سنتناول في هذا المقال تفسير هذه الظاهرة المُثيرة، مع التركيز على العوامل والنظريات التي تُعزِّز هذا السلوك، وكذلك تأثيره في صحَّتنا العقلية، سنكتشف الأدلَّةَ العلميَّةَ والآثار المحتملَة، وسنوفِّر استراتيجيات فعَّالةً للتعامل مع تأثير البرامج العنيفة في صحَّتِنا العقلية.
ما هي وسائل الإعلام العنيفة؟
وسائل الإعلام العنيفة هي مصطلحٌ يشير إلى أي شكلٍ من أشكالِ الاتِّصال الجماعي الذي يُصوِّر التهديدَ باستخدام القوَّةِ، أو فعلِ استخدامِ القوَّة، أو نتائج استخدام القوَّة في مواجهةِ الآخرين أو في مواجهةِ الذَّات، ومن أمثلة وسائل الإعلام العنيفة الأفلام والبرامج التلفزيونية وألعاب الفيديو والكتب المُصوَّرة ومحتوى الإنترنت الذي يتضمَّن مشاهدَ عنفٍ مثل إطلاق النار والطَّعن والانفجارات والمعارك أو التعذيب.
تكون لوسائل الإعلام العنيفة تأثيراتٌ مختلفةٌ في الجماهير المختلفة، اعتماداً على عوامل مُتعدِّدة مثل الشخصية والسياق والتفسير ومهارات التكيُّف، وبعض التأثيرات المُحتملَة لوسائل الإعلام العنيفة هي زيادةُ العدوانيةِ وفقدانِ الإحساس بالعنف والخوف والضِّيق، إضافة إلى تقليل التوتُّر وتعزيز التعاطُف وتحفيز التفكير الأخلاقي.
إنَّ موضوعِ وسائلِ الإعلامِ العنيفة وتأثيرها في المستهلكين، خاصةً الأطفال، هو واحدٌ من أكثر الموضوعات التي تمَّت دراستها وتحديدها في علم النفس الإعلامي وعلم الجريمة.
لماذا نشاهد البرامج العنيفة وما هو تأثيرها في الصحة العقلية؟
ثمة نظريات ووُجهات نظر مُختلِفة عن سبب مشاهدتنا للبرامج العنيفة وما هو تأثيرها في صحتنا العقلية، ومنها:
- يقترح بعض الباحثِين أنَّ مُشاهدةَ البرامج العنيفة هي طريقةٌ للتَّعامل مع خوف الموت، فيساعدنا ذلك على مواجهة موتنا الخاص والشعور بأنَّنا أكثرَ خاصيَّة وقوَّة.
- يُجادل بعض الباحثين بأنَّ مشاهدة البرامج العنيفة قد تزيد من عدوانيتنا وتعرِّضنا للتَّصرُّف بعنفٍ ومواجهة الكوابيس والخوف من الأذى، خاصَّةً في الأطفال والمراهقين.
- يقترح بعض الباحثين أنَّ مشاهدةَ البرامجِ العنيفةِ تكون لها تأثيرات مختلفة اعتماداً على السياق والمحتوى والشخصية والبيئة للمشاهد، على سبيل المثال، قد يُشاهِد بعضُ الناس البرامج العنيفة للتَّرفيه أو التَّرويح عن النَّفسِ أو الفضول، بينما قد يشاهدها الآخرون للتَّعرُّف أو التقليد أو التعزيز.
- يدَّعي بعض الباحثين أنَّ مُشاهدة البرامج العنيفة تكون لها تأثيراتٌ إيجابيَّةٌ مثل تقليل التوتر وتعزيز التعاطف وتحفيز التفكير الأخلاقي اعتماداً على كيفيَّة تفسير وتقييمِ المَشاهِد للعنف.
- يقترح بعض الباحثين أنَّ مُشاهدةَ البرامج العنيفة تتأثَّر بالعوامل الاجتماعية والثقافية، مثل الجنس والعمر والتعليم والقيم، على سبيل المثال، قد يُشاهِد بعض الأشخاص البرامج العنيفة لأنَّه من المُتوقَّع منهم القيام بذلك من قِبَل أقرانهم أو أفراد عائلتهم، أو لأنَّهم يتماشون مع بعض الصور النمطية أو الأدوار.
- يشير بعض الباحثين إلى أنَّ مُشاهدةَ البرامج العنيفة ليست ظاهرةً متجانسةً، بل تختلف حسب نوع ونوعيَّة وجَودة وواقعية العنف، على سبيل المثال، قد يُفضِّل بعض الأشخاص العنف في الرسوم المتحرِّكة، بينما قد يستمتع الآخرون بالعنف في أفلام الرعب، وقد يتجنَّب بعض الأشخاص العنف تماماً.
لا توجد إجابةٌ نهائيَّةٌ عن هذا السؤال، فقد تكون لدى الأشخاص أسبابٌ وتفاعُلات مُختلفة تجاه مشاهدة البرامج العنيفة، ومع ذلك، من الهام أن نكون على علمٍ بالتأثير المُحتمَل لوسائل الإعلام العنيفة في صحَّتنا العقلية، وأن نطلبَ المساعدةَ المهنيَّة إذا واجهنا أيَّ ضيقٍ أو صعوبة.
لماذا موضوع مشاهدة البرامج العنيفة مثيرٌ للجدل؟
موضوعُ البرامجِ العنيفة والصحة العقلية مثيرٌ للجدل لأنَّ ثمة آراءً ومنظوراتً وأدلَّةً مختلفة عن كيفيَّة ارتباطهما:
- لا توجد اتفاقيَّةٌ واضحةٌ بين الباحثِين عن الرابط السببي بين البرامج العنيفة والعدوان أو مشكلات الصحة العقلية.
- تؤثِّر بعض العوامل في كيفيَّةِ ردِّ الأشخاص على البرامج العنيفة، مثل الشخصية والسياق والتفسير ومهارات التكيف.
- ثمة أنواعٌ وأنماط مختلفة من البرامج العنيفة، والَّتي قد تكون لها تأثيرات مختلفة في الجماهير المختلفة.
- ثمة تحديَّاتٌ أخلاقيَّةٌ وعملية في إجراء الدراسات وتكرارها بشأن البرامج العنيفة والصحة العقلية.
- ثمة تأثيراتٌ اجتماعيةٌ وثقافيَّةٌ تشكِّل كيفيَّة تصوُّرِ الناس واستهلاكهم للبرامج العنيفة مثل الجنس والعمر والتعليم والقِيَم.
هذه بعض الأسباب التي تجعل موضوعَ البرامج العنيفة والصحة العقلية مثيراً للجدل؛ إنَّها قضيَّةٌ معقَّدةٌ ومتعدِّدةُ الجوانب تتطلَّب مزيداً من البحث والتعليم والحوار.
خرافات عن البرامج العنيفة والصحة العقلية:
تشمل بعض الخرافات الشائعة عن البرامج العنيفة والصحة العقلية ما يأتي:
الخرافة الأولى:
الأشخاص الذين يعانون من الأمراض العقلية هم جناةٌ أو عنيفون.
الحقيقة: تشير الدراسات إلى أنَّ الأفرادَ الذين يعانون من مشكلات في الصحة العقلية ليسوا فقط أقلَّ عرضةً لارتكاب جرائمٍ عنيفة، بل إنَّهم أكثرَ عُرضةً ليكونوا ضحايا.
الخرافة الثانية:
استهلاك البرامج العنيفة يؤدِّي إلى زيادة العدوانية في الجميع.
الحقيقة: أظهرت عدَّة تجارب أنَّ التَّعرُّضَ للبرامج العنيفة قد يزيد من العدوانية لدى بعض الأشخاص، لكن لا يؤثِّر ذلك في الآخرين، ويعتمد التأثير على عوامل متعدِّدةٍ، مثل الشخصية والسياق والتفسير ومهارات التكيُّف.
الخرافة الثالثة:
الأشخاص الذين يعانون من الأمراض العقلية مسؤولون عن حوادث إطلاق النار الجماعية وغيرها من أعمال العنف الجماعي.
الحقيقة: تشير عدَّة أبحاث إلى أنَّ معظمَ مُنفِّذي الهجمات الجماعية لا يعانون من أمراض عقلية يُمكن تشخيصها، وأنَّ عواملَ أُخرى، مثل التطرف والشكوى والوصول إلى الأسلحة النارية، تؤدِّي دوراً أكبر في العنف الجماعي.
هذه بعض الخرافات التي غالباً ما تروِّج لها وسائل الإعلام والجمهور، ولكن لا تدعمها الأدلَّة العلمية؛ لذا من الهامِّ معالجة هذا الفهم الخاطئ وتعزيز الفهم الدقيق والمُتعاطِف للصحة العقلية والعنف.
شاهد بالفيديو: 6 عادات لتحسين الصحة العقلية
هل يمكننا منع أو عكس الاتجاهات العدوانية عن طريق تقليل تعرض الطفل للبرامج العنيفة؟
لا توجد إجابةٌ نهائيةٌ عن هذا السؤال، فقد تظهر لدى الأطفال ردود فعلٍ مختلفة تجاه البرامج العنيفة ومستويات مُختلِفة من العدوانية، ومع ذلك، أظهرت بعض الدراسات البحثيَّة أنَّ تقليل تعرُّض الطفل للبرامج العنيفة يُقلِّل من أو يمنع بعض السلوكات العنيفة، خاصة إذا تم التعامل مع عوامل الخطر الأخرى أيضاً.
أشارت الدراسات الأخرى إلى أنَّ المراقبة الأبويَّة والمشاهدة المُشترَكة ومناقشة محتوى الوسائط تحميَ الأطفالَ من الآثار السلبية لوسائل الإعلام العنيفة، مثل زيادة العدوانية؛ لذا قد يكون من المُفيد للآباء تقليل ومراقبة استهلاك وسائل الإعلام لأطفالهم، ومساعدتهم على التعامل مع عواطفهم وإحباطاتهم بطرائقَ صحية.
استراتيجيات للتعامل مع تأثير البرامج العنيفة:
تؤثر البرامج العنيفة تأثيراً سلبيَّاً في صحتنا العقلية، مثل زيادة العدوانية وفقدان الإحساس بالعنف والخوف والضيق، ومع ذلك، إليك بعضُ الاستراتيجيات التي تساعدنا على التعامل مع تأثير البرامج العنيفة:
- تقليل ومراقبة تعرُّضنا للبرامج العنيفة، خاصةً على منصَّات وسائل التواصل الاجتماعي التي تُكثِّف السلبية والإثارة.
- البحث عن محتوى إعلامي إيجابي ومُبهِج يوازن السلبية ويوفِّر الأملَ والإلهام.
- معالجة وتقييم محتوى الوسائط بنقدٍ وعقلانية، بدلاً من العاطفية والاندفاعية.
- التحدُّث ومشاركة مشاعرنا وأفكارنا مع شخص نثق به، مثل صديق أو أحد أفراد العائلة أو مُعالِج نفسي.
- المشاركة في نشاطات الرعاية الذاتية التي تقلِّل من الضغط وتعزِّز من رفاهيَّتنا.
- اتِّخاذ إجراءات والمشاركة في قضايا نهتمُّ بها والتي تحقِق فرقاً إيجابياً في العالَم.
هذه بعض الطرائق التي يمكنك من خلالها التعامل مع تأثير البرامج العنيفة، ومع ذلك، إذا شعرت بالضغط الزائد أو عجزت عن التعامل، يجب عليك طلب المساعدة والإرشاد من المُحترفين.
البرامج العنيفة والجرائم المُقلَّدة:
التعرُّض للبرامج العنيفة والجرائم المقلَّدة (ارتكاب الجرائم بنمط القاتلين المتسلسلين وتقليد أنماطهم) هي مصطلحاتٌ تشير إلى ظاهرة أفرادٍ يرتكبون الجرائم بعد تأثرهم بتصوير وسائل الإعلام لجرائم مماثلة أو من قِبَل مُرتكبي جرائم في العالَم الحقيقي الذين تلقَّوا اهتماماً إعلامياً.
تتراوح الجرائم المقلَّدة من الأعمال البسيطة للتَّخريب إلى الأعمال الخطيرة من العنف مثل إطلاق النار الجماعي أو الهجمات الإرهابية، فالعلاقة بين التعرُّض لوسائل الإعلام والجرائم المُقلَّدة مُعقَّدةٌ ومُثيرةٌ للجدل، فقد تؤثر عوامل مختلفة في كيفيَّة ردِّ الناس على محتوى الوسائط وما إذا كانوا يُقلِّدون السلوكات الإجرامية.
بعض العوامل التي قد تؤثر في احتمالية حدوث الجرائم المُقلَّدة:
1. نوعُ ونوعيةُ وجودةُ وواقعيةُ محتوى وسائل الإعلام:
على سبيل المثال، قد يتأثَّر بعض الأشخاص بتصوير العُنف الواقعي والمُفصَّل، بينما قد يتأثَّر آخرون بتصوير العنف الخيالي والمُبَسَّط.
2. شخصية المشاهد والسياق والتفسير ومهارات التكيُّف:
على سبيل المثال، قد يكون بعض الأشخاص أكثرَ عرضةً لارتكاب جرائمَ نموذجية إذا كانوا يعانون من مشكلات صحية عقلية مُسبقة أو ثقة منخفضة بالنفس أو عزلة اجتماعية أو غير ذلك، بينما قد يكون الآخرون أكثر مقاومةً للجرائم المُقلَّدة إذا كانت لديهم قيمٌ أخلاقيةٌ قوية أو دعمٌ اجتماعيٌّ أو مهاراتُ التفكيرِ النقدي.
3. توافُر ووجود نماذج مؤثِّرةٌ في الجريمة:
على سبيل المثال، قد يكون بعض الأشخاص أكثرَ عُرضةً لارتكاب جرائم نموذجية إذا كانت لديهم سهولةُ الوصولِ إلى محتوى وسائل الإعلام أو نماذج حيَّة تصوِّرُ الجريمةَ، بينما قد يكون الآخرون أقلَّ عُرضةً للجرائم المُقلَّدة إذا كان لديهم وصولٌ مُحدود إلى مصادر مماثلة.
4. تغطيةُ وسائل الإعلام وإطار الجريمة المقلَّدة:
على سبيل المثال، قد يكون بعض الأشخاص أكثر اندفاعاً لارتكاب جرائم نموذجية إذا كانت تغطية وسائل الإعلام للجريمة الأصلية شاملةً أو مثيرةً أو مجروحةً، بينما قد يكون الآخرون أقلَّ اندفاعاً للجرائم المُقلَّدة إذا كانت تغطية وسائل الإعلام للجريمة الأصليَّةِ قليلةً أو حقيقيةً أو مُستنكَرةً.
هذه بعض العوامل التي قد تؤثر في العلاقة بين التعرُّض لوسائلِ الإعلام والجرائم المُقلَّدة، ومع ذلك لا توجد إجابةٌ نهائيةٌ عن هذا السؤال، فقد تكون لدى الأشخاص ردود فعلٍ مختلفة على محتوى الوسائط ودوافع مُختلِفة لارتكاب الجرائم؛ لذا من الهامِّ أن نكون على علمٍ بالتأثير المحتمل للتَّعرُّض لوسائل الإعلام في السلوك الإجرامي، وأن نطلبَ المساعدة المهنية إذا واجه أيُّ شخص أي ضيقٍ أو صعوبة.
في الختام:
تدفعنا عوامل مُتعدِّدة لمشاهدة البرامج العنيفة، بدءاً من الفضول وصولاً إلى الاحتياج إلى التَّعبير عن المشاعر السلبية، وعلى الرَّغم من الآثار السلبية المُحتملَة، تكون هذه البرامج وسيلةً للتَّعبير والتَّخلُّص من التوتُّر لدى بعض الأشخاص، لكن يجب أن نكون حذرين ومُدركين لتأثيرها في صحَّتنا العقلية، ونتَّخذ الخطواتِ الضروريةَ للحفاظ على صحتنا ورفاهيَّتنا العقلية، فإذا كنت تشعر بأنَّ البرامجَ العنيفةَ تؤثر سلباً في صحتك العقلية، فلا تتردَّد في البحث عن المساعدة المِهنيَّة والدعم اللَّازم.
أضف تعليقاً