ما هو اضطراب الهوية التفارقي؟
اضطراب الهوية التفارقي dissociative identity disorder، الذي كان يدعى فيما مضى مرض الشخصيات المتعدِّدة؛ حيث تظهر اثنتان على الأقل من الشخصيات وتتناوب فيما بينها على التحكم داخل المريض ذاته، ولا يستطيع المريض أن يسترجع الأحداث التي كان يسترجعها بسهولة عادةً، مثل المواقف اليومية أو البيانات الشخصية الأساسية أو المواقف المؤلمة، وقد يؤدي تعرُّض الإنسان لمواقف مؤلمة جداً في مرحلة الطفولة إلى عدم قدرته على ربط خبراته ونتائج تجاربه في شخصية قوية متماسكة واحدة.
لذا يكون لدى هؤلاء المرضى اثنتان على الأقل من الشخصيات، وأماكن فارغة في ذاكرتهم عن أمور كانوا يتذكرونها بسهولة عادةً، وتساعد المعاينة النفسية الكاملة والاستبيانات النوعية، والمدعومة في بعض الحالات بالتنويم أو التهدئة، المعالجين على تشخيص هذا المرض، وقد يساهم العلاج النفسي المركز المريض على دمج شخصياته، أو يساعده على تنسيق هذه الشخصيات على الأقل، ولا يمكن تحديد عدد المرضى المصابين باضطراب الهوية التفارقية، ولكن في أحد الأبحاث كان حوالي 2% من الأفراد يعانون من هذا المرض في سن محدَّدة.
ويتحدث المرضى ويتفاعلون بطريقة مختلفة بشكل كامل عن الطريقة التي يتصرفون بها عادةً، وهكذا، فإنَّ الشخصيات المتعددة تكون ظاهرةً للآخرين، وفي الكثير من المجتمعات، فإنَّ حالات الاستحواذ المماثلة هي جزء اعتيادي من الثقافة السائدة أو التعاليم الدينية، فلا يَعُدُّونها مرضاً.
ومن ناحية أخرى في اضطراب الهوية التفارقية، تكون الشخصية الأخرى غير محبذة، وتُسبِّب ضيقاً شديداً، وتتظاهر في أزمنة وأماكن غير ملائمة للمبادئ الاجتماعية للمريض، أو دينه، أو ثقافته، أما الأنماط غير الاستحواذية فتميل إلى أن تكون أقل ملاحظةً من قِبل الآخرين، فقد يشعر المرضى باضطراب فجائي في إحساسهم الداخلي، وربما يحسون كما لو أنَّ أحداً يراقب حديثهم الخاص ومشاعرهم وتصرفاتهم.
ما هي أسباب اضطراب الهوية التفارقي؟
يحصل اضطراب الهوية التفارقية عادةً لدى الناس الذين مروا بمواقف مؤلمة أو صدمة قاسية في مرحلة الطفولة، ففي الولايات المتحدة وكندا وأوروبا، تمت إساءة التعامل جسمانياً أو جنسياً أو عاطفياً مع 88% من المرضى الذين يعانون هذا المرض، أو أُهمِلَت احتياجاتهم الأساسية عندما كانوا أطفالاً، ولكن يوجد مرضى لم يعانوا سوء المعاملة، إلَّا أنَّهم مروا بخسارة شخص مقرب في وقت مبكِّر من حياتهم مثل موت أحد الأبوين، أو مرض شديد أو غير ذلك من الأحداث القاسية.
مع نمو الأطفال، يجب أن يتدربوا على مزج الأنواع المتشعبة والمتباينة من البيانات والخبرات في هوية شخصية قوية ومتماسكة ومعقَّدة، فقد يكون للأذى الجنسي والجسدي الذي يحصل في طور الطفولة عندما تكون دعائم الهوية الشخصية في وضع البناء، آثار كبيرة في مقدرة المريض على تكوين هوية شخصية موحدة، وخاصةً عندما يكون منفذ الاعتداء هو أحد الأبوين أو مقدِّمي الرعاية.
قد يمر الأطفال الذين تأذوا في مراحل يتم فيها عزل المفاهيم والذكريات والمشاعر المختلفة عن خبراتهم وتجاربهم الحياتية، ومع تقدُّم الزمن، قد ينشأ لديهم مقدرة متطورة على الهروب من الأذى وسوء المعاملة عن طريق "إبعاد أنفسهم"، أو عزل ذواتهم عن محيطهم القاسي، أو بواسطة الانطواء، وتُستعمَل كل مرحلة أو ذكرى قاسية لتكوين هوية شخصية مختلفة، ولكن، إذا تمت حماية ورعاية هؤلاء الأطفال من قِبل الأبوين، فسوف يكونون أقل عُرضةً للإصابة باضطراب تعدُّد الشخصية التفارقي.
ما هي أعراض اضطراب الهوية التفارقي؟
اضطراب الهوية التفارقي هو غالباً مرض مزمن، وفي بعض الحالات يؤدي إلى العجز، وذلك على الرغم من أنَّ العديد من المرضى تتحسن حياتهم بشكلٍ مقبول جداً، ويعيشون حياةً خلَّاقةً ومثمرةً، وفيما يأتي بعض الأعراض النموذجية لاضطراب الهوية التفارقي:
1. ضعف الذاكرة أو النسيان:
قد ينطوي فقد الذاكرة على ما يأتي:
- مناطق بيضاء في الذاكرة بالنسبة إلى المواقف الشخصية القديمة، على سبيل المثال: قد لا يتذكر المريض فتراتٍ زمنيةً محددة من مرحلة الطفولة أو المراهقة.
- أخطاء في الذاكرة بالنسبة إلى المواقف اليومية الراهنة والخبرات المتعلمة، على سبيل المثال: قد ينسى المريض بشكل مؤقت كيف يشغل حاسوبه.
- كشف الإثباتات على الأمور التي قاموا بها، ولكن لا تسعفهم الذاكرة في معرفة إن قاموا بها فعلاً، وقد يشعر المريض بأنَّه يفقد فترةً من الزمن.
- بعد انتهاء نوبة فقد الذاكرة، قد يرى المريض أغراضاً في خزانة المنزل أو أوراقاً قد كتبها بيده، وهم لا يقدرون على إيجاد تفسير لها أو التعرف إليها.
- قد يجد المريض نفسه في مناطق مختلفة عن آخر منطقة يتذكرون أنَّهم كانوا فيها، وليس لديه أيَّة معلومة لماذا أو بأيَّة طريقة قد أتى إلى هذا المكان.
- قد لا يستطيع أن يتذكر الأمور التي قام بها أو أن يكون مدركاً للتغيرات التي طرأَت على سلوكه، وقد يقول لهم مرافقوهم إنَّهم تكلموا أو فعلوا أموراً لا يتذكرونها.
2. أكثر من شخصية واحدة:
تكون الشخصيات المتباينة ظاهرةً بوضوح لأفراد العائلة وغيرهم من المراقبين، فالمريض يتكلم ويتصرف بطريقة متباينة بوضوح في النمط الاستحواذي، كما لو أنَّ شخصيةً أخرى أو كائناً قد قام بالاستحواذ عليه، وقد يعتقد المرضى أنَّ أجسادهم تشعر بشكل مختلف، على سبيل المثال: مثل مولود صغير أو فرد من الجنس الآخر، وأنَّها لا تتعلق بهم، ويمكن أن يتكلموا عن ذواتهم بصيغة الجمع: نحن، أو الغائب: هو، هي، هم، دون وجود سبب واضح.
وبما أنَّ الشخصيات تتداخل وتتفاعل فيما بينها، فإنَّ المرضى قد يخبرون المقربين عن كلام أو أصوات تتردد إلى مسامعهم أحياناً، وقد تكون هذه الأصوات أحاديث داخلية بين الشخصيات، أو قد يوجهون الكلام إلى المريض مباشرةً، ويقومون بالتعليق على تصرفاته في بعض الحالات، وقد تتكلم هذه الأصوات في الوقت ذاته، ويكون ذلك مقلقاً للمريض بشكل مخيف.
كما أنَّ المرضى الذين لديهم اضطراب الهوية التفارقي يقاسون كذلك من اقتحام الشخصيات أو الكلام أو الأصوات أو الذكريات لحياتهم اليومية، فعلى سبيل المثال: قد تصرخ شخصية بغضب مفاجئ على أحد الرفاق في العمل أو حتى على المدير، وقد يدل هذا على أنَّ واحدةً من الهويات ستقدِّم مشاعر متعلقة بمشكلات سابقة.
وإنَّ المرضى الذين لديهم ماضٍ من سوء المعاملة والأذية، فإنَّهم يكونون عُرضةً لفتح جروحهم مرة أخرى؛ أي "استعادة ذكريات الصدمة" (retraumatization)، وفي الكثير من الحالات، يحاول المرضى أن يخففوا من أعراضهم ومن آثارها فيمن حولهم أو إخفاء ذلك.
كيف يُشخَّص اضطراب الهوية التفارقي؟
يقوم الأطباء بتشخيص اضطراب الهوية التفارقي بناءً على القصة المَرَضية وأعراض المريض، فالمرضى لديهم شخصيتان أو أكثر، وعطب في إحساسهم بذواتهم ومقدرتهم على التحكم بأنفسهم، ولديهم ثقوب في الذاكرة عن المواقف اليومية، والمعلومات الشخصية الأساسية، واللحظات المؤلمة أو المكربة؛ وهي أمور يجب ألا ينسوها عادةً، والمرضى يشعرون بالحزن الشديد بسبب أعراضهم، أو تجعلهم هذه الأعراض عاجزين عن حسن التصرف في الحياة الاجتماعية أو الحياة المهنية.
يقوم الطبيب المختص بالقيام بالمقابلة النفسية الكاملة، ويستخدم أسئلةً خاصة وُضِعَت للمساهمة في تشخيص اضطراب الهوية التفارقي ونفي أمراض الصحة النفسية الأخرى، وقد توجد حاجة للقيام بفحوصات طبية، للتأكد ما إذا كان المريض لديه مرض عضوي من شأنه أن يسبب هذه الأعراض.
كيف نميز بين اضطراب الهوية التفارقي والتمارض (malingering)؟
التمارض هو التظاهر بالأَعراض الجسدية أو النفسية غير الحقيقية لكسب فائدة معيَّنة، ويقوم المتمارض بما يأتي:
- يقومون بالمبالغة في الشكوى عن أعراض مشهورة جداً للاضطراب، بينما لا يذكرون الأعراض الأخرى.
- يقومون بتكوين شخصيات بديلة نموذجية،ويظهر عليهم عادةً بعض الفرح بفكرة وجود هذا الاضطراب؛ يحاول بعض مرضى اضطراب الهوية التفارقي عدم إظهاره في أغلب الحالات.
- إذا شك الطبيب المعالج في أنَّ هذا المرض مزيَّف، فيمكنه أن يقوم بالتأكد من الأمر من جهاتٍ عدَّة، وملاحظة عدم تناسق المعلومات؛ مما ينفي وجود اضطراب الهوية التفارقي.
ما هو مصير المصاب باضطراب الهوية التفارقي؟
قد تظهر بعض الأَعراض وتغيب وحدها، ولكنَّ اضطراب الهوية التفارقي كمرض لا يمكن الشفاء منه بشكل عفوي.
ما هو علاج اضطراب الهوية التفارقي؟
الغاية من معالجة اضطراب الهوية التفارقي هي إعادة توحيد الهويات في هوية واحدة، ولكنَّ هذا التوحيد يكون في بعض الحالات غير ممكناً، وهنا يكون هدفنا وهو الوصول إلى تفاعلٍ مناسب وغير ضار بين الهويات بما يتيح للمريض أن يعيش حياةً أكثر طبيعيةً.
ويمكن أن تُقلل المعالجة بالأدوية من بعض الأعراض المرافقة، مثل التوتر أو الاكتئاب، ولكنَّ هذه الأدوية لا تشفي الاضطراب نفسه، ويُعَدُّ العلاج النفسي هو العلاج الأساسي؛ حيث يُستعمَل لتوحيد الهويات المختلفة، وفي أغلب الحالات تكون المعالجة النفسية طويلةً، ومتعبة، ومؤلمة للعواطف.
قد يتعرض هؤلاء المرضى إلى الكثير من الكوارث العاطفية بسبب تصرفات الشخصيات المختلفة والحزن الذي قد يحصل عندما تُذكَر بعض الذكريات التي تكون صادمةً خلال العلاج، فقد تكون جلسات عدَّة من المعالجة النفسية ضروريةً لدعم المريض في الأوقات السيئة، ومن أجل مساعدته على التعاطي مع الذكريات السيئة خاصةً، فخلال المعالجة في المستشفى، يقوم الكادر الطبي بتقديم الدعم للمريض باستمرار ويخضع للمراقبة، ويتكون العلاج النفسي الفعَّال لاضطراب الهوية التفارقي مما يأتي:
- استخدام أساليب لتحقيق الاستقرار في وقت المصاعب الشديدة.
- إجراء محادثات حوارية بين الشخصيات.
- ارتكاز المعالج إلى نقاط بدء من الذكريات القاسية.
- حماية المريض من تعرُّضه للمزيد من الأذى.
- تأسيس وتقوية العلاقة بين المريض والطبيب المعالِج.
- في بعض الحالات، يلجأ الطبيب النفسي إلى استعمال أساليب مثل التنويم لمساعدة المرضى على تهدئة مشاعرهم، وتحسين نظرتهم حيال المواقف، والتخفيف التدريجي لتأثيرات الذكريات القاسية، والتي يمكن تحمُّلها بمقادير بسيطة أحياناً.
- يمكن أن يساعد التنويم المريض في بعض الحالات على تعليم الوصول إلى شخصياتهم، وتسهيل التفاوض بينهم، والتحكم بالتغيرات أو التحرك فيما بينها.
في الختام:
إنَّ اضطراب الهوية التفارقي هو مرض نادر وخطير أيضاً، لذلك يجب عدم التهاون معه لما يحمل من خطورة إيذاء الذات والمحيط والتسبب بمشكلات كبيرة، والتي يمكن تفاديها بزيارة الطبيب النفسي فقط.
دمتم بخير وصحة وسلامة.
التعليقات
مستخدم النجاح
قبل 7 شهركيف نعرف الشخصية الحقيقية للمصاب بالمرض وسط باقي الشخصيات
أضف تعليقاً