ولكن عندما تقل الثقة أو في حال عدم وجودها أصلاً، يمكن للأمور أن تتدهور بسرعة؛ ففي بيئات العمل منخفضة الثقة، من المرجح أن يدير القادة والمديرون الموظفين إدارة تفصيلية، وأن يحجبوا المعلومات الهامة، وأن يمارسوا المحاباة.
يمكن أن يؤدي ذلك إلى إنشاء صوامع المعلومات، وإحداث شروخٍ في القيم التي تتبناها المؤسسة والسلوكات التي تُعزَّز بجدِّية. في المقابل، يمكن أن يؤدي ذلك إلى إعاقة مشاركة الموظف وإنتاجيته، وفي المحصلة إعاقة قدرة المؤسسة على الابتكار وجذب أفضل المواهب والاحتفاظ بها.
يُلخِّص الكاتب "جيسي لين ستونر" (Jesse Lyn Stoner)، مؤلف كتاب "التقدُّم بقوة" (Full Steam Ahead) الثقة في مكان العمل بهذه الطريقة: "يتَّبع الناس القادة باختيارهم. دون ثقة، تحصل على الامتثال في أحسن الأحوال".
إذاً، كيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟
عقد اجتماعي متطوِّر:
تراخى العقد الاجتماعي بين أرباب العمل والموظفين، والذي يوفر فيه أرباب العمل الأمن الوظيفي، ومزايا الرعاية الصحية الشاملة، ومعاشاً تقاعدياً؛ في مقابل تولِّي الموظف مسؤوليات عمله وولائه على مدار الأربعين عاماً الماضية؛ إذ سُوِّيَت الأجور في مختلف الصناعات، وزادت الشركات المزايا التي تقدِّمها.
في حين أنَّ العديد من المهن لم تعد تحمل المستوى نفسه من الأمان الوظيفي كما في الماضي، تسعى القوى العاملة اليوم إلى القيام بعملٍ هادفٍ للشركات التي تتوافق مع قيمها الشخصية. تبصر المنظمات معظمها العلاقة بين الهدف والنمو واكتساب المواهب. يستشهد مقال "غالوب" (Gallup) لعام 2019 بشركة "يونيليفر" (Unilever) كمثالٍ على منظمةٍ تركز على قيم الاستدامة.
لقد تفوَّقت العلامات التجارية - التي تسير وفق الاستدامة في تلك المنظمة - على متوسط معدل النمو لمدة أربع سنوات، كما عُدَّت "رب العمل المفضَّل" بين الخريجين الجدد في 44 من أصل 52 سوقاً للتوظيف في "يونيليفر". ومع ذلك، وبالنسبة إلى العديد من المنظمات، ما يزال هناك مجال للتحسين. وجدت "غالوب" أيضاً أنَّ 27% فقط من الموظفين على درايةٍ بقيم مؤسساتهم، وعلى توافقٍ حقيقيٍّ معها.
تقول مؤسِّسة شركة "آه ها!" (Ah Ha!)، "سوزانا شيلدرز" Susannah Childers: "في النهاية يريد الجميع إحداث فرق؛ حيث تستيقظ كل صباح وتسأل: هل سأفعل شيئاً مفيداً أو هاماً اليوم بطريقةٍ ما؟ إذا لم نشعر أنَّ الوقت الذي نقضيه في العمل ذو معنى، فإنَّنا نميل إلى ترك المنظمة والذهاب إلى مكان آخر".
مرونة أكبر مع مزيدٍ من المراقبة:
التقدم التكنولوجي وخيارات العمل عن بُعد وزيادة المرونة في آلية العمل وتوقيته، جميعها عوامل تؤدي دوراً هاماً في كيفية بناء الثقة في مكان العمل الحديث. بالنسبة إلى بعض موظفي المكاتب، كل ما يحتاجون إليه هو جهاز حاسوب محمول واتصال موثوق بالإنترنت لإكمال عملهم اليومي عن بُعد، وهو درس تعلَّمه الكثير منا في عام 2020.
بينما كان العمل عن بُعد في ازديادٍ قبل انتشار الجائحة، مع نحو 5 ملايين موظف يعملون عن بُعد في عام 2018، كانت هنالك مؤسسات عدة غير مستعدة لتبنِّي العمل عن بُعد تماماً.
هناك بعض النظريات التي تفسر لماذا ما تزال بعض المنظمات غير مستعدةٍ لتبنِّي العمل عن بُعد. وفقاً لـ "جمعية مديري الموارد البشرية" (the Society for Human Resources Managers): تسمح الشركات للموظفين بالعمل عن بُعد دون الخضوع إلى التدريب أو تأمين الموارد التي تسمح بالقيام بذلك بشكل منتج.
قد لا يتم تدريب المديرين على الإشراف على العمال ومراقبتهم عن بُعد، فيجدون أنَّه من السهل إدارة الموظفين في مكان العمل. وقد يشعر بعض المديرين أنَّهم لا يملكون السيطرة أو لا يثقون بموظفيهم ولا يشعرون بالراحة مع الموظفين الذين يعملون عن بُعد، أو قد يجد أرباب العمل أنَّ العاملين عن بُعد ليسوا منتجين بالقدر الذي يكونون عليه ضمن المكتب.
يتعامل المثالان الأخيران مباشرة مع كيفية ثقة المنظمة بموظفيها عندما لا يكونون في المكتب؛ نتيجةً لذلك، فإنَّ بعض أرباب العمل الذين لا يثقون كثيراً بالعمل عن بُعد، قد يراقبون بنشاطٍ إنتاجية القوى العاملة لديهم من خلال تقنيات المراقبة عن بُعد.
خذ على سبيل المثال التكنولوجيا التي تتعقب ضغطات المفاتيح وأوقات الخمول. يبدو أنَّ هذا سيساعد على الحفاظ على الإنتاجية، ولكن وبسبب كيفية استعمال تلك التكنولوجيا في التواصل مع الموظفين، يمكن أن يشعروا أنَّهم يعامَلون بشك.
نظراً لأنَّ العديد من المنظمات قد انتقلت فجأةً إلى العمل عن بُعد هذا العام، فإنَّ العديد من هذه المشكلات ما تزال في طور الحل، خاصةً إذا لم تكن المنظمة قد تبنَّت خيارات العمل عن بُعد تبنِّياً كاملاً قبل انتشار الجائحة. ومن ناحيةٍ أخرى، تزدهر في الوقت الحالي تلك المؤسسات التي تثق بإنتاجية قوَّتها العاملة عن بُعد.
القيم المنفصلة تغذي مشكلات الثقة:
يمكن أن تنبع مشكلات الثقة في مكان العمل أيضاً على مستويات القيادة والإدارة داخل المنظمة. في بعض الأحيان، ينبع الانفصال الذي يشوِّه الثقة من اختلاف الدوافع التي توجِّه أرباب العمل والموظفين.
إنَّ العوامل التي توجِّه عجلة القيادة هي الصورة الكبيرة، بالإضافة إلى تلك القضايا طويلة الأمد، كالأداء المالي والإنتاجية وسمعة العلامة التجارية. وفي الوقت نفسه، يهتم الموظفون أكثر بالخبرات اليومية عن بيئة العمل والعمل الهادف وفرص التقدُّم.
يدرك القادة والمديرون أنَّ العمل الهادف والتقدم الوظيفي يُعدَّان من أهم المحفزات بالنسبة إلى الموظفين؛ وذلك وفقاً لتقرير تطوُّر العمل 2.0 المقدَّم من (ADP). ومع ذلك، قد يكون الموظفون حذرين بشأن جدوى وعدالة هذه المبادرات، كما جاء في تقرير (ADP).
إذا كانت إحدى المؤسسات تعاني من هذا الانفصال ولم يُستَكشف، فقد يؤدي ذلك إلى انخفاض الثقة وزيادة معدل دوران القوى العاملة.
تتمثل إحدى طرائق مواءمة قيم القيادة مع قيم الموظفين في الاستثمار في مبادرات التعلم والتقدم، التي تسمح للأفراد ببناء وظائف هادفة على جميع المستويات داخل المؤسسة. ومن خلال الاستفادة من اهتمامات الموظفين في التقدم، تتعزز القيمة التي يخلقونها للمؤسسة وتحصل الشركة على سمعةٍ قويةٍ فيما يخص تنمية المواهب.
تقول "شيلدرز": "هناك شركات معروفةٌ بتوظيف الأفضل وتدريبهم. لا توجد مساحةٌ كافية للجميع ليصعدوا السلم الوظيفي؛ لذلك يتابع بعض الأشخاص طريقهم نحو منظماتٍ أخرى. ولكن عندما يُعرَف عن شركةٍ ما أنَّ لديها مثل هذا التركيز القوي على برامج التعلم والتدريب الخاص بهم، فإنَّها تجذب أفضل الأشخاص".
هناك مفتاح آخر لبناء الثقة في مكان العمل - لا سيما في ثقافةٍ يمكن أن يزدهر فيها الابتكار - وهو القيادة التي تسعى إلى رعاية أفكار الموظفين وإجراء حوارات داخل المنظمة الأكبر.
من الهام للقادة أن يساندوا موظفيهم ويدافعوا عما تؤمن به فرقهم، فهذا يساعد على مواءمة الرؤية التي يمتلكها القادة للمؤسسة مع نشاطات الموظفين. إذا كان هناك بعض الخلاف، فهذه فرصة رائعة للبحث عن الوضوح وبناء تفاهمٍ أعمق مع بعضنا بعضاً. يمكن أن يساعد ذلك على تسهيل بناء الثقة خلال العملية، كما أنَّه يساعد القيادة على فهم مكان وجود الموظفين ضمن المخطط الكبير للأمور.
يمكن أن يؤدي التغيير في مكان العمل أيضاً إلى خلق مشكلاتٍ في الثقة للعديد من الموظفين. يشعر ما يصل إلى ثلث العاملين بالسخرية من التغيير ويشككون عندها بدوافع القيادة؛ وذلك وفقاً للدراسة الاستقصائية للعمل والرفاهية لعام 2017 التي أجرتها الجمعية الأمريكية لعلم النفس.
ذكر 34% من الموظفين أنَّ ثقتهم برب عملهم تهتز عندما تكون الشركة في طور التغيير التنظيمي، بينما يعتزم 46% منهم البحث عن فرص عمل في مكان آخر، وذلك وفقاً لدراسة (APA). إنَّ التغيير - خاصةً في عالم الأعمال - أمر لا مفر منه، لكنَّه لا يتطلب تحطيم الروح المعنوية والثقة داخل المنظمة.
يقول "ديفيد و. بالارد" (David W. Ballard) رئيس مركز (APA) للتميز المؤسساتي: "لبناء الثقة والمشاركة، يحتاج أرباب العمل إلى التركيز على بناء مكان عملٍ صحي نفسياً، يشارك فيه الموظفون بنشاطٍ في تشكيل المستقبل والثقة بقدرتهم على النجاح".
يتعلق الأمر في بعض الأحيان بالتخلي عن أسلوب القيادة والسيطرة في مواقف معينة، وتعزيز اتخاذ دور الميسِّر بصفته قائداً للإظهار للموظفين أنَّ أصواتهم تحظى بالتقدير، وأنَّه من الآمن مشاركة وجهات نظرهم.
بناء روابط تقود إلى الثقة:
يؤدي المديرون دوراً هاماً في طريقة تجربة الموظفين ضمن مكان عملهم. يمكن أن يؤثروا بما يصل إلى 70% في التباين في مشاركة الموظفين داخل المنظمات، وفقاً لتصريح "غالوب" عن المدير الأمريكي.
يشكِّل المديرون الخط الأمامي للثقة بالنسبة إلى معظم الموظفين، الذين قد يعتمدون في تجربتهم العامة على تفاعلاتهم اليومية مع مديريهم. ويمكن أن تتضمن الإجراءات التي تؤدي إلى عدم الثقة بين المديرين والموظفين نقص الدعم، وعدم الاتساق في التواصل، وحدوث شروخ في الاتصال بين قيم الشركة وإجراءات المدير.
والجدير بالذكر أنَّه عندما يحدث هذا، فليس السبب بالضرورة أنَّ المديرين يتعاملون بسوء نية؛ فيمكن أن يكونوا مرهقين، أو أنَّهم يحاولون التعامل مع بيئة عمل سياسية جداً دون أن ينتهي بهم الأمر باحتمالية إزالتهم من عملهم.
إذا رأى الموظفون أنَّهم يعملون في بيئةٍ منخفضة الثقة، فقد يلجؤون إلى حماية مصلحتهم الخاصة أو يمتنعون عن المشاركة الفاعلة. قد يكونون أكثر ميلاً إلى حجب المعلومات عن زملائهم، أو التشكيك بأهداف المنظمة، أو الانسحاب من عملهم، أو البحث بإرادتهم عن فرصٍ في أماكن أخرى.
يحتاج الموظفون إلى الشعور بالأمان والانتماء. يجب أن تُبنَى بيئة عمل عالية الثقة في جميع مستويات المؤسسة، ولكن في أغلب الأحيان تحدد الإدارة المعيار من خلال العيش وفقاً لقيم المنظمة والحفاظ على المسؤولية فيها.
في النهاية، يجب على المؤسسة أن توجِّه ما يتوقعه الناس من بعضهم بعضاً، وكيف تريد أن يتصرف الموظفون داخل الشركة. يمكن للقادة البدء بمساءلة القادة والمديرين الآخرين لدعم قيم الشركة، سواء كان ذلك من خلال إظهار العمل الجماعي عبر التعاون أم تحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية.
شاهد بالفديو: 8 طرق لبناء الثقة في العلاقات
يبدأ تعزيز الثقة مع كل فردٍ منا:
في حين أنَّ بناء أو إصلاح الثقة في مكان العمل يُعَدُّ جهداً جماعياً، إلَّا أنَّها عملية يمكن أن تبدأ مع كل فرد منا، والتفكير في كيفية اختيار نمط تفاعلنا مع بعضنا بعضاً.
بصرف النظر عن نوع البيئة التي نعمل فيها، يمكننا جميعاً بناء روابط أقوى مع زملائنا من خلال الإصغاء فعلياً في أثناء المحادثات، وأخذ الوقت الكافي لتعرُّف بعضنا بعضاً على المستوى الشخصي، وتقدير إسهامات كل فرد منا.
تُبنى الثقة مع مرور الوقت. كلما زادت تفاعلات الناس نَمَت فيهم المشاعر الإيجابية، سواء كان ذلك من حسن النية، أم نتيجة شعور الشخص بأنَّه مسموع ومحترم. العمل من أجل الحفاظ على الثقة في مكان العمل أو تأسيسها أو إعادة تأسيسها؛ هي رحلة يجب تسهيليها من قِبل جميع المنظمات.
يستغرق التقدم وقتاً وسيكون عمليةً تفاعليةً تتطلب من كل منا أن يكون سبَّاقاً في مشاركته. ولكن عندما يعمل القادة والمديرون والموظفون معاً لخلق بيئةٍ يمكن أن تزدهر فيها الثقة، سيستفيد كل واحد منَّا على الصعيدين المهني والشخصي.
أضف تعليقاً