ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المُدوِّنة "جيل سوتي" (Jill Suttie)، والتي تُحدِّثُنا فيه عن الطبيعة البشرية.
يسرد المؤرخ الهولندي "روتجر بريغمان" (Rutger Bregman) هذه القصة في كتابه الجديد "الجنس البشري" (Humankind)، الذي يجادل به ضدَّ الصورة القاتمة التي نتخذها عن الإنسانية دون سبب منطقي والموجودة في "سيد الذباب"؛ إذ إنَّ الرسالة الأساسية في كتاب "بريغمان" هي أنَّ البشر بطبعهم خيِّرون، حين يُسارُ الأمرُ إلى رغباتهم الخاصة.
وذلك لا يعني القول إنَّ هناك شخصيات لن تتصرف تصرفاً سيِّئاً، وخصوصاً إن شُجِّعَت أو تم التلاعب بها أو أُكرِهَت على ذلك؛ لكنَّ الأغلبية الشاسعة منا سعداء بالعمل معاً بشكلٍ تعاوني، وإنَّ هذا - كما كتب - هو الاستنتاج الوحيد الممكن استخلاصه من الدلائل العلمية والتاريخية. وهو يجادل بأنَّ هذا شيء نحتاج بشدة إلى فهمه إن كنَّا نريد العمل معاً في طريق إيجاد مجتمع أفضل للجميع.
كيف نفسد هذا الأمر؟
إنَّ واحداً من أشهر الأدلة على نظرتنا المتشائمة للطبيعة البشرية يأتي من تجربة "سجن ستانفورد" التي قام بها عالم النفس "فيليب زيمباردو" (Philip Zimbardo) في أوائل السبعينيات؛ إذ أَدخَلَ "زيمباردو" طلاباً إلى مختبر وجعلهم يؤدون دور سجناء وحراس. سرعان ما ساءَت التجربة؛ إذ بدأ الحراس التصرف بقساوة شديدة مع السجناء، فكان لا بدَّ من إيقاف تلك التجربة.
توصَّلت التجربة إلى أنَّ البشر يتمتعون بسمة الساديَّة؛ إذ يمكن بسهولة التلاعب بهم لإلحاق الأذى؛ ولكنَّ "بريغمان" يشير إلى أنَّ النتائج كانت هكذا لأنَّ "الحراس" كانوا قد حُثُّوا منذ البداية ليكونوا صارمين مع "السجناء". فمن خلال تمثيل دورهم، ظنُّوا بأنَّهم يساهمون من أجل العلم، فقد كان الأمر عن حسن نية، وأيضاً اعترفَ أحد الطلاب "سجين" في التجربة - الذي من المفترض أنَّه "انهارَ" وكان يجب إخراجه - بأنَّه زيَّفَ نوبة الهيستيريا من أجل أن يعود إلى الدراسة؛ إذ إنَّ التجربة كلها مع نتائجها كانت قد حُرِّفَت.
"إنَّ أكثر ما يدهش هو أنَّ معظم الحراس في تجربة "سجن ستانفورد" ظلوا متردِّدين حيال تطبيق "أساليب قاسية" على الجميع، حتى تحت الضغط المتراكم"؛ وذلك كما كتب "بريغمان".
في الواقع، فإنَّ "تجربة سجن" لاحقة نظمَتها هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" (BBC)؛ فلم يُخبَر الحراس بها بما يلزمُ عليهم فعلُه، وكانت لها نتائج مختلفة للغاية. سرعان ما امتنع "الحراس" عن اتخاذ أدوارهم المستبدة وأصبحوا ودودين مع "السجناء" بدلاً عن ذلك.
في الحقيقة، إنَّ البحث يقترح أنَّ الناس لا يودُّون حقيقةً أن يؤذوا الآخرين - حتى في حالات الحرب - دون إكراهٍ قوي، وهو ما يفسر لما قد يودي ترك الأمر إلى رغبات الناس الخاصة إلى نتائج مختلفة.
يأخذ "بريغمان" القرَّاءَ عبر العديد من التجارب والأحداث التي تبدو وكأنَّها تشير إلى طباعٍ خاطئة وتفضحهم واحدة تلو الأخرى، على سبيل المثال: نتعلَّم أنَّ قصة "كيتي جينوفيز" (Kitty Genovese) الشهيرة - وهي امرأة اغتُصِبَت وقُتِلَت بشكلٍ وحشي في حي "كوينز" (Queens) في "نيويورك" (New York)، بينما امتنع الجيران عن مساعدتها كما زُعِم - كانت كاذبة إلى حدٍّ كبير، والتي غطَّت صحيفة "نيويورك تايمز" (New York Times) قصة موتها؛ إذ اتضح أنَّ ادِّعاء "نيويورك تايمز" عن وجود 37 مُتفرِّجاً عديمي الرحمة كان كاذباً، وأنَّ الناس أتوا لمساعدتها، بما في ذلك جار حملها ريثما تصل سيارة الإسعاف.
مع ذلك، فإنَّ قصة المتفرجين اللامبالين سُرِدَت مرات ومرات كدليل على اللامبالاة الإنسانية، وحالها حال تجربة "سجن ستانفورد"، فهي تُزيِّن العديد من كتب علم النفس الاجتماعي، وهنا تكمن المشكلة.
لماذا يهمُّنا هذا الأمر؟
إنَّ الخطر في الاستمرار في تكرار الاستنتاجات الخاطئة من بحوثٍ مغلوطة هو أنَّها تغذِّي قصة لا تخدمنا، وإنَّ الناس الذين يسمعون هذه الاستنتاجات يبدؤون تصديق أنَّ هناك أناساً ساديين متخفِّين بيننا وأنَّه لا يمكنهم الوثوق بالآخرين، بينما في معظم الأوقات يمكنهم ذلك؛ وذلك يدعم فكرة أنَّه فقط ومن خلال التحكم الاجتماعي الصارم من قِبل دكتاتوريات - على سبيل المثال - يمكننا إيقاف مجتمعاتنا عن التحول إلى فوضى.
وفقاً لـ "بريغمان"؛ من الهام فهم أنَّ طبيعتنا الحقيقية هي في الغالب خَيِّرة؛ وذلك لأنَّها قد تشجِّعنا على إيجاد مؤسسات ذات هياكلَ أقلَّ تراتُبيَّة وقيادة أقل قمعاً؛ إذ إنَّ طرائق التنظيم هذه يمكن أن تفضي إلى نتائج أفضل.
على سبيل المثال: يشير إلى برنامج التمريض المنزلي "بورتزورغ" (Buurtzorg)، الذي أُنشِئ أولاً في "هولندا"؛ حيث قاطع الممرِّضون الإدارة وكوَّنوا جمعية تعاونية فعالة من حيث التكلفة وتقدِّم أفضل عناية للمرضى.
إنَّ "مأساة العموم" - أي فكرة أنَّ الموارد العامة المشتركة من قِبل الكثيرين "كالهواء والماء والأرض" يمكن أن تُستنفَد إن استعملها الناس بشكل أناني - لطالما كانت فكرة مؤثِّرة في الاقتصاد. لكنَّ "بريغمان" يشير إلى عمل "إلينور أوستروم" (Elinor Ostrom)، عالمة الاقتصاد الفائزة بجائزة نوبل، التي درسَت كيف يدير الناس من حول العالم العموم حقاً حين يُترَك الأمرُ لرغباتهم الخاصة.
لقد مهَّد بحثها الطريق لفهم أنَّه وبمجرد وجود عوامل معيَّنة، فإنَّ الناس يتصرفون تصرفاً تعاونياً ولا يتطلب الأمر وجود رقابة اجتماعية، الذي هو اكتشاف يتفق معه العديد من الاقتصاديين في أيامنا هذه.
إنَّ الكتاب مليء بالأمثلة المذهلة الأخرى لأماكن وبرامج يُعاد تكوينها على أساس الخير والثقة البشرية؛ إذ إنَّ الرسالة التي يريد أن يوصلها "بريغمان" هي أنَّ طبعنا الأفضل هو من سيغلب؛ وذلك فقط إن تمكَّنَّا من معرفة أنَّه موجود في كل مكان.
ذلك يعني الاعتراف بالخير الكامن في الجميع، حتى في مجموعات الناس الذين يبدون أو يفكرون أو يتصرفون بشكل مختلف عنا والذين قد نكون متحيزين ضدهم. يقترح البحث أنَّ إحدى الطرائق للقيام بذلك هي بواسطة العمل على بناء تواصلات إيجابية عبر المجموعات - مثل الصداقات وعلاقات العمل التعاونية - التي من شأنها زيادة ثقتنا بالآخرين.
يضع "بريغمان" قائمة بنصائح عدَّة في نهاية كتابه، التي يمكن أن يستعملها الناس لرؤية الخير في البشرية؛ أشياء مثل "عند الشك، الثقة أولاً"، و"اعتدِلوا في شفقتكم، ودرِّبوا تعاطفكم"، و"تجنَّبوا الأخبار".
لو نتبنى وجهة النظر التي تقول إنَّنا خُلِقنا لنكون صالحين، فحينها في إمكاننا تكوين مجتمع أكثر عدالة وحرية للجميع؛ وذلك لا يتطلب أن يكون المرء متفائلاً؛ بل يتطلب فقط الاهتمام بالعلم والتجربة.
إنَّ الاعتقاد بأنَّ البشر كُوِّنوا ليكونوا طيبين ليس أمراً انفعالياً أو ساذجاً؛ بل على العكس، فمن الشجاعة والواقعية أن يؤمن المرء بالسلام والمغفرة.
أضف تعليقاً