"فكرة، شعور، سلوك" هذه هي التراتبية التي تم اتباعها في كل من المثالين السابقين والتي توضح كيفية تحكُّم أفكار الإنسان بمشاعره وتصرفاته، فإذا ما خطرت في بال الإنسان فكرة فإنَّها تثير شعوراً في ذاته يملي عليه تصرفاته، هذه التصرفات التي تولِّد أفكاراً جديدة لتثير مشاعر جديدة وسلوكات جديدة.
على طاولة المطبخ يوجد صحن فاكهة شهي، فتمد يدك لتلتقط حبة فترى النافذة مفتوحة، ثم تفكر في الغبار الداخل والحشرات والجراثيم التي حملها لتحط على الفاكهة التي غسلتها والدتك للتو، فتشعر بالذعر من احتمالات الأمراض التي يمكن أن تسببها، فتغسل تفاحتك مراراً وتغسل الصحن كله وتغلفه، وقد تعدل عن فكرة تناول الفاكهة! في هذه الحالة أنت تعاني من وسواس قهري، فإذا ما لجأت إلى متخصص ليساعدك على التخلص منه فإنَّه سيعود بك إلى جذر المشكلة؛ أي الأفكار المتدفقة في رأسك، ليصححها ويصحح بذلك شعورك وسلوكك، وهذا ما يسمونه "العلاج السلوكي المعرفي".
لقد شاع هذا النمط من العلاج للمشكلات والاضطرابات في الآونة الأخيرة وأثبت جدارته في كثير من المرات، لكن هل تعرف الكثير عن هذا النمط من العلاج؟ وما هي إيجابيات ومساوئ العلاج السلوكي المعرفي؟ فلنتعرف معاً في هذا المقال.
ما هو العلاج السلوكي المعرفي (CBT)؟
لا بد من وضع تعريف لمفهوم العلاج السلوكي المعرفي قبل الحديث عن إيجابياته ومساوئه؛ إذ إنَّ العلاج السلوكي المعرفي هو واحد من أنواع العلاج النفسي التي أثبتت جدارتها وفاعليتها في علاج العديد من الاضطرابات النفسية، ويرمز له بأحرف (CBT) اختصاراً لعبارة (Cognitive behavioral therapy) باللغة الإنجليزية.
إنَّ العلاج السلوكي المعرفي هو واحد من أنواع العلاج النفسي عن طريق الكلام، وهو أسلوب علاجي يمكِّن الأشخاص من حل مشكلاتهم عبر تغيير أفكارهم ومعتقداتهم المسببة لها، ومن ثمَّ تنتقل التغييرات إلى مشاعرهم وسلوكاتهم وفق المثلث الذي تحدثنا عنه آنفاً "فكرة، شعور، سلوك".
يمنح العلاج السلوكي المعرفي (CBT) الأفراد القدرة على الوعي بأفكارهم وإدراك المعتقدات التي يحملونها في أذهانهم وتأثيرها في تصرفاتهم ومشاعرهم، فيسعون إلى تصحيح المعتقدات المغلوطة والتحكُّم بتدفق الأفكار، ومن ثمَّ السيطرة على السلوكات غير المنطقية.
سأطرح لكم مثالاً قرأته بالأمس في مدونة لكاتب أتابعه تحدَّث فيها عن فترة صعبة مرت في حياته كانت مليئة بالضغوطات المالية والعاطفية والمهنية، وكان يشعر فيها بأعراض الجلطة القلبية، فيهرع إلى المستشفى ليجري التحاليل وتخطيط القلب ويسمع توكيدات الأطباء عن سلامته التامة وصحته الممتازة، الأمر الذي يسبب تخديراً لأفكاره بأنَّه سيموت بذبحة قلبية دون أن يعرف بموته أحد لأيام قليلة، لتعاود أعراض الذبحة بالظهور ويعاود الإسراع نحو المستشفى وهكذا دواليك، حتى استسلم أخيراً لفكرة اللجوء إلى معالج نفسي.
قام المعالج الذي قصده باتباع العلاج السلوكي المعرفي، فوضع توصيفاً لمشاعره ومخاوفه وحلحل الخيوط المتشابكة في ذهنه، وطلب منه مقاومة الذهاب إلى المستشفى في حال شعر بالأعراض والاتصال به عوضاً عن ذلك، ولم يستطع كبح نفسه من اللجوء إلى المستشفى في المرة الأولى، ولكنَّه في المرة التالية نفَّذ التعليمات واستطاع بفضل المخابرة الهاتفية مع المعالج أن يتجاهل أفكاره وذعره بضرورة إجراء تخطيط قلبي، ومنذ ذلك اليوم لم يجرِ تخطيطاً قلبياً حسب زعمه.
إنَّ الغرض من الاستفاضة في هذا المثال الواقعي هو عرض قدرة أفكارنا على التأثير في سلوكاتنا على الرغم من قناعتنا الكاملة بأنَّها غير صحيحة، وهذا يجعل العلاج السلوكي المعرفي ضرورة حقيقية في حالات الاكتئاب والإدمان واضطرابات الأكل والقلق والتوتر والفوبيا، ولقد أثبت هذا النوع من العلاج فاعليته ونجاحه، كونه يركز على جعل الفرد يساعد نفسه ويطور مهاراته واستراتيجيات تحكمه بذاته وضبطه لمشاعره في تحقيق صحته النفسية والحفاظ عليها.
شاهد بالفيديو: 12 نصيحة للحفاظ على الصحة النفسية
إيجابيات العلاج السلوكي المعرفي (CBT):
فيما يأتي إيجابيات العلاج السلوكي المعرفي، وهي مجموعة الفوائد التي يمكن الحصول عليها جراء اتباع العلاج السلوكي المعرفي بإرشاد المعالج المتخصص، ويمكن تلخيص إيجابيات العلاج السلوكي المعرفي بما يأتي:
1. نتائج طويلة الأمد لفترات قصيرة من العلاج:
من أهم إيجابيات العلاج السلوكي المعرفي أنَّ النتائج التي يحصل عليها الشخص تكون طويلة الأمد؛ وذلك لأنَّ المعالج يعمل على تغيير المعتقدات والأفكار السلبية لدى الشخص المستفيد وبناء مهارات إيجابية جديدة في ذهنه، الأمر الذي يولِّد لديه نمطاً جديداً في التفكير والتعاطي مع المشكلات يدوم حتى بعد انتهاء مدة العلاج، وإنَّ عدد جلسات العلاج السلوكي المعرفي يتراوح عادة بين 5 إلى 20 جلسة، وقد يوصي الطبيب أو المعالج المتخصص مريضه بالحضور لإجراء جلسات داعمة واطمئنانية خلال فترات متباعدة بعد انتهاء مدة العلاج.
2. التركيز على المشاعر الحالية:
من إيجابيات العلاج السلوكي المعرفي أنَّه يسلط الضوء على المشاعر الحالية للمستفيد والمشكلات التي يتعرض لها في الوقت الحالي، بخلاف بقية أنواع العلاج النفسي التي تهتم بتاريخ الحالة النفسية وجذورها، وإنَّ العلاج السلوكي المعرفي لا يولي الاهتمام للمشاعر والمشكلات الماضية على الرغم من أنَّه قد يتم التطرق لها خلال الجلسات العلاجية، إلا أنَّها لا تكون محوراً هاماً في التشافي والعلاج.
3. العلاج السلوكي المعرفي يغني عن الأدوية:
من إيجابيات العلاج السلوكي المعرفي أنَّه يكون بديلاً عن الأدوية ويغني المستفيد من جرعات المهدئات والأدوية العصبية والنفسية، وخاصةً أولئك الذين لم ينجح معهم العلاج الدوائي للاضطرابات النفسية أو الذين لا يستطيعون تناول هذه العقاقير، وفي حالات كثيرة تكون الأدوية العلاجية متزامنة مع العلاج السلوكي المعرفي بهدف الخروج بنتائج أفضل.
4. المرونة:
من إيجابيات العلاج السلوكي المعرفي أنَّه منهج علاجي مرن يمكن أن يكون المستفيد منه فرداً يجالس المعالج المتخصص أو جماعة تحضر جلسة العلاج، كما يمكن أن يكون الشخص معالجاً لنفسه؛ إذ توجد الكثير من الكتب والتطبيقات التي تعلم الفرد كيف يمارس أساليب العلاج ويطبقها على نفسه.
5. منح المستفيد من العلاج مهارات حياتية هامة:
من إيجابيات العلاج النفسي أنَّه يساهم في تحسين جودة حياة الفرد المستفيد من العلاج؛ إذ يركز هذا النمط العلاجي على تزويد الفرد بمهارات تساعده على حل مشكلاته الحياتية المختلفة ومواجهتها بشكل أفضل، كما يعلِّم العلاج السلوكي المعرفي المستفيد مهارة إدارة الوقت التي لا تقتصر إيجابياتها على حل المشكلة الحالية فقط؛ بل تتعداها لتشمل جوانب الحياة عامة.
شاهد بالفيديو: 10 مهارات عملية عليك تعلمها لتطوير شخصيتك
ما هي مساوئ العلاج السلوكي المعرفي؟
بقدر ما ذكرنا من إيجابيات العلاج السلوكي المعرفي، إلا أنَّ مساوئ العلاج السلوكي المعرفي موجودة ولا يمكن نكرانها، فما هي مساوئ العلاج السلوكي المعرفي؟
1. الاعتماد الكبير على المريض:
من مساوئ العلاج السلوكي المعرفي هو اعتماد نجاحه على المريض أو المستفيد بشكل كبير، فعندما يزور المريض عيادة المعالج المتخصص فسوف يستمع الأخير لمخاوفه ودوافعه ومجموعة الأسباب التي تقف وراء مشكلاته النفسية والحياتية، وبناء على ذلك سوف يطلب منه القيام ببعض التمرينات في المنزل والواجبات التحضيرية للجلسة التالية، وهذه التمرينات والواجبات يحتاج المريض إلى تكرارها لأكثر من جلسة لتترسخ في معتقداته وتبدي مفعولها، فإذا ما أبدى المريض استجابة لمساعدة ذاته والتزاماً في أداء التمرينات فإنَّه سيمسك بيد رحلة العلاج نحو بر النجاح، أما إذا ما تقاعس لسبب أو لآخر عن الالتزام بتعليمات المعالج، فإنَّ رحلة العلاج ستطول أكثر وسوف تستنزف طاقة المعالج ووقته.
2. التركيز على الحالة المَرَضية الحالية:
من مساوئ العلاج السلوكي المعرفي تركيزه على أعراض المشكلة الحالية التي يمر بها المريض متناسياً تاريخه المرضي ومراحله السابقة التي قد تكون المسبب الرئيس لما هو عليه الآن، وعلى الرغم من أنَّنا قد ذكرنا هذه النقطة في إيجابيات العلاج السلوكي المعرفي بسبب تركيزها الكامل على حل المشكلة، إلا أنَّها يمكن أن تُصنف ضمن مساوئ العلاج السلوكي المعرفي، فهو بهذه الحالة قد يكون يعالج أعراض مشكلة متأصلة وموجودة في الماضي دون إيلاء الاهتمام لجذر هذه المشكلة، ومن الجدير بالذكر أنَّ ماضي الإنسان وتحديداً طفولته هي الجزء الأكثر تأثيراً في صحته النفسية، وإنَّ معظم حالات الاكتئاب والقلق والوسواس القهري منشؤها الطفولة.
3. التسبُّب بالاستياء في مراحله الأولى:
من مساوئ العلاج السلوكي المعرفي أنَّه يسبب الاستياء للمريض في المراحل الأولى منه، فالمعالجون المتخصصون وفي بداية علاجهم للمشكلات النفسية والسلوكية للمريض يقومون بتعرية هذه المشكلات وتوصيفها توصيفاً دقيقاً من أجل أن يعترف المريض بوجودها بوصفها خطوة أولى نحو الحل ومن أجل أن يواجه مشاعره السلبية، لكن معظم المرضى يشعرون بالاستياء من مجرد اعترافهم بامتلاك هذه المشكلات، وقد يفشل بعضهم في المواجهة فتتأزم أوضاعهم.
4. غير مناسب للأشخاص الذين يعانون من مشكلات صحية عقلية:
من مساوئ العلاج السلوكي المعرفي أنَّه غير مناسب للأشخاص الذين يعانون من مشكلات صحية عقلية، فهو يتطلب جلسات منتظمة جداً ومواعيد منسقة بين المعالج والمريض، الأمر الذي يصعب الالتزام به من قِبل الأشخاص الذين يعانون من أمراض نفسية معقدة أو الذين يواجهون صعوبات في التعلُّم.
5. إيلاء العقل والمعرفة اهتماماً كبيراً:
يُعَدُّ التركيز على العقل والمعرفة وإغفال العواطف في بعض الأحيان من مساوئ العلاج السلوكي المعرفي، فهذا النمط العلاجي يقلل أحياناً من تقدير العواطف ويصب تركيزه على طرائق التفكير المتحكمة بالسلوك والتوقعات الإدراكية للمريض المتعلقة بنتائج سلوكه والمعتقدات السائدة في البيئة المحيطة به.
6. علاج ممل بالنسبة إلى بعضهم:
تنظيم الجداول والمواعيد المدروسة والتحدث بالنظريات السلوكية والمعرفية قد يكون مملاً بالنسبة إلى بعض المرضى، وهذا يُصنف من مساوئ العلاج السلوكي المعرفي؛ وذلك لأنَّ هذه الفئة تَعُدُّ هذا العلاج لا يتفهم معاناتهم ومشاعرهم؛ بل يصف لهم قوالب جاهزة وروتينية لا تُقدِّر التحديات التي يواجهونها في حياتهم، فيحول ذلك بينهم وبين الالتزام.
7. الاعتماد بشكل أساسي على إرادة المريض ورغبته في التغيير:
من مساوئ العلاج السلوكي المعرفي أنَّ نجاحه يرتكز ارتكازاً أساسياً على رغبة المريض في الالتزام بالعلاج وإنجاحه واستعداده الداخلي والخارجي لبذل جهده في اتباع طرائق وأدوات العلاج والالتزام بالجلسات الفردية والجماعية والبحث في الإنترنت وغيرها، بصرف النظر عن بعض المشكلات الأوسع التي يظهر تأثيرها السلبي في الأفراد.
في الختام:
يهدف العلاج السلوكي المعرفي إلى التحكم بتدفق الأفكار الذي يؤثر بدوره في المشاعر والسلوكات، وهو نمط علاجي فعال بحد ذاته في بعض الحالات، وثانوي يترافق مع الأدوية اللازمة في الحالات الأكثر تعقيداً، وإنَّ أهم إيجابيات العلاج السلوكي المعرفي هي تأثيره الفعال على الأمد الطويل، الأمر الذي يغطي على مساوئه المحدودة.
أضف تعليقاً