ما يزال البحث مستمراً؛ فقد بدأ العلماء بفهم كيفية عمل ذلك؛ إذ أظهرت الدراسات الحديثة أنَّ أنظمة الدماغ تؤدي دوراً في النسيان المتعمد لبعض الذكريات، وأنَّه من الممكن للأشخاص إزالة بعض الذكريات من وعيهم؛ لذا سنناقش في هذا المقال كيف يمكن للناس محاولة نسيان الذكريات غير المرغوب فيها.
ما هي أهمية محو الذكريات السيئة من الدماغ؟
كيف نمحو الذكريات السيئة من الدماغ؟ كانت ثمة مقترحات مختلفة على مر السنين؛ إذ يمكن أن تؤدي الذكريات السيئة - وخاصةً التي تكرَّر بانتظام في الذاكرة - إلى اضطرابات عقلية، هل العلاج النفسي والأدوية هما الحلاَّن الوحيدان؟
محو الذكريات السيئة ليس بدعة؛ إذ يمكن أن تؤدي الأفكار المزعجة المستمرة إلى اضطرابات النوم أو اضطرابات نفسية أخرى؛ لذلك فإنَّ التلاعب بالذكريات يهدف إلى مساعدة المرضى على التعافي التام منها، وتحسين نوعية حياتهم.
هذا بالطبع ليس الحل الوحيد؛ إذ يُوصى بالعلاج النفسي (عادةً في المسار السلوكي المعرفي)، وربما يستخدم العلاج الدوائي أولاً حسب الحالة، بينما لا تُستخدم ممارسة حذف الذكريات غير المرغوب فيها على نطاق واسع؛ لكنَّ الأبحاث المتعلقة بها تقول إنَّها ما تزال هامة.
متى بدأت فكرة محو الذكريات السيئة من الدماغ؟
يمكن إرجاع المعلومات الأولى بهذا الخصوص إلى دراسة نُشرت في المجلة العلمية المرموقة Science في عام 1968؛ ففي ذلك الوقت، اكتشف باحثون في جامعة روتجرز أنَّه يمكن محو الذاكرة أو التخلص من الذكريات القديمة إذا صُعِق فأر المختبر بالكهرباء عند إجباره على تذكُّر تجربة معينة.
تضمنت الدراسات في السنوات اللاحقة أنواعاً أخرى من القلق والذكريات المخزنة في أجزاء مختلفة من الدماغ في حيوانات مختلفة، وأظهرت تجربة أجراها جوزيف إي ليدو وزملاؤه في جامعة نيويورك أنَّ الحقن الدقيق لمثبطات تخليق البروتين في اللوزة الدماغية عند الفئران يمكن أن يمنع تثبيت الذاكرة إذا كانت ما تزال جديدة.
لماذا نتذكر الذكريات السيئة أكثر من نظيرتها الجميلة؟
قد يجد معظم الناس أنَّ التجارب السيئة تبرز في ذاكرتهم أكثر من التجارب الجيدة، ويمكن لهذه الذكريات أن تتطفل على وعينا حتى عندما لا نريدها، وقد يحدث هذا بسبب التحيز السلبي، والذي يشير إلى أنَّ عقولنا تعطي أهمية أكبر للتجارب السلبية، وقد يكون التحيز السلبي ناجماً عن التطور؛ لأنَّه قد يكون مفيداً لمساعدة أسلافنا على البقاء حذرين عندما يكونون في مناطق خطرة.
شاهد بالفيديو: 7 نصائح للتخلص من التفكير في إخفاقات الماضي
هل يمكننا التلاعب بذكرياتنا؟
اكتشف باحثون من جامعات في إسبانيا والولايات المتحدة وهولندا في عام 2019، طرائق جديدة لإضعاف الذكريات المقلقة للناس وتقليل تأثيرها في النفس، في البداية، أشاروا إلى أنَّ تعديل الذكريات الثابتة الراسخة ليس أمراً سهلاً؛ لكنَّه ليس مستحيلاً.
تقترح دراسة سابقة أجراها باحثون في جامعة جونز هوبكنز إجراءً آخر؛ إذ وجد العلماء الذين يعملون مع الفئران أنَّه من خلال إزالة بروتين من منطقة الدماغ المسؤولة عن استدعاء الخوف، يمكنهم إزالة الذكريات المؤلمة دائماً.
دواء البروبوفول ومحو الذكريات السيئة:
شملت الدراسة الموصوفة في Science Advanced، خمسين مشاركاً يتمتعون بصحة جيدة، وعُرضت شرائح على المجموعة بأكملها تثير مشاعر سلبية، وبعد أسبوع اتصل بهم الباحثون وطرحوا أسئلة محددة، وعندما بدأ الأشخاص بتذكر الذكريات غير المرغوب فيها، أُعطَوا البروبوفول، وهو دواء مخدِّر.
وجدوا بعد 24 ساعة أنَّ تناول الدواء يعطل إعادة تثبيت الذكريات السيئة، وأولئك الذين لم يتلقوا البروبوفول كانوا ما يزالون قادرين على تذكر الارتباطات السلبية المرتبطة بعرض الشرائح التجريبي.
هل هذا هو الحل غير الجراحي للمشكلات العقلية لملايين الناس؟ من السابق لأوانه إصدار مثل هذه الأحكام، وخاصة أنَّ فريق البحث لديه تحفظات، وقد أوضح الباحثون: "يوجد دليل على أنَّ تغيير معايير جلسة إعادة تنشيط الذاكرة، مثل زيادة المدة، يمكن أن يزعزع استقرار الذكريات البعيدة".
لتقييم جرعة البروبوفول المثلى، ستكون سيحتاجون إلى مراقبة نشاط الدماغ في أثناء العلاج، لكن في الوقت الحالي، ما يزال هذا الأمر غير مطروح.
هل يمكن محو الذكريات السيئة من خلال الجراحة؟
استئصال الفص: وهو إجراء جراحي نفسي يتضمن قطع الألياف العصبية التي تشكِّل الرابط بين الفص الجبهي والدماغ الداخلي.
في الحقيقة لم يُمارس استئصال الفصوص لعقود عدة؛ ففي ذروة شعبيته في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، كان مثيراً للجدل وغير متفق عليه، وغالباً ما ينتهي العلاج الجراحي للمرضى المصابين بالاكتئاب والاضطرابات العقلية الأخرى بالإعاقة أو الموت.
لقد كانت تطبيقات استئصال الفصوص عديدة، تتراوح من الأمراض النفسية إلى التلاعب بالذاكرة إلى "العلاج من الشذوذ الجنسي" على الرَّغم من صعوبة تصديق هذا الكلام، وقد طُبِّق آخر إجراء من هذا النوع عام 1967.
كيف تُنسى الذكريات غير المرغوب فيها؟
يمكن للباحثين فهم آليات الخلايا العصبية التي تشكِّل الذكريات وتخزنها تخزيناً أفضل، من خلال البحث في أعماق الدماغ البشري ودراسته، وقد يتمكن علماء الأعصاب وعلماء النفس من استخدام هذه المعلومات لمساعدة الناس على نسيان الذكريات غير المرغوب فيها.
تدعم بعض الأدلة نظرية النسيان المقصود؛ إذ تقترح هذه النظرية أنَّه يمكن للناس نسيان الذكريات غير السارة أو المؤلمة إذا كان لديهم دافع للقيام بها.
استبدال الذكريات:
قد يفكر بعض الأشخاص في استخدام استراتيجيات بديلة لمساعدتهم على قمع الذكريات غير المرغوب بها، وتشير هذه التقنية إلى أنَّه يمكن للناس استبدال الذاكرة السلبية عن طريق إعادة توجيه وعيهم نحو ذاكرة بديلة.
يصف الخبراء أحياناً هذه التقنية بأنَّها تشبه الضغط على الفرامل في السيارة أو توجيهها نحو مكان فارغ لتجنب المخاطر، وقد تساعد استعاضة الناس عن ذاكرة غير مرغوب فيها على تجنب اجترار الذكريات السيئة.
تغيير السياقات:
يؤثِّر السياق العقلي الذي يدرك فيه الشخص حدثاً ما في كيفية تنظيم العقل لذكريات ذلك الحدث، ويمكن أن يكون السياق أي شيء مرتبط بالذاكرة، وفي كثير من الأحيان، قد يكون إشارات متعلقة بالحواس، مثل الرائحة أو الذوق، والبيئة الخارجية، والأفكار أو المشاعر التي مر بها الشخص وتتعلق بالحدث.
وجدت دراسة حديثة أُجريت عام 2021 أنَّ إضفاء معنى إيجابي على تجربة سلبية سابقة يمكن أن يكون له تأثير طويل الأمد، ومن خلال ربط تجربة إيجابية بالذكرى السيئة، يمكن لأيِّ شخص تغيير سياق الحدث السلبي، وإحداث شعور إيجابي عند تذكُّر الحدث في المستقبل.
تعمل هذه الاستراتيجية من خلال عملية التنظيم المعرفي؛ إذ يمكن أن يؤدي تغيير طريقة تفكير الشخص في الموقف المؤلم إلى تعديل شعوره حياله.
إضافة إلى ذلك، تشير دراسة أُجريت عام 2016 إلى أنَّ تغيير المعلومات السياقية عن حدث ما يمكن أن يجعل الشخص ينسى عن قصد ذكرى غير مرغوب فيها.
شاهد بالفيديو: 7 خطوات تساعدك على التعلم من أخطاء الماضي
العلاج بالتعرض لذكريات الرهاب:
يشكِّل هذا الخيار علاجاً مفيداً للأشخاص الذين يعانون الرهاب، ويُسمى العلاج بالتعرض؛ إذ يتضمن تعريض الفرد لموقف مخيف في بيئة آمنة لمساعدته على تكوين ذاكرة آمنة.
بالمثل، تشير إحدى الدراسات إلى أنَّ تعطيل الذاكرة يمكن أن يقلِّل قوتها، وفي نفس الدراسة عرض الباحثون الأفراد الذين يعانون رهاب العناكب لصور العناكب، مع جلسات لاحقة تنطوي على تعرض أطول، وبحلول الجلسة الأخيرة، كان لدى الناس ميل أقل لتجنب العناكب.
يقترح الباحثون أنَّ التعرض الأولي جعل الذاكرة غير مستقرة، وأنَّ التعرض الطويل أدى إلى حفظ الشخص للذاكرة حفظاً أضعف، ومن خلال تشويش الذكريات، يصبح من الأصعب على عنصر الخوف أن يعود بسهولة.
مهارة الاسترجاع وكبح الاسترجاع:
تتضمن مهارة الاسترجاع استراتيجية استدعاء أو استرجاع المعلومات من الذاكرة؛ إذ تشير الأبحاث إلى أنَّ توظيف مهارة الاسترجاع في الدراسة الفعالة يساعد الناس على تذكر المعلومات، ويعتقد بعض الخبراء أنَّ هذه التقنية قد تساعد الناس على استبدال الذكريات غير المرغوب فيها.
تشير دراسة أُجريت عام 2020 إلى أنَّ استخدام مهارة الاسترجاع قد تساعد على تسهيل تحديث الذاكرة، وتقوي الذكريات الجديدة، وتقلِّل من اقتحام الذكريات القديمة، وتشير أبحاث أخرى إلى أنَّ استخدام كبح الاسترجاع؛ أي منع استدعاء الذكريات، قد يساعد أيضاً على منع الذكريات غير المرغوب فيها، وتشير دراسة أُجريت عام 2022 إلى أنَّ كبح الاسترجاع يساعد على التحكم بالذكريات المتطفلة عن طريق إضعافها وجعلها أقل تأثيراً.
مع ذلك من الضروري إجراء مزيد من الأبحاث عن الاسترجاع لفهم كيف يمكن أن تساعد على نسيان الذكريات غير المرغوب فيها.
في الختام:
لا شكَّ في أنَّ الذكريات السيئة هي أمر متعب للدماغ والجهاز النفسي والعصبي؛ لكنَّها جزء لا يتجزأ من الحياة التي نعيشها، ولا يمكن لأيِّ إنسان ألا يكون لديه ذكريات سيئة، لكن دعونا ننظر إلى تلك الذكريات على أنَّها تجارب حياتية علمتنا دروساً وعِبراً كثيرة ستفيدنا في المستقبل.
أضف تعليقاً