في هذا المقال، سنلقي نظرةً على الطرائق المختلفة التي يمكن استخدامها لنسيان شيءٍ ما عمداً، وسنكشف الستار عن التقنيَّات العلميَّة والنفسيَّة التي يمكن أنْ تساعدَ على تخفيف تأثير الذكرى، وتقليل تداخلها في حياتنا اليومية، وسنسلِّط الضَّوء على كيفيَّة تحقيق النسيان المناسب بطريقة صحيَّة ومتوازنة من خلال استكشاف الاستراتيجيات المتنوعة لذلك.
كيف تنسى شيئاً ما عمداً؟
نسيانُ شيءٍ عن عمد ليس بالأمر السهل، ولكنَّه ممكنٌ، فتوجدُ أساليبٌ مختلفة يمكنُ أنْ تساعدَك على نسيان ذكرى، أو على الأقلِّ جعلها أقل تداخلاً وإزعاجاً، وبعض هذه الطرائق هي:
1. تحديدُ محفِّزاتك:
المحفِّز هو شيءٌ يذكِّرك بالذِّكرى التي تريد نسيانها، ويمكن أن يكون ذلك منظراً، أو صوتاً، أو رائحةً، أو أي شيءٍ آخر مرتبطاً بالذكرى.
من خلال التعرُّف إلى محفِّزاتك، يمكنك محاولة تجنُّبها، أو تغيير ردَّ فعلك تجاهها، على سبيل المثال: إذا كانت أغنية معينَّة تثير ذكرى سيئة لديك، يمكنك تغيير محطَّة الراديو، أو الاستماع إلى أغنية مختلفة تجعلك سعيداً.
2. التحدُّثُ مع مختصٍّ نفسي:
يمكن لمختصٍّ نفسيٍّ مساعدتك على معالجة مشاعرك وإعادة تأطير ذكرياتك بطريقة محايدة أو أكثر إيجابية، من خلال التحدُّث عن ذكرياتك بشكلٍ متكررٍّ، يمكنك إضعافُ تأثيرها العاطفيِّ وجعلها أقلُّ إيلاماً عند التذكُّرِ.
كما يمكن للمختصِّ النفسي أيضاً تعليمك مهارات التكيُّف، وتقنيَّات الاسترخاء؛ للتعامل مع الضَّغط والقلق الناتجِ عن ذكرياتك.
3. كبح الذاكرة:
كبحُ الذاكرةِ هو فعلُ محاولة نسيان شيءٍ ما عن عمد عن طريق دفعه خارج عقلك، ويمكن القيام بذلك عن طريق تشتيت نفسك بأفكارٍ أو نشاطاتٍ أخرى، أو عن طريق استبدال الذاكرة بذاكرة مختلفة، ومع ذلك يمكن أن يكونَ لكبح الذاكرة عواقبَ سلبية، مثل: جعل الذاكرة أكثر احتماليَّة للظهور مرة أخرى لاحقاً، أو التسبُّب في مشكلات ٍعاطفيَّة؛ لذا يجب استخدامه بحذرٍ وليس بوصفه حلاً طويل الأمد.
4. تعريض نفسك للذكرى:
العلاج بالتعرُّض هو نوعٌ من العلاج السلوكيِّ المعرفيِّ يتضمَّن مواجهة مخاوفك وذكرياتك في بيئة آمنة ومراقبة؛ بغية تقليل استجابتك العاطفية للذاكرة وجعلها أقلَّ رعباً أو إحباطاً، ويمكن القيام بالعلاج بالتعرُّض تدريجياً، بدءاً بتخيُّل الذاكرة أو النَّظر في صورة، ثمَّ الانتقال إلى سيناريوهات أكثر واقعيَّة، ويمكن أن يكون العلاج بالتعرُّض فعَّالاً جداً، ولكن يمكن أن يكون صعباً، ويجب ممارسته بإرشادٍ من محترف.
هذه بعض الطرائق التي يمكنك تجربتها لنسيان شيء عن عمد، ومع ذلك تذكَّر أنَّ النسيان ليس ممكناً أو مرغوباً فيه دائماً، ففي بعض الأحيان، من الأفضل قبول الذكرى والتعلُّم منها، بدلاً من محاولة محوها.
يمكن أنْ تكونَ للنسيان آثار سلبيَّة في صحَّتك العقلية، وعلاقاتك، وإحساسك بالهوية، لذا قبل أنْ تقرِّرَ نسيانَ شيءٍ ما، يجب عليك موازنة الفوائد والمساوئ المترتِّبة على هذا النسيان، والنَّظر في البدائل، كما يجب أيضاً طلبُ المساعدة من شخصٍ موثوقٍ أو خبيرٍ مؤهَّلٍ إذا كنت تعاني من صعوباتٍ في الذاكرة.
كيف تعمل الذاكرة؟
1. الذاكرة:
عمليَّة ترميز وتخزين واسترجاع المعلومات في الدِّماغ.
2. الترميز:
كيفيَّة تحويل المُدخَلات الحسيَّة إلى شكلٍ يمكن تخزينه في الدماغ.
3. التخزين:
كيفيَّة الحفاظ على المعلومات المشفَّرة مع مرور الوقت.
4. الاسترجاع:
كيفيَّة الوصول إلى المعلومات المخزَّنة عندما تحتاج إليها.
أنواع الذاكرة:
الذاكرة ليست وحدةً واحدةً، بل نظامٌ معقَّدٌ يتضمَّن أنواعاً مختلفةً من الذاكرة، مثل: الذاكرة الحسِّية، والذاكرة قصيرة الأمد، والذاكرة طويلة الأمد، وكلُّ نوعٍ له خصائص ووظائف مختلفة.
1. الذاكرة الحسيَّة:
تخزينُ البيانات الحسيَّة بشكلٍ مؤقَّتٍ ولفترةٍ قصيرة، مثل: المعلومات البصريَّة، أو السمعيَّة، أو اللمسيَّة، ويستمرُّ التَّخزين في الذاكرة الحسيَّة لأقل من ثانية، وتسمح لنا هذه الذاكرة بإدراك العالم بوصفه تسلسلاً مستمراً من الأحداث، على سبيل المثال: عند مشاهدة فيلم، تساعدُ الذاكرة الحسية على رؤية الإطارات على أنَّها حركة متسلسلة، بدلاً من سلسلةٍ من الصور الثابتة.
2. الذاكرة قصيرة الأمد:
المعروفة أيضاً باسم الذاكرة العاملة، هي التَّلاعب النشط والواعي بالمعلومات التي نشعر بوجودها حاليَّاً أو نفكِّر فيها، وتمتلك سعةً ومدَّةً محدودة، ويمكن أن تحتوي على حوالي 2 إلى 7 قطع من المعلومات لمدة تتراوح بين 15 إلى 30 ثانية، على سبيل المثال: عندما نحاول تذكُّر رقم هاتف، نستخدم الذاكرة قصيرة الأمد للحفاظ على الأرقام في الذهن، حتى نقوم بتشغيلها أو كتابتها.
3. الذاكرة الطويلة الأمد:
يتم تخزين المعلومات التي تعلَّمناها أو جرَّبناها بشكلٍ دائم نسبياً وغير محدود في الذاكرة الطويلة الأمد، ويمكن تقسيمها إلى ذاكرة واعية، وذاكرة إجرائية.
- الذاكرة الواعية:
ذاكرة الحقائق والأحداث التي يمكن استدعاؤها وتذكُّرها بوعي، مثل: الأسماء، والتواريخ، والحقائق التاريخيَّة.
- الذاكرة الإجرائيَّة:
ذاكرة المهارات والعادات التي يمكن أداؤها تلقائياً وبلا وعي، مثل: ركوب الدراجة، أو العزف على آلة موسيقية، أو الكتابة على لوحة المفاتيح.
الذاكرة ليست عمليَّة سلبيَّة أو ثابتة، بل هي عمليَّة ديناميكية وبنَّاءة، ويمكن أنْ تتأثَّر الذاكرة بعوامل كثيرة، مثل: التركيز، والعاطفة، والدافع، والسياق، والتداخل، والتشويش، ويمكن أيضاً تحسين الذاكرة باستخدام استراتيجيات مختلفة، مثل: التكرار، والتنظيم، والتَّفصيل، والتخيُّل، وممارسة الاسترجاع؛ فالذاكرة ضرورية للتعلُّم، وحلِّ المشكلات، واتخاذ القرارات، وتشكيل الهوية.
شاهد بالفيديو: 10 نصائح حياتية لتنشيط العقل وتقوية الذاكرة
الفرق بين الذاكرة قصيرة الأمد وطويلة الأمد:
الذاكرة قصيرة الأمد والذاكرة طويلة الأمد هما نوعان من الذاكرة يختلفان في عدة جوانب، مثل:
1. السِّعة:
الذاكرة قصيرة الأمد يمكنها أنْ تحتفظَ بعددٍ قليلٍ من العناصر (حوالي 2 إلى 7 عناصر) في وقت واحد، بينما يمكن للذاكرة طويلة الأمد أن تخزِّن كميَّات غير محدودةٍ من المعلومات تقريباً.
2. المدَّة:
تستمرُّ الذاكرة قصيرة الأمد لثوانٍ إلى دقائق، بينما يمكن للذاكرة طويلة الأمد الاستمرار لأياَّمٍ، أو سنواتٍ، أو حتى مدى الحياة.
3. التَّرميز:
تُرمِّزُ الذاكرة قصيرة الأمد المعلومات استناداً إلى الميزات الحسِّية، مثل: الصَّوت، أو الشَّكل، بينما تُرَمِّزُ الذاكرة طويلة الأمد المعلومات استناداً إلى المعنى والسياق، مثل: الكلمات، أو المفاهيم.
4. الاسترجاع:
تتطلَّب الذاكرة قصيرة الأمد جهداً واعياً لاسترجاع المعلومات، بينما يمكن للذاكرة طويلة الأمد استرجاع المعلومات تلقائيَّاً ودون جهد.
5. التنظيم:
الذاكرة قصيرة الأمد لها تنظيمٌ محدود أو غير موجودٍ للمعلومات، بينما الذاكرة طويلة الأمد لها شبكات معقَّدة ومترابطة من المعلومات.
كيف نتذكَّر الذكريات الجيِّدة والسيِّئة؟
تعتمدُ الطريقة التي نتذكُّر فيها الذكريات الجيِّدة والسيِّئة على العديد من العوامل، مثل: شدَّة الأحداث، وتكرارها، وحداثتها، إضافة إلى حالتنا العاطفية، وانتباهنا، ودوافعنا.
تشيرُ الأبحاث إلى أنَّنا عادةً ما نتذكَّر الذكريات السيِّئة بشكلٍ أفضل من الجيِّدة، لأنَّها أكثر تحريضاً عاطفيَّاً وتنشيطاً لمناطق الدماغ المشاركة في معالجة العواطف مثل اللوزة الدماغية، ويساعدنا ذلك على التَّعامل أو تجنُّب التَّعامل مع الحالات المماثلة في المستقبل، ويعزِّز من بقائنا وتكيُّفنا.
مع ذلك، لا يعني ذلك أنَّ الذكريات الجيدة محكومةٌ بالتَّلاشي، إذ أظهرَتْ بعض الدراسات أنَّ الذكرياتَ الإيجابية يمكن تذكُّرها بشكلٍ جيد أيضاً، خاصَّة إذا كانت ذات معنى شخصي، أو مرتبطة بالشَّخص نفسه، أو مرتبطة بشعور الرفاهية.
إصافة إلى ذلك، قد يكون لدى بعض الأشخاص ميلٌ إلى تذكُّر الجيِّد أكثر من السيِّئ، أو إعادة تفسير السيِّئ بطريقةٍ أكثر إيجابيَّة، بوصفها وسيلة للحفاظ على نظرةٍ إيجابيَّة عن الحياة وتقليل الإجهاد.
وعليه فإنَّ الطريقة التي نتذكَّر فيها الذكريات الجيدة والسيئة ليست ثابتة، بل تتأثَّر بكيفيَّة ترميزها وتخزينها واسترجاعها، إضافة إلى كيفيَّة تنظيمنا لعواطفنا وتعاملنا مع تجاربنا.
ما هو دور النَّوم في توحيد الذاكرة؟
النوم هو عمليَّة حيويَّة هامَّة لتوحيد الذاكرة، والتي تتمثَّل في تعزيز ودمج الذكريات الجديدة في الذاكرة طويلة الأمد، فيساعد النَّوم على توحيد الذاكرة؛ عن طريق توفير ظروف مثاليَّة لإعادة تشغيل وإعادة تنظيم المعلومات التي اكتسبها الدماغ خلال النهار، ونقلها من الحصين حيث تُرمَّزُ بدايةً، ثمَّ إلى القشرة المخية حيث تُخزَّن بشكل أكثر ديمومة.
ترتبط مراحل النوم المختلفة، مثل: "النوم بطيء الموجات"، و"النوم ذو حركات العين السريعة" (REM)، بأنواعٍ مختلفة من توحيد الذاكرة، مثل: الذاكرة الإعلامية، والإجرائية، والعاطفية، كما يحمي النوم الذاكرة من التداخل والتحلُّل الذي قد يحدث خلال الاستيقاظ، ويعزِّز استرجاع الذاكرة والإبداع.
النوم أمرٌ ضروريٌّ لتوحيد الذاكرة، ويمكن أنْ يؤثِّر نقص النوم في أداء الذاكرة والوظائف العقلية؛ لذا يجب الحفاظ على جدول نوم منتظم وكافٍ، وتجنُّب العوامل التي قد تؤثِّر سلباً في جودة النوم، مثل: الكافيين، والكحول، والضَّغط النفسي، والضَّوضاء.
في الختام:
عندما نتعلَّم كيف ننسى شيئاً ما عمداً، ندرك أنَّ القدرةَ على إدارة الذكريات تُعَدُّ مهارة قوية وهامَّة في التنمية الشخصيَّة، وأنَّ النسيان قد يكون في بعض الأحيان الحلَّ الأمثل، إلا أنَّه يجب مراعاة الآثار الجانبية المحتملة والتأثيرات النفسية لهذا الخيار.
إضافة إلى ذلك، يجب أنْ نفهمَ أنَّ الذكريات تشكِّل جزءاً هاماً من هويَّتنا وتجاربنا، وقد تكون مصدراً للتعلُّم والنُّمو الشخصي، لذا يجب أن نكون حذرين في استخدام النسيان بوصفه أداة، ونفكِّر جيِّداً في البدائل المتاحة قبل اتخاذ قرار النسيان العمدي، ولا بدَّ من إيجاد التوازن بين النسيان والتذكر، وأنْ نعيشَ حياةً متوازنةً وصحيَّةً عقليَّاً وعاطفيَّاً.
أضف تعليقاً