وعلى المقلب الآخر، وفي منتصف الثمانينيات تحديداً؛ يتصدر عملاق ياباني شركات التكنولوجيا الأكثر إبداعاً في مجاله، ليتوّج ذلك بإنتاج كمبيوتر (T1100) المحمول، والذي كان طرازاً فريداً من نوعه يضاهي الحاسوب المكتبي في أدائه. حديثنا عن عملاق التكنولوجيا توشيبا (Toshiba). ولكن بدأ يتدهور وتهبط نتائجه المالية إلى أن تراكمت ديونه، فاضطر في عام 2017 إلى بيع أحد أفضل منتجاته وهي "رقاقة الذاكرة"، إلى شركات منافسة.
وفي هذا الصدد؛ تحدث الصحفي الأسيوي المتخصص في مجال التكنولوجيا جوش هورويتز (Josh Horwitz) قائلاً: "لقد استغرق الأمر 70 عاماً من توشيبا للوصول إلى ذروتها، وعقد فقط للوقوع في الهاوية".
شهد العقد الأول من الألفية الثانية ظهورَ عملاقٍ فنلندي آخر من عمالقة التكنولوجيا: إنّه نوكيا. كانت شركة نوكيا في العام 2007، تستحوذ على نسبة 40% من مبيعات الهواتف المحمولة حول العالم، ووصل بها الأمر لدرجة الادّعاء بأنَّ جهاز نوكيا قد دخل كل بيت في العالم. لتتحوَّل بعد ذلك تفضيلات المستخدمين إلى الهواتف الذكيّة التي تعمل بتقنية اللّمس؛ ممّا أدّى لتقلّص الحصة السوقيّة للشركة سريعاً، وتراجع الإيرادات تراجعاً حاداً أوصل الشركة العريقة ورائدة صناعة الهواتف المحمولة، إلى بيع قسم صناعة الهواتف ضمن الشركة إلى شركة مايكروسوفت، لتختفي بعدها شركة نوكيا تقريباً.
السؤال المهم هنا هو كالآتي: لماذا فشل هؤلاء العمالقة؟
قد تتفاوت الأسباب من شركة إلى أخرى، ومن زمنٍ إلى زمن؛ ولكن تظلّ هناك أسبابٌ رئيسةٌ تُلخّص أسباب فشل أيّ شركة؛ وقد تمّ تصنيفها إلى:
- أسباب تتعلق بالشركة نفسها، وثقافتها التنظيمية وأنماط القيادة فيها.
- أسباب تتعلق بمجال عمل الشركة والمنافسين، ومراقبة تغييرات السوق.
- أسباب تتعلق بالمنطقة الجغرافية التي تنشط فيها الشركة، والثقافة السائدة وأنماط المستهلكين فيها.
جرت دراسةُ هذه الأسباب من قبل العديد من المؤسسات وبيوت الخبرة والمفكرين، ولكنّ هناك أسبابٌ خفيّةٌ سنتطرق إليها في هذا المقال، ومن أهمها:
الإبداع التقليدي والإبداع المُدمّر:
في كتاب "معضلة المبتكر" -نُشر في عام 1997- تحدث أستاذ جامعة هارفارد والمؤلف كلايتون كريستنسن (Clayton Christensen) عن وجود نوعين من الابتكار في عالم الأعمال؛ الابتكار التقليدي والابتكار المدمر.
أحدث هذا الكتاب تأثيراً عميقاً في طرائق تفكير المبدعين في مجالَي الابتكار والتكنولوجيا؛ حيث ناقش المؤلف دواعي فشلِ الشركات الكبرى في ظلّ ظروف التغيير التكنولوجي، وربَطَهُ بالإبداع التقليدي والإبداع المدمر.
فالابداع التقليديّ والذي يحدث (ضمن الاطار المؤسسي)، هو عبارة عن عملية ابتكارية لتحسين العمليات المتّبعة في الشركات ضمن إطار زمني يمكن التنبؤ به؛ مع المحافظة على الطرائق التقليدية للابتكار والإبداع في بيئة عمل الشركة، وفي خضمِّ سياساتها وإجراءاتها المعتادة: فهو إبداعٌ مرتبطٌ بالمؤسسة وتقاليدها. يسعى المبتكرون في هذا النوع من الإبداع إلى التركيز على مطالب العملاء الحاليين. وتتعلّق التغييرات التي تطرأ على المنتجات برغبات هؤلاء العملاء، وتلبية احتياجاتهم باعتبارهم عملاء أكثر ربحية للشركات.
أمّا الابداع المدمّر (خارج الإطار المؤسسي)؛ فهو الذي يمكن أن يؤثّر بشكلٍ كبيرٍ على وظائف السوق وتوازنه، أو يُحْدِثَ تغييراً جذرياً في مجاله. فهو يخلق سوقاً جديدةً وأنظمة قيمية مبتكرةً تؤدي في النهاية إلى إحداث تغييرات جذريّة في السوق، بحيث تقود إلى تعطيل معطياته الحالية وإزاحة الشركات الرائدة فيه، وانخفاض الطلب على منتجاتها التقليدية. فالإبداع المدمر يزحزح أصحابه ويُخرجهم من دائرة الأمان، إلى دوائر الخوف والتعلّم والتحدّي.
يُعدُّ الخروج من دائرة الأمان بواسطة الإبداع المدمر خياراً غير مرحبٍ به عادة في الشركات الكُبرى بسبب:
- المخاطرة العالية واحتمالية الفشل مقارنةً بالابتكارات التقليدية؛ فهي توفر في البداية أداءً أقلَّ مقارنةً بما تتطلّبه السوق السائدة تاريخياً.
- مخالفة خصائص الأداء الأخرى للابتكارات التقليدية مثل: جعل الابتكار أصغر حجماً أو أسرع أداءً أو أكثر سهولةً في الاستخدام وما إلى ذلك؛ وهذا ما لا يُقدِّرهُ العملاء الحاليون للشركات؛ في حين قد يزدهر ازدهاراً سريعاً ومذهلاً من خلال شبكة عملاء جديدة.
- إيمان الكثير من أصحاب الإبداع التقليدي بأنَّه مع تَحَسُنِ الابتكارات وفقاً لمعايير الأداء التقليدية، فإنَّها تحلُّ في النهاية محل التكنولوجيات السابقة بشكلٍ طبيعيّ؛ وهو ما لا يستدعي المجازفة والخوض في مضمارٍ جديدٍ وغامض.
وإنَّنا في هذا الصدد، نرفِقُ ما قاله دون ستريكلاند نائب رئيس كوداك السابق:
"لقد طوّرنا أول كاميرا رقمية للمستهلكين في العالم، لكن لم نتمكّن من الحصول على موافقة تُمكننا من إطلاقها أو بيعها؛ بسبب الخوف من التأثيرات على سوق الأفلام".
الذي لم يُدركه أصحاب الشركات الكبرى -ومنها كوداك- في حينه؛ أنَّه وبمجرد تطوير المنتجات وفقاً لمفهوم الإبداع المدمّر، فإنَّ هذه الابتكارات تحقق اختراقاً أسرع، وتبني درجةً أعلى من التأثير على الأسواق الحالية، وتغيِّر معادلات الأسواق الحالية تغييراً مذهلاً. تخّيل معنا كيف سيكون وضع كوداك لو كانت قد تبنَّت الكاميرات الرقمية في حينه!!
إليك نماذج من الإبداعات المدمّرة التي تخطت كافة الإبداعات التقليدية:
- ويكيبيديا مقابل الموسوعات التقليدية.
- أيباد مقابل أجهزة الكمبيوتر المحمولة.
- خرائط جوجل مقابل نظام الملاحة والخرائط الورقية.
- نظام سكايب لاتصالات الفيديو مقابل نظام الاتصالات التقليدي.
- نتفليكس مقابل CD/DVD.
- أمازون مقابل سلاسل المكتبات ودور الثقافة التقليدية.
- أوبر Uber مقابل خدمة سيارات الأجرة.
للخروج من تلك المآزق؛ ينبغي للشركات الكبيرة أن توفّر بيئة عملٍ مبتكرةً تسمح للمبتكرين بمتابعة الإبداع المدمّر متى ما وُجد، وتشجيع بذوره عندما يبرز في الشركات، وعدم القلق من أنَّه غير مُربح للشركات في البداية. إضافة إلى ذلك؛ قد يترتب على الشركات تحمل تكاليف إضافية حتى ينضُجَ المنتج المبتكر وتكتمل صورته لدى العملاء وتُجنَى ثماره.
أمرٌ آخر ملاحظ، وهو أنَّ معظم الشركات الكبرى لا تشجع الابتكارات المدمرة؛ لأنَّ هذه الابتكارات لا تُرضي عملائها الحاليين؛ فهي تبحث عن مطالب عملائها المعتادة. فإذا كان العملاء يريدون منتجاتٍ أفضل، فسوف يستمرون في تطوير المنتجات وفقاً لذلك.
كما ينبغي للشركات أن تستمع للعملاء المحتملين أيضاً، وتُعيرَ انتباهها لمطالبهم ولا تظل أسيرةً لعملائها الأكثر جلباً للأرباح؛ فقد يكون العملاء المحتملين هم العملاء المستقبليين للشركة، ووقود استمرارها لعقودٍ قادمة.
علاوة على ذلك، يمكن للابتكار المدمّر أن يحرق موارد الشركة الداخلية والضخمة، بعكس الابتكار التقليدي. وبالرغم من هذه الحقيقة المرّة؛ فإنَّه من الضرورة بمكان، تشجيع هذا الإبداع من أجل مواجهة المنافسة الشرسة، والبقاء في سوقٍ مليئةٍ بالتحديات والفرص كل يوم.
فقدان البوصلة:
سببٌ آخر ورئيس يقود الشركات العملاقة للسقوط؛ ألا وهو فقدان البوصلة. من خلال دراسة تاريخ هذه الشركات العملاقة نجد أنَّها قد سلكت نفس المسار التاريخي تقريباً: تبدأ بفكرة مبتكرة تقودها عاطفة المؤسس، لتتحوّل الفكرة إلى رؤية عظيمة؛ حيث تُحَوّل عاطفة المؤسس الرؤية إلى أنظمة وسياسات وإجراءات تُبنى عليها العمليات؛ مما يسمح لها بالنمو والنجاح. كما تمنح روح القائد المؤسس وحماسه الشركة طاقةً للاستمرار والنمو.
وبمرور الزمن، يتسلّم الدفّة صفٌّ ثانٍ من القادة؛ ويصبحون مهووسين بالأرقام والنتائج وكيفية الوصول إليها من خلال تطبيق استراتيجيات وتكتيكاتٍ مبتكرة، متناسين البوصلة والسبب الرئيس لتأسيس الشركة في المقام الأول.
لقد طُوِّرَت الاستراتيجيات للنهوض بالأسباب وقياس النتائج ومراقبة التقدم المحقّق في سبيل تحقيق رؤية الشركة، والوصول إلى غايتها. وعندما يجري نسيان ذلك، تتطور الاستراتيجيات لتعزيز النتائج فقط؛ وتضمحل الرؤية من عقول القادة. وهنا يحدث ما يسمى "بفقدان البوصلة".
لا يمكننا أن ننكر أهمية المال أو الخبرة كمحركات قوية تدفع بالشركة للانطلاق قُدُمَاً، ولكن في حالة معظم الشركات؛ فلم تكُن تلك المحركات موجودةً في البداية دائماً. على سبيل المثال: بدأت كل من Apple وMicrosoft وGoogle وAOL وFacebook وغيرها منذ 20 عاماً دون أيّ خبرةٍ في الأعمال التجاريّة الكبيرة، أو من دون وجود رأس مالٍ كبير.
تبدو الرؤية مرتبطة بكاريزما الشخصية للقائد المؤسس؛ حيث يُمثل المؤسس رمزاً حياً لغاية وجود الشركة ورؤيتها، وموجهاً روحياً لبوصلتها. ولكنَّ رحيل القائد المؤسس ليس هو السبب في التراجع بحد ذاته؛ وإنَّما هو الفشل في توضيح الغاية التي قد أُسِّسَتْ الشركة من أجل تحقيقها. إنَّها عدم القدرة على استخراج "لماذا" من عقل القائد المؤسس، ودمجه في نسيج الشركة وصُلبِ عملياتها.
وأهم من ذلك، عدم وجود صف ثانٍ من القادة يتبنّون رؤية المؤسس، ويتوارثون البوصلة من أجل قيادةٍ أفضلَ للشركة؛ بدلاً من محاولة إعادة قولبتها وفقاً لرغباتهم، وهو ما قد يزيد الأمر سوءاً.
كيف نتجنَّبُ فقدان البوصلة؟
للتغلّب على محاولات تشويه رؤية المؤسس وفقدان البوصلة، يجب بناء أنظمة لتذكير كل منْ في الشركة وخارجها بالسبب الذي أُسِّسَت الشركة من أجله، ومعرفة المبدأ أو الغرض أو البوصلة التي قادت المؤسس وألهمت الجميع للتغلب على المخاطر، وساعدتهم في التغلب على جميع العقبات؛ رغم النقص الهائل في الخبرات والإمكانيات.
يمكن للشركات بالتأكيد، أن تنجو من السقوط من خلال بناء آلياتٍ تُذكِّرْ أولئك الذين يعملون داخل وخارج الشركة، بالسبب الذي من أجله تأسست الشركة في المقام الأول؛ وترديد صدى تلك الرؤية في أرجاء الشركة جيلاً بعد جيل.
أضف تعليقاً