قُلِب مفهوم الحياء وتشوَّه وبات الشَّخص الملتزم بقيمه وأخلاقه يخجل من تمسُّكه القوي بفطرته السَّليمة في وسطٍ يُوجِّه له أصابع الاتِّهام وينعته بأنَّه غريب الأطوار، وذو عقلية متخلفة؛ فأضحى مَن لا يسهر لغاية الفجر مع أصدقائه يعدُّ من الأشخاص عديمي النَّفع في الحياة والمملِّين والأغبياء.
والحكاية ذاتها بالنسبة للفتيات، حيث تُتَّهم الفتاة البريئة واللَّطيفة والخجولة والواعية والنَّاضجة بالغباء الاجتماعي والطِّفلة المسكينة، في حين توصف الفتاة الخبيثة وذات التَّصرفات الشَّيطانيَّة بالذَّكاء والقوة.
أصبحت الحدود الحمراء حدوداً مطاطيَّة، بحجَّة الانفتاح المجتمعي، والعولمة والتطور الحاصل، فعندما تقول لشخص ما: "قيمي لا تسمح لي أن أقوم بفعل كهذا"، يجيبك: "ما بك يا صديقي، لماذا كل هذا التعنُّت في الرَّأي، نحن في القرن الواحد والعشرين، وأنتَ مازلت بهذه العقليَّة؟"، وكأنَّ الأخلاق تتغير بتغيُّر الأيام.
كيف لنا أن نحافظ على حيائنا في وسط غارق في اللَّاحياء، هذا ما سنناقشه من خلال هذا المقال.
الأخلاق في مأزق:
نواجه اليوم تحدِّيات جمَّة فيما يخصُّ موضوع الأخلاق، حيث باتت أمراً ثانوياً أو دلالة على التخلُّف وعدم مواكبة العصر والتطور، وفيما يلي بعض مظاهر تأزُّم قضيَّة الأخلاق:
1. الإباحيَّة كصناعة:
يُسوَّق اليوم للإباحية كخدمة للنَّاس، حيث ساد "الغزو الجنسي" الَّذي بتنا نشاهده في أيامنا هذه؛ سواء في مواقع التواصل الاجتماعي أم في الشَّوارع والمقاهي وحتَّى في دور العلم من جامعات ومدارس، حيث ارتدت "الإباحية" زيَّاً قانونياً، واكتسبت اعترافاً صريحاً وواضحاً وكأنَّها حقٌ مشروعٌ.
2. الخيانة الزَّوجيَّة من وجهة النَّظر الحديثة:
سُحِبت الجديَّة من المصطلحات، وانتُزع الوضوح والصِّدق منها، فبات اليوم مصطلح "الخيانة الزوجيَّة" عبارة عن "علاقة خارج إطار الزَّواج"، كذريعة لجعل الموضوع أقل وطأة على النَّاس، وللتملُّص من مسألة تأنيب الضَّمير؛ وتحوَّلت الخيانة الزَّوجيَّة إلى مصدر مباهاة لدى الكثير من الرِّجال بين بعضهم، حيث يتباهى الكثير من رجال اليوم بأنَّهم على علاقة مع نساء أخريات غير زوجاتهم، وكأنَّ الأمر دلالة على الرُّجولة والقوُّة، بينما ينزع بعض الرِّجال إلى الخيانة الزَّوجيَّة بداعي عيش اللَّحظة والإحساس بالمغامرة، في حين يميل آخرون إلى الخيانة كنوع من كسر روتين الزَّواج.
ما يجمع كل هؤلاء هو عدم اعترافهم بمسألة الأخلاق على الإطلاق وتركيزهم على شهواتهم وجانبهم الشَّيطاني فحسب.
شاهد بالفيديو: 7 علامات تكشف خيانة زوجك
3. الأخلاق والصَّداقة:
نشاهد اليوم فجوات أخلاقيَّة غير مسبوقة فيما بين الأصدقاء، ويسعى الشَّخص اللَّأخلاقي إلى ردم تلك الفجوات من خلال تحويل صديقه الأخلاقي إلى النَّقيض تماماً عبر التلاعب في عقله ومعتقداته، حيث لا يرتاح الكثير من الأصدقاء إلَّا بتشويه المحيطين بهم، فيَسعون جاهدين إلى بث الحيرة في نفوس أصدقائهم، كأن يقول أحدهم لصديقه: "ما هذه الحياة الَّتي تحياها، ما معنى الحياة بدون مغامرات ونساء وكسر الروتين"، أو تقول الصَّديقة لصديقتها: "هل ستبقين هكذا بدون علاقات وسهرات، يا لك من متخلِّفة"، لذا أصبح معيار التطور والحضارة والانفتاح عندهم بمقدار بعدك عن الأخلاق وفطرتك السليمة.
4. ثقافة الجمال:
تنتشر اليوم ثقافة الجمال الخارجي حتَّى بات أقصى طموح النِّساء هو الوصول إلى معايير الجمال السَّائدة حاليَّاً، والَّتي تجسِّدها الممثلات الشَّهيرات والإعلاميَّات والمغنِّيات، أما ما يخص ثقافة الجمال الدَّاخليَّة فلا يُلقى الضَّوء عليها على الإطلاق، فبات توجُّه جميع البشر استهلاكي بحت، وأضحت قيمة الجمال قيمة شكليَّة فحسب.
كيف لي أن أربِّي أولادي على العفَّة؟
قبل الخوض في موضوع حماية الشَّخص لذاته من براثن الانحراف، علينا البحث قليلاً في موضوع الأطفال وكيفيَّة تربيتهم على العفَّة، وذلك لضمان جيل واعٍ وناضج وواثق من مبادئه:
1. الصَّراحة والوضوح:
من أهم الأساسيَّات الَّتي يجب على الأهل القيام بها فيما يخصُّ غرس قيمة العفَّة في نفوس أطفالهم، هي أن يعلِّموهم الصَّراحة والوضوح والصِّدق، بحيث يبنون جسر ثقة وحب فيما بينهم.
والتربية الصحيحة هي أن يأتي الطِّفل إلى أهله ويعترف لهم بكل التصرفات الَّتي قام بها سواء أكانت إيجابيَّة أم سلبيَّة، فهو يعلم أنَّ أهله مصدر ثقة وأمان، فإن كان ما قام به إيجابيَّاً مدحوه وشجَّعوه، وإن كان سلبيَّاً حافظوا على هدوئهم وتناقشوا معه لإيجاد حل للمسألة.
إنَّ الصَّراحة منهج حياة، فعلى الأهل أن يصارحوا أطفالهم بكل ما هو على علاقة بالثقافة الجنسيَّة، وحسب مرحلتهم العمريَّة وما يناسبها من معلومات، بحيث يكونوا المرجعيَّة الأولى لأبنائهم، وذلك حفاظاً عليهم من مصادر المعلومات غير الموثوقة.
2. الأمان والهدوء:
عندما يسأل الطِّفل البالغ من العمر 3 سنوات سؤالاً عن الثقافة الجنسيَّة، كأن يسأل بمنتهى البراءة: "كيف يأتي الطِّفل؟" فهنا على الأهل التعامل مع أسئلته بمنتهى البساطة والهدوء، وأن يعطوه المعلومة الصحيحة وبما يتناسب مع عمره.
من المهم جدِّاً أن يشعر الطِّفل بالأمان والاطمئنان مع أهله، وبأنَّهم قادرون على احتوائه في جميع الحالات، وحتَّى إن أخطأ؛ لذا يجب أن يتعامل الأهل مع أسئلة الطِّفل الجنسية بالكثير من الطبيعيَّة، فيتلقُّون أسئلته ويجيبون عنها ومن ثمَّ ينتقلون إلى موضوع آخر بمنتهى العفويَّة، ذلك لأنَّ تعامل الأهل بالعصبيَّة والانفعال مع أسئلة كهذه، تشكِّل لدى الطِّفل نظرة مشوَّهة عن موضوع الجنس، ممَّا قد يترجم بالكثير من السُّلوكات السلبيَّة مستقبلاً.
3. التعامل الجيِّد:
تأتي مشكلات انحراف الأطفال من جرَّاء سوء تعامل الأهل معهم، فقد اعتادوا على توبيخهم وتعنيفهم لمجرَّد قيامهم بسلوك سلبي ما، ليتحوَّل الطِّفل إلى طفل ضعيف وفاقد الأمان ومضطرب من جرَّاء سوء تعامل الأهل معه، ويميل إلى إخفاء كل الأمور عنهم، فقد يتعرَّض إلى تحرُّش في المدرسة ورغم ذلك لا يملك القدرة على مصارحة أهله لعدم إحساسه بالأمان معهم.
لذا على الأهل أن يكونوا على مستوى عالٍ من النُّضج بحيث يُحسنون التعامل مع أبنائهم، وعليهم أن يتعلَّموا -في حال قيام الطِّفل بتصرُّف سلبي- أن يوجِّهوا الملاحظة السَّلبيَّة إلى سلوك الطِّفل وليس إلى شخصه، كأن تقول الأم لابنها: "لقد كان سلوكك وأنت تُسرِع في قيادة الدَّارجة أمراً خاطئاً"، دون أن تقول له كلمات تمس بشخصه.
ومن جهة أخرى، في حال تكرار التَّصرُّف السلبي من قِبل الطِّفل، فهنا يجب على الأهل معاقبته بطريقة واعية، كأن تقول الأم لطفلها: "أنا أحبُّك، ولكنَّك ستُعاقَب لأنَّك قمت بتصرُّف سلبي ويجب أن تتحمَّل مسؤوليَّة تصرُّفك"، بحيث يكون العقاب بعيداً كل البعد عن الضَّرب والقهر، فقد يكون عقاب الطِّفل هو بجلوسه على كرسي التفكير لمدة عشر دقائق ليُعِيد التفكير في الموقف ويقيِّم تصرُّفه ومن ثمَّ يأتي إلى الأم ويناقشها بالأمر.
4. الحدود:
ينحرف أغلب الأطفال عن الطَّريق الصَّحيح من جرَّاء عدم تعليمهم رسم حدودهم الخاصَّة بهم، حيث اعتادوا على أنَّهم الحلقة الأضعف، وأنَّ الشَّخص الكبير هو الأقوى وله الحق في اقتحام حدودهم.
يعود هذا الأمر إلى طريقة تربية الأهل لهم، حيث إَنّهم لم ينمُّوا لديهم الثِّقة بالنَّفس وضرورة رسم الحدود الشخصيَّة، ولم يبيِّنوا لهم قداسة الجسد وحرمته، فلم يتصرَّفوا بوعي أمام أطفالهم، كأن يصدر عن الأم والأب والأقارب كلاماً يحتوي على إيحاءات جنسيَّة على سبيل المزاح، ويكون ذلك في أثناء تواجد الأطفال معهم.
تؤدِّي مثل هذه السُّلوكات إلى خلق فكرة لدى الطِّفل مفادها أنَّ جسده ليس خاص به، ممَّا يجعله عرضة إلى التحرُّش والاعتداء.
كيف أحمي نفسي من الانحراف الأخلاقي؟
1. احتفِ بمبادئك فهي ما تميِّزك:
لا تشعر بالغربة في أثناء وجودك ضمن مجتمع يضجُّ بالانحراف واللَّأخلاق، بل احتفِ بتمسُّكك بقيمك ومبادئك، لأنَّ القوي الحقيقي هو مَن يلتزم بأساسيَّات العفَّة ولا يحيد عنها، وحتَّى في حال انصرافه عنها فإنَّه يعود ويتوب لا محالة لأنَّه لا يستطيع أن يعيش بدون فطرته السليمة.
أنت جميل جداً بإصغائك لصوت ضميرك، وأنت عظيم بغلبة الرُّقي على الشَّهوات لديك، وأنت واعٍ وناضج بتحقيق التوازن ما بين ذاتك السليمة وسموم المجتمع، فقمَّة التحدي اليوم هو أن تكسب ذاتك، وأن تبني علاقة طيِّبة وفعَّالة مع الآخر أيَّاً كانت قيمه وأيَّاً كان اختلافه عنك، فالذَّكاء الحقيقي هو القدرة على التكيف مع ظروف البيئة المتغيرة من حولك بأفضل شكل ممكن.
2. اربط قيمتك مع الله:
لا تأبه بنظرة النَّاس عنك فهناك مَن هو أهم منهم بكثير وهو الله، لذلك اربط أفعالك وقيمك مع الله وحده، فطالما أنت تحرص على رضا الله؛ فتأكَّد أنَّك على الطَّريق السليم.
ليست وحدها العبادات من صلاة وصوم هي الهامة هنا، بل إنَّ الأهم منها هو حضور الله الدَّائم في عقلك وقلبك، ومَن يتَّبع تعاليم الله؛ يَفُزْ بالجنَّة على الأرض لا محالة.
3. املأ وقتك بالطَّريقة الصحيحة:
استثمر وقتك في المكان الصحيح، وابنِ عادات مفيدة لك، كعادة القراءة والرَّسم والكتابة والتأمُّل، فمن شأن ذلك أن يغذِّي جانبك الفكري والروحي ويجعلك أقوى وأكثر قناعة وتمسُّك بطريقك الأخلاقي.
4. ابنِ مشروعك الخاص:
يعني أن يكون لديك رسالة وهدف في الحياة أنَّ الآخرين لن يستطيعوا اختراقك، أو تشويه أفكارك وأخلاقك، لأنَّك واثق بنفسك وتعلم تماماً ما الَّذي تريده من الحياة، والأشياء الَّتي تصبُّ في مصلحتك والأخرى الَّتي تعطِّلك عن أداء مهامك.
5. أحط نفسك بمَن يشبهونك:
أنت تدرك قِيمك في الحياة لذلك اسعَ إلى انتقاء الأشخاص المتقاطعين معك في القيم، لكي تصل إلى العلاقات الأكثر فاعلية في حياتك، ومن جهة أخرى، تقبَّل اختلاف النَّاس عنك، فلكلِّ شخص قيمه الخاصَّة في الحياة، فتأكَّد أنَّ الَّذي يغضب منك ويصفك بأبشع الألفاظ؛ لا يعدُّ عدوَّاً لك بل هو إنسان مثلك إلَّا أنَّه لا يملك قيمة الاحترام في هرم قِيمه فانعكس غيابها على سلوكه.
6. التوبة:
لا تشعر بالخيبة إن جرفك تيار المجتمع قليلاً، وبعدت عن فطرتك السَّليمة، فكلُّنا خطَّاؤون، ولكن القوة الحقيقيَّة هي أن تدرك الخطأ وتتراجع عنه؛ فالتوبة من أعظم نعم الله علينا، حيث يوجد دائماً فرصة للعودة إلى حضن الله، وتأكَّد أنَّه سيُلاقيك بمنتهى الفرح والسُّرور، فلا يوجد أرحم من الله عز وجل؛ لذا اسعَ إلى تغذية جانبك الملائكي فهو ما ينفعك في الحياة والآخرة، واعترف بجانبك الشَّيطاني وتقبَّل وجوده في داخلك ولكن ابتعد بقدر ما تستطيع عن تغذيته، فهو ما سيدمِّرك في الحياة.
الخلاصة:
التزم بقيمك وبجانبك الملائكي، فالرُّقي والأخلاق يليقان بك يا أيُّها الإنسان المُكرَّم، واعلم أنَّ المحافظة على نقائك في وسط القبح الَّذي نشهده لهو أعظم اختبار لإيمانك، وتأكَّد أنَّ الله يُسعَد برؤية عبده قويَّاً وصالحاً وواعياً؛ فاجعل الله حاضراً أبداً في عقلك، وكن مؤثِّراً في المجتمع واصنع بصمتك الخاصة ولا تكن مجرَّد إنسان مسلوب الإرادة يسير وفقاً للتيار السَّائد.
أضف تعليقاً