مختلف تلك الفنون التي تحتاج إلى الإبداع لتتميَّز أثبتت دورها في إيصال مشاعر الفنَّان وأفكاره حتى المعقَّدة منها إلى الناس، فلا يحتاج إلى التَّكلُّم إنَّما تعدُّ الفنون وسيلة الفنَّانين للتنفيس، واعتماداً على الأفكار السابقة، أُجريت البحوث والدراسات بشأن استخدام الفن والإبداع بوصفه علاجاً للتعافي من الاضطرابات النفسية والعقلية التي يعيشها الإنسان نتيجة ضغوطات الحياة.
لقد تحدَّث فيلم وثائقي "أتذكر أفضل عندما أرسم" عن إعادة الاتصال بين أشخاص مصابين بألزهايمر والخرف مع العالم من جديد، ودون وجود موهبة؛ لأنَّنا جميعاً نمتلك شيئاً من الإبداع القادر على شرح مشاعرنا، ومقالنا اليوم يوضِّح لك الفوائد والدور الذي يؤديه الفن والإبداع في الحفاظ على الصحة العقلية والنفسية، فتابِعْ القراءة.
كيف يعزِّز الفن والإبداع الصحة العقلية؟
يمكن للفن أن يؤدي دوراً هاماً في تعزيز صحتنا العقلية من خلال الفوائد الآتية:
1. تعزيز الاسترخاء والحدُّ من التوتر
الفنون ليست وسيلة للترفيه كما يعتقد بعضهم، إنَّما لديها القدرة على نقل الإنسان من حالة التوتر والإجهاد إلى حالة مزاجية مستقرة نتيجة الشعور بالاسترخاء والهدوء، فمثلاً مقطوعة موسيقية مثل "لحن الحياة" لبيتهوفن أو "فور الفصول" لفيفالدي تثبت قدرة الموسيقى الكلاسيكية على بعث الهدوء والراحة في النفس وتحسين المزاج.
اللوحات التي اشتُهرت حول العالم بقدرتها على نقلِ أعمق المشاعر مثل "الصرخة" لإدفارد مونك أو "ليلة النجوم" لفان خوخ التي تثبت دور الألوان في ذلك.
أمَّا في مجال الأدب، فجرِّب أن تقرأ رواية "مئة عام من العزلة" لـ جابرييل غارسيا ماركيز لتجدَ نفسك داخل عدة تجارب حياتية بالتعابير والعواطف التي تشتِّت الذهن عن مسبِّبات التوتر، وتنقلك لعوالم مختلفة تساعدك على فهم حياتك.
إن أردت مثالاً أكثر واقعية، فقِفْ وتأمَّلْ منظر غروب الشمس عندما تندمج الألوان البرتقالية مع لون السماء والغيوم والطبيعة مشكِّلة لوحة فنية تأخذك لعالم من الجمال، فتشعر بأنَّك تخلَّصت من أعباء يومك كافة.
2. اكتشاف الذات
في كثير من الأحيان يصعب علينا معرفة ما نريد وما هي الأشياء المزعجة بالنسبة إلينا، ولا يوجد أفضل من الفنون لمساعدتنا على ذلك؛ لكونها تسمح للإنسان بالتعمُّق في التفكير والعواطف لتكسبه فهماً أعمق لذاته، سواءً بالشعر أم بالموسيقى أم بالرسم فيكتشف من خلاله المشاعر الدفينة ووجهات النظر الخاصة ويشعر بوجود اتصال دائم مع ذاته.
يمكن للإنسان أن يكتشف ذاته من خلال الاستمتاع بالفنون دون محاولة الإبداع، فمثلاً بعد مروري بعلاقة عاطفية ليست ناجحة لم أستطع تحديد الحالة التي أمرُّ بها إلَّا بعد قراءة رواية "أحببتك أكثر ممَّا ينبغي" لأثير عبد الله النشمي، فوصفت كثيراً من الحالات التي مررت بها، ففهمت تلك التجربة واكتسبت القوة لأتجنَّب الوقوع بالأخطاء ذاتها مرة أخرى.
3. التعبير عن الذات
تعدُّ الفنون من أقوى أشكال التعبير عن الذات انطلاقاً من النقطة السابقة، فالفنون تعدُّ النافذة التي يطلُّ منها المرء على ذاته ومشاعره، فيتمكَّن من خلال رسمه للوحة أن يصف مشاعر معقدة أو من خلال تأدية رقصة فريدة أو بالكتابة، فيجعل مشاعره التي عجز عن التعبير عنها ذات معنى وقيمة وتصل لكل شخص يشاهد إبداعه.
4. تقدير الذات وتعزيز الثقة بالنفس
الإبداع الفني يمنح الإنسان شعوراً بالاحترام لذاته، فعندما تنجز عملاً فنياً إنجازاً مميزاً تشعر بالنجاح ويزيد ذلك مستوى الدوبامين، فتشعر بالسعادة وتزداد ثقتك بنفسك؛ لأنَّك قادر على إنجاز مزيد من النجاحات لاحقاً.
5. تحسين المهارات الاجتماعية
تساهم الفنون إسهاماً كبيراً في بناء جسور التواصل بين الناس وبناء روابط خفيَّة بين أصحاب الذوق الفني ذاته، وهذا ما يجعلنا نرى مجموعة من الأشخاص تشكَّلت بينهم صداقة بدأت من كونهم محبين للرسام أو النحات ذاته أو الكاتب ذاته، ربَّما لأنَّ الفرد يشعر بأنَّ الآخر يفهمه لكونه يحبُّ الفنَّان ذاته، ويمتلك وجهة النظر والمشاعر ذاتها تجاه أمر معيَّن.
هذا ما ستجده إن قرَّرت الانضمام إلى ورشات عمل فنية أو جوقات موسيقية تجمع المتشابهين وتبعدك عن العزلة والوحدة، وكذلك الفنَّان يشعر بالترابط مع الآخرين؛ لأنَّه شاركهم مشاعره وأفكاره وسمح لهم باكتشافه وشعر بالانتماء تجاه مجتمع يقدِّر الفنَّ الذي يقدِّمه.
6. تعزيز الذكاء العاطفي
تبدأ تنمية الذكاء العاطفي من قدرة الإنسان على التعبير عن مشاعره وأفكاره والقدرة على فهم مشاعر الآخرين بأفضل شكل، وتساعد الفنون الإنسان على تعزيز الذكاء العاطفي لكونها تعلِّمه ذلك فتزداد قدرته على التعاطف مع الآخرين، ونتيجة لذلك تزداد القدرة على بناء علاقات اجتماعية صحيَّة، والتغلُّب على التحديات التي تواجه نجاح علاقته مع صديق أو شريك عاطفي أو شريك عمل، فتساهم الفنون في دفع الإنسان نحو النجاح.
7. زيادة مرونة الدماغ والقدرة على التأقلم
يحتاج تعلُّمْ أحد مجالات الفن ومحاولة اكتساب الخبرة فيه من الإنسان بذل جهود كبيرة؛ لأنَّه يحتاج إلى التجريب مئات المرات ورؤية الأخطاء ومحاولة تصحيحها والتعلُّم من كل خطأ يقع به، ومحاولة التأقلم مع مختلف الظروف التي يمرُّ بها ليحقِّق النجاح في نشاطه الفني رغم التحديات.
تساعد هذه العملية الدماغ ليصبح أكثر مرونة، فيتأقلم مع مختلف الظروف ويتكيَّف مع التحديات الجديدة والعمل على تحديد الأخطاء ومحاولة تغيير الذات نحو الأفضل من خلال الحلول المبتكرة لمختلف المشكلات، وتعلُّم الصبر والاجتهاد والمثابرة نحو الأفضل في كل شيء، فالفن يعلِّم الناس الإبداع وتخيُّل حلولهم.
8. زيادة التركيز
الانخراط في النشاطات الفنية ومحاولة الإبداع في مجال فني معيَّن أو محاولة الاستفادة والاستماع بالفنون المتنوِّعة يحتاج إلى تركيز كبير لتندمج بالنشاط الفني بكافة مشاعرك، وتستطيع فهم الفنان بالشكل الصحيح أو فهم ذاتك، وهذا الأمر يعلِّم الإنسان التركيز في كل عمل يقوم به ويُعطيه الوقت الكافي والجهد الكافي أيضاً، ومن ثم التطور في مختلف المجالات وتعزيز صحتنا العقلية.
9. تعزيز الشفاء
ربَّما تستغرب إن قلت لك إنَّ الفنون قادرة على جعل الإنسان أكثر قوة ليتمكَّن من التغلُّب على المرض بصرف النظر عن نوعه وتأثيراته في صحته الجسدية، ومنذ آلاف السنين استخدموا الفنون لأغراض صحية لكونها تُشعر المريض بنوع من التحسن، وأشركوا المرضى بنشاطات فنية قدَّمتها المستشفيات أو دور الرعاية الصحية كالرقص أو الشعر أو العزف أو الغناء أو الدراما أو الكتابة، بعد تدريبهم ومساعدتهم على إخراج أحاسيسهم.
أثبتت تلك التجارب أهميتها في زيادة تحمُّل المريض للألم وتحفيزه على المقاومة بتقليل التوتر والضغط ومنحه القوة ليتغلب على مرضه، وخاصة بالنسبة إلى مرضى السرطان والاكتئاب والفصام والخرف واضطرابات المزاج ومختلف الاضطرابات العقلية.
ينطبق الأمر ذاته في حال كان المريض متذوِّقاً وليس فنَّاناً، كما يساعد ذلك العلاج بتحسين حالة العاملين في مجال الرعاية الصحية، وأهل المريض وكل من حوله؛ لأنَّ العبء عليهم يصبح أقل فيقومون بواجبهم بأفضل شكل.
شاهد بالفيديو: فوائد الرسم للصحة النفسية
كيف نعزِّز الصحة العقلية بواسطة الفن؟
يمكن للإنسان المحافظة على صحته العقلية، والتغلب على كافة الاضطرابات من خلال ما يأتي:
1. مساعدة الذات
يمكن للإنسان مساعدة نفسه بنفسه، ويتم ذلك من خلال تسجيل النشاطات الفنية التي تشعرك بالسعادة، فهل تشعر بالراحة عندما تسمع موسيقى معيَّنة أو مغنياً ما؟ أو تشعر بتحسُّن حالتك المزاجية عندما تزور معرض لوحات أو تحضر عرضاً مسرحياً؟ هل تحبُّ الرسم والألوان أو تزيين الطعام أو التطريز أو العزف؟
عندما تكتشف النشاطات الفنية التي تشعرك بالراحة، ستجد نفسك قادراً على التغلُّب على كافة الاضطرابات إن خصصت وقتاً يومياً أو أسبوعياً وفقَ روتين حياتك للقيام بالنشاطات التي تسعدك، فمثلاً يمكن الاستماع لمقطوعة موسيقية جميلة قبل النوم أو استخدام فرشاة وألوان مناسبة لمشاعرك ومحاولة رسم أي شيء لتفريغ مشاعرك، فلا يهم الشكل النهائي المرسوم؛ بل تهمُّ العملية ذاتها.
2. الاستعانة بالمختصين
ابحث عن المعالجين النفسيين بواسطة الفنون، وحاوِلْ التخلص من حالتك السلبية من خلال العلاج بالفنِّ، ولا يحتاج ذلك أن تكون فناناً؛ بل يكفي مثلاً أن تمسك ورقة وقلماً وترسم قليلاً، فيحدِّد الخبير بناءً على ذلك المشكلة التي تعاني منها والاضطرابات المرافقة من انفعال واكتئاب وغيره، ويدفعك لإخراج كافة المشاعر والتعبير عن نفسك والتخلص من الضغوطات اليومية، لتتمكَّن من الاستماع بالحياة ومواجهة تحدياتها والتغلب عليها أيضاً، ولا يقتصر الأمر على المرضى، إنَّما بإمكاننا جميعاً عندما نشعر بالتوتر أن نلجأ إلى جلسات علاجية نستعيد من خلالها استقرارنا النفسي والعقلي.
في الختام
يؤدِّي الإبداع الفني دوراً هاماً في تعزيز صحتنا العقلية، لكونه يساعدنا على التخلص من التوتر والقلق والاكتئاب وكافة الاضطرابات العقلية الناتجة عن تعرضنا لصدمات وتجارب سيئة، أو نتيجة ضغوطات الحياة اليومية، فينقل الإنسان لعوالم أخرى ويبعده عن الهموم والمشكلات.
كما يساعد الفنُّ على اكتشاف الذات من خلال نشاطات فنية تكشف المشاعر ووجهات النظر، كما يساعد على التعبير عن الذات، وإخراج الأفكار والمشاعر التي يصعب التحدث عنها، ولأنَّ إنجاز الأعمال الفنية يُشعر الإنسان بالتقدير لنفسه، فإنَّ الثقة بالنفس تزداد كما تزداد المهارات الاجتماعية؛ لأنَّه يصبح أكثر قدرة على التواصل مع الآخرين والتعاطف معهم أيضاً.
لأنَّ الفنَّ يساعد على الشفاء والتأقلم مع المتغيرات؛ يمكن أن تساعد نفسك بواسطة الفن فتقوم بالنشاطات التي تشعرك بالراحة باستمرار أو تلجأ للمختصين في ذلك؛ لتتخلَّص من توتر ضغوطات الحياة وتستمع بحياتك استمتاعاً طبيعياً.
أضف تعليقاً