يعدُّ رمضان أحد أقوى التحديات أمام الإنسان من أجل زيادة صبره وقدرته على التكيُّف، والقدرة على ابتكار طرائق جديدةٍ من أجل تحقيق التوازن بين العبادة والواجبات العملية والعائلية.
سنخوض من خلال مقالنا الغني هذا في هذه التفاصيل، وسنعرف كيفية وضع خطة لرمضان.
لماذا نحتاج إلى تنظيم الوقت في رمضان؟
يعدُّ رمضان شهر العبادة والخير والإحساس العالي بدفء العائلة، والمُشجِّع على إعادة بناء روابط اجتماعيةٍ مقطوعة، فهو شهر التسامح والوعي والرضا. يفتح رمضان باب التجديد في الحياة، فهو فرصةٌ ذهبيةٌ للرَّاغبين بالبدء من جديد، أو الراغبين بإدخال عاداتٍ صحيَّةٍ جديدةٍ إلى أسلوب حياتهم.
فكيف لنا أن ننظِّم وقتنا بحيث نستفيد الفائدة المثلى من المزايا الروحية الغنية لهذا الشهر، وأن نخلق أسلوب حياةٍ صحيٍّ جديد، وذلك دون الإخلال بواجباتنا العمليَّة والأسريَّة؟
كيف نبني خطة لتنظيم وقتنا خلال شهر رمضان؟
على الإنسان تحقيق التوازن بين العبادة وواجباته المهنيَّة والعائلية، فالعمل عبادةٌ أيضاً.
على سبيل المثال: إن كان الإنسان عاملاً، فستكون عدد ساعات عمله 7 ساعاتٍ وسطياً، وعلى الإنسان أن ينام 7 ساعاتٍ وسطياً، ولِنفترض أنَّه يحتاج إلى ساعتين من أجل العناية بأطفاله، وساعتين من أجل الواجبات المنزلية وتحضيرات ما قبل الإفطار، وساعتين من أجل الإفطار والاجتماع مع العائلة والرَّاحة، فسيبقى له 4 ساعاتٍ من أصل 24 ساعة، وسنفترض وجود ضياعات، فسيكون الباقي 3 ساعات، أي أنَّ أمامه 3 ساعاتٍ من العبادة يومياً، ليصبح مجموع ساعات العبادة خلال الشهر الكريم مساوياً 90 ساعة عبادة.
والسؤال هنا: إن استثمرنا هذه الساعات على مدار كلِّ أشهر السنة، فكم سنُحدِث فارقاً في حياتنا؟ لكن كيف نبني هذه الخطة؟
1. ابنِ أهدافك بطريقة صحيحة:
يجب عليك أن تضع هدفك بحيث يكون واضحاً، وقابلاً للقياس، ومحدَّداً بوقتٍ، وواقعياً؛ فلا يجوز أن يكون هدفاً عشوائياً.
على سبيل المثال: يعدُّ هدفك في قراءة كامل القرآن خلال شهر رمضان هدفاً غير واضحٍ وغير محدد؛ فعوضاً عن ذلك، يجب تجزئة هدفك العامِّ إلى أهدافٍ صغيرةٍ وقابلةٍ للتنفيذ والقياس.
يجعلك تبنِّيك لأهدافٍ كبيرةٍ متوتراً ومشوَّشاً، وإن تراجعت في يومٍ عن العمل من أجل هدفك، فسيصيبك اليأس والإحساس بالعجز؛ بينما إن قمتَ بتجزئة هدفك إلى خطواتٍ صغيرة، فستشعر أنَّك مسيطر، وأنَّك قادرٌ على التنفيذ ببساطةٍ ومُتعة.
ففي مثالنا السابق، إن وضعت هدفاً وهو: "أريد قراءة 15 صفحةً من كتاب اللّه في كلِّ يوم من أيام رمضان، وخلال ساعتين وربعٍ من الوقت، وثلاث أرباع الساعة المُتبِّقي من أجل الصلوات"؛ عندها سيصبح هدفاً واضحاً ومحدداً وواقعياً.
2. حدِّد وقتاً لكلِّ هدف من أهداف يومك:
اكتب المهام الواجب تأديتها خلال يومك، وابدأ بتحديد الوقت اللَّازم للقيام بكلّ مَهمَّةٍ على حدة.
وفي حال أعاقتك أشياءٌ خارجةٌ عن إرادتك عن القيام بجدولك الزمني، فلا تقلق، إذ يمكنك تخفيضه إلى النصف بدلاً من إلغائه؛ كأن تصبح ساعات العبادة مساويةً للساعة والنِّصف بدلاً من ثلاث ساعات، وذلك خيرٌ من إلغائها تماماً، فالأهمُّ أنَّك مازالت على المسار الصحيح.
3. استغلَّ ساعات الصباح الأولى:
اجعل عبادتك وقراءتك للقرآن بعد صلاة الفجر أو قبلها، حيث تكون الطاقة الروحية في ساعات الصباح الأولى في أوجها؛ فالهدوء كبير، والجوّ ملائمٌ للقراءة والتأمُّل والتفكُّر.
4. أعطِ وقتك لعائلتك وليس للعزائم:
يعدُّ رمضان فرصةً لزيادة الترابط العائلي وممارسة طقوس المشاركة الأسرية، كأن يقوم أفراد الأسرة بالصلاة جماعة، أو يشاهدون محاضرةً إسلاميةً ويتناقشون بمضمونها؛ ممَّا يزرع في عقل الأطفال حبَّ رمضان، وضرورة الوعي إلى القيم الدينيَّة السَّامية، الأمر الذي يُحفِّز لديهم التفكير النَّقدي وعدمَ تبنِّي فكرةٍ إلَّا بعد مناقشتها مع الآخر، والبحث مُطوَّلاً عن المعلومة من أكثر من مصدرٍ للوصول إلى المعلومة الأكثر منطقية.
رمضان فرصةٌ لاجتماع العائلة، ومناقشة القضايا العالقة، ونشر التسامح والعفو بين أفراد العائلة؛ وليس فرصةً للعزائم والولائم للآخرين. فمن الضروري تخصيص الوقت للعائلة، وليس للآخرين.
5. تَدبَّر في كتاب اللّه:
يتنافس الكثير من الأشخاص على إنهاء قراءة كتاب اللّه، ولأكثر من مرةٍ خلال شهر رمضان، غير واعين إلى أهميَّة التدبر وليس التلاوة السطحية؛ فالذي يهمُّ هو الفهم الحقيقي لآيات اللّه، واستخراج الكنوز الثمينة منها، وليس إنهاء قراءة القرآن دون تمعُّنٍ وتفكُّرٍ في آياته.
6. لا تجمع مهمَّتين سوياً:
أثبتت الدراسات أنَّ جمع أكثر من مهمَّةٍ في الوقت نفسه يُقلِّل من الإنتاجية، ويُضعِف من أداء الشخص، ويُشتِّت من انتباهه؛ وعوضاً عن ذلك، على الشخص أن يُوجِّه كامل تركيزه واهتمامه على مهمَّةٍ واحدة، وحينها سيحصل على النتائج الباهرة. على سبيل المثال: لا يجوز أن تقرأ القرآن وأنت تتصفَّح الفيس بوك، أو أن تقرأه والهاتف بيدك وعند سماعك لصوت أيِّ إشعارٍ تُسرِع إلى تفقُّد هاتفك.
7. استثمر الوقت في أشياء مفيدة:
من خلال جدولة المهام اليومية الرمضانية، نكتشف مواطن الخلل في تفاصيل حياتنا، ونعمل على إصلاحها، واستبدالها بكلِّ ما هو مفيد. حيث يُعطينا رمضان الفرصة لإعادة جدولة أولوياتنا، فنقف مع ذواتنا ونسأل أنفسنا: "ما هي المهام التي نُعطيها معظم وقتنا؟"، لنكتشف بعد هذا السؤال أنَّ مواقع التواصل الاجتماعي تحتل المرتبة الأولى، ونعود ونسأل أنفسنا:
- "ما الفائدة من الفيس بوك؟
- ما الفائدة من متابعة آخر صيحات الموضة؟
- ماذا أجني إن كان صديقي يعيش علاقةً عاطفية أم لا؟
- ما القيمة التي أربحها إن كانت صديقتي رُزِقت بمولودٍ جديدٍ بعد مولودها الأول الذي تصدَّر قائمة منشوراتها؟".
يُعطينا رمضان الوعي العميق والنضج، ويمنحنا الفرصة لإعادة ترتيب أولوياتنا في الحياة، واتساعاً لأفق إدراكنا.
8. اعتنِ بصحتك:
يلزمنا الكثير من الطاقة من أجل القيام بالمهام الرمضانية بالشكل الأمثل؛ لذلك علينا الاعتناء بغذائنا، كالتوجُّه إلى البروتينات والخضار خلال وجبتي الإفطار والسحور، والابتعاد عن السكريات والنشويات، والإكثار من الماء بعد الإفطار، وألَّا يُباشَر بالوجبة الأساسية إلَّا بعد تناول كوبٍ من الماء مع حبَّةٍ من التمر وطبقٍ من الحساء وطبقٍ من السَّلَطَة.
يرفع الصيام من الحالة المناعية للجسم كردِّ فعلٍ لعدم وجود مدخلاتٍ من الطعام والشَّراب، ويُقلِّل من مقاومة الأنسولين؛ فتخفُّ أمراض الضغط، والسكري، وتصلُّب الشرايين، ومتلازمة تكيُّس المبايض؛ ويرفع هرمون النموّ بنسبةٍ كبيرةٍ كنوعٍ من المحافظة على الكتلة العضلية؛ ويُقلِّل هرمون الكورتيزول، فيخفُّ التوترالنفسي لأنَّ الجهاز الهضمي في راحة، وغير مضغوط بالمأكولات الكثيرة؛ ويزيد من عملية التنظيف الذاتي للجسم، بحيث تموت كلُّ الخلايا التالفة، والتي كان من الممكن أن تتحوَّل إلى خلايا سرطانية.
من جهةٍ أخرى، يجب القيام بالتمرينات الرياضية لتقوية عضلة القلب والأوعية الدموية، وإن كانت تمريناتٍ بسيطةً خلال أيام رمضان.
أمَّا ما يخصُّ الصحة النَّفسية، فمن ضمن الجدولة الزمنية لتنظيم الوقت خلال رمضان، يجب وضع مهمَّةٍ هامَّةٍ جداً، وهي الإحساس بالفقراء؛ كأن نشاركهم وجبة الإفطار، ونتصدَّق بأموالنا لهم. فلا يوجد أجمل من مساعدة مُحتاج.
الخلاصة:
"إنَّما الأعمال بالنيَّات"، فانوِ الأعمال الطيبة في رمضان، والعادات الصحية، والبسمة الصادقة، والتسامح الكريم، والودَّ، والمشاركة الحقيقيَّة، والإدارة الفعَّالة للوقت والأولويات، والتَّفكر والتأمُّل بعمقٍ في كتاب اللّه؛ عندها سيكون رمضان بدايةً حقيقيَّةً لأسلوبٍ مختلفٍ وغنيٍّ في حياتك.
أضف تعليقاً