحيزات المعرفية لدينا هي جزء لا يتجزأ من إدراكنا؛ لذا إنَّ أفضل ما يمكننا فعله هو تعلُّم ترويضها، وجعلها تحت السيطرة لنستفيد منها، وإلَّا سيطرت علينا كلياً.
أضف تعليقاً