تتناول الفلسفة الديكارتية مفاهيم العقل والوعي؛ إذ يقدِّم "ديكارت" وجهة نظر عن العلاقة بين الجسد والعقل وتنبؤاته بالذكاء الاصطناعي، ويلقي المقال الضوء أيضاً على تفكير "تورنغ" الذي وضع أساساً لاختبار الذكاء، وكيف تؤثر هذه الفلسفات التاريخية في الفهم الحالي للذكاء الاصطناعي وتطوره.
ما هي الشكوكية السقراطية؟
الشكوكية السقراطية هي نهج فلسفي يعود إلى الفيلسوف اليوناني القديم "سقراط"، ويتميز هذا النهج بتشجيعه على التساؤل والاستفهام المستمر؛ إذ يَعُدُّ سقراط الجهل العدو الأساسي للإنسان، فيقوم الشخص بتوجيه الأسئلة بطريقة حادة ومفاجئة لتحفيز التفكير النقدي والبحث عن الحقيقة، ويركز "سقراط" على فحص المفاهيم والقيم المجتمعية من خلال الحوار الذي يقود إلى فهم أعمق وأكثر دقة.
لا تقتصر الشكوكية السقراطية على الشك في المعرفة الشخصية فحسب؛ بل تتسم أيضاً بشكوك تجاه القيم والتقاليد الاجتماعية، ويهدف "سقراط" من خلال هذا الأسلوب إلى تحفيز الفرد على استكشاف معتقداته والوصول إلى فهم أعمق عن مفهوم الحقيقة والفضيلة.
دروس حياتية من الفلسفة الشكوكية السقراطية:
تشجع الفلسفة الشكوكية لدى "سقراط" على استجواب القيم الاجتماعية، والسعي إلى الحقيقة، وعيش حياة ذات معنى وأخلاق، ومن الدروس حياتية من الفلسفة الشكوكية السقراطية:
- تشكل حياة وموت "سقراط" التراجيديتان أسطورة أساسية لتخصص الفلسفة، مسلطة الضوء على أهمية التساؤل وتحدي القيم الاجتماعية.
- يشمل الأسلوب السقراطي - المعروف باسم "اليلنكس" - تحليل الحجج والافتراضات بناءً على الحقائق للبحث عن الحقيقة والصحة.
- كان "سقراط" يؤمن بأنَّ التفكير النقدي واستجواب الآخرين أمران أساسيان لسعينا وتطوير فهمنا للحياة والمجتمع.
- الدفاع عن مبادئنا الأخلاقية، حتى على حساب المخاطر الشخصية، أمر أساسي لكوننا بشراً أخيار.
- اعتماد جوانب من تواضع "سقراط" يؤدي إلى حرية أكبر والقدرة على التواصل مع أنواع مختلفة من الناس، بصرف النظر عن الوضع الاجتماعي.
- كان "سقراط" يؤمن بالتركيز على المبادئ الأخلاقية المشتركة التي تربطنا، بدلاً من الاختلافات الظاهرة بيننا، للتفاعل بصفتنا مواطنين في هذا العالم.
- السعادة ليست نتيجة لامتلاك مزيد من الأشياء، ولكنَّها نتيجة لعقلية تقدِّر الأشياء الصغيرة في الحياة، وهذا يبرز أهمية تنمية الحالة الذهنية الداخلية بدلاً من متابعة الممتلكات الخارجية.
الشكوكية السقراطية في عصر الذكاء الاصطناعي:
يمكننا استعراض موقف الشكوكية السقراطية في عصر الذكاء الاصطناعي، كما يلي:
الموقف السقراطي:
كان لدى "سقراط" رؤية مميزة عن ظهور الكتابة، ففي أحاديثه المتعددة، يخلد "بلاتو" - تلميذه - اعتقاد "سقراط" بأنَّ الحكمة تزدهر في نسيم الحوار الحي، لا في السكون الذي يتمثل في النصوص الصامتة، وكان يدافع عن الطابع الدينامي للحوار الشفوي؛ إذ يمكن تنمية الأفكار وتحديها وتحويلها في مهب الحوار.
ممانعة العصر الرقمي الحديث:
في زماننا، أثار الكشف عن الذكاء الاصطناعي ونماذج اللغة الطبيعية مثل (GPT) مزيجاً من الإعجاب والشك، ويوجد خيط مميز من "التماسك الفكري"، يذكرنا بتخوفات "سقراط"؛ إذ يعبِّر النقاد المعاصرون - تماماً مثل "سقراط" - عن مخاوف بأنَّ الاعتماد المفرط على الذكاء الخوارزمي قد يؤدي إلى تآكل جوهر الإبداع الإنساني والتفكير النقدي، كأنَّ روح "سقراط" تتردد، وتستجوب تبعيتنا الرقمية.
مفارقة التقدم:
هنا حيث تكمن سخرية القدر؛ إذ إنَّ تقنيات الحاضر التي تشكل نقطة التشكيك الكبيرة تعيد إلى الحياة المثل السقراطي، كما أنَّ الطابع التفاعلي للذكاء الاصطناعي الذي يعتمد على الصوت ونماذج الحوار يعكس مبادئ أسلوب "سقراط"؛ إذ يسعى إلى المشاركة الإنسانية في تبادل المعرفة، فإنَّها تطور غريب، ويبدو أنَّ طموحاتنا المستقبلية تعيدنا إلى المحادثات الفلسفية تحت سماء "أثينا".
اعتناق الجديد واحترام القديم:
يقدِّم هذا التلاقي بين الفلسفات القديمة والحديثة رؤية حاسمة، وبينما نعبر عبر أمواج التحول الرقمي، تُعَدُّ الشكوك التأملية للإغريق مصباحاً يرشدنا؛ إذ تطرح سؤالاً: "هل نفقد لمسة الإنسان كما كان يخشى سقراط؟ أم أنَّنا على حافة نهضة فكرية جديدة؟"، يكمن المفتاح في اعتناق التقدم التكنولوجي مع الابتعاد عن الحكمة الإنسانية والتفكير النقدي.
رحلتنا خلال العصر الرقمي مقابلة للحكمة الفلسفية القديمة؛ إذ تكشف تقدُّماً رائعاً في التفكير الإنساني، وتجد مناقشات سقراط وأقرانه عن الكلمة المكتوبة تجسيداتها في معضلاتنا الرقمية الحالية، ومع تقدُّمنا، دعونا لا ننسى قيمة هذا الحوار القديم في التفاعل مع التغيير بنقد وتأمل، ضماناً لأن يكون مسارنا القادم ليس غنياً تكنولوجياً فقط، لكن فلسفياً أيضاً.
شاهد بالفيديو: وظائف لا يمكن للذكاء الاصطناعي القيام بها
التبريرات الفلسفية لـ "ديكارت" عن وجود الذكاء الاصطناعي:
"رينيه ديكارت" هو أحد أكثر الفلاسفة تأثيراً في العصر الحديث، ويُعرَف بإسهاماته الرائدة في الفكر الفلسفي، ومن ذلك آراؤه عن الذكاء الاصطناعي، ففي عمله الشهير "تأملات في الفلسفة الأولى"، وضع "ديكارت" أسساً لاحتمال وجود آلات تتصرف كما لو كانت لديها عقول ووعي مثل البشر.
بدأ ديكارت صاحب فلسفة ومنهج الشك بتفريق الإنسان إلى مادة جسدية وعقل لا مادي (أو روح)، ووجَّه حجة بأنَّه بينما يمكن فحص الأجسام الفعلية بشكل موضوعي، يمكن معرفة الأفكار والحالات العقلية فقط من خلال التفكير الداخلي، ويُلخِّص هذا الفكر في قوله: "أنا أفكر، إذاً أنا موجود".
أقام حجة زيادية بأنَّه نظراً لأنَّ التفكير أمر أساسي لوجود الفرد، يجب بالضرورة أن يكون من الممكن لكائن أن يفكر دون أن يمتلك جسداً فعلياً، وهذا دفعه للإيمان بإمكانية إنشاء آلة فكرية يمكنها العمل بشكل مشابه للإنسان.
بالنسبة إلى "ديكارت"، كان العامل الرئيس في تحديد ما إذا كان شيء ما قادراً على التفكير هو معالجة اللغة، فكان يعتقد أنَّه إذا كان بإمكاننا إنشاء آلة قادرة على فهم واستخدام اللغة بطلاقة، فإنَّ ذلك سيُظهِر دليلاً على وجود ذكاء حقيقي.
بمعنى آخر، رأى أنَّ معالجة اللغة تُعَدُّ علامة أساسية للوعي، مُستدلاً على أنَّه يجب أن يوجد نوع من القدرة الداخلية داخل مثل هذه الآلة تحتفظ بالمفاهيم والأفكار من خلال لغات تشبهنا نحن البشر، فقد أسست إسهامات "ديكارت" وتبريراته لأساس مفاهيمي هام لمفهوم الذكاء الاصطناعي.
هل يمكن للآلات التفكير؟
طُرح هذا السؤال الهام في عام 1950 من قِبل عالم الرياضيات وعالم المنطق البريطاني "آلان تورنغ"، وشدد على أنَّ النهج التقليدي لهذه المسألة يكمن أولاً في تحديد مفاهيم "الآلة" و"الذكاء".
مع ذلك، اتخذ "تورنغ" مساراً مختلفاً، ففي الواقع، استبدل السؤال الأصلي - الذي وجده تقريباً مستحيلاً للإجابة عنه - بسؤال آخر "يتصل اتصالاً وثيقاً بالأصل وهو أقل غموضاً نسبياً"، وببساطة، اقترح استبدال سؤال: هل يمكن للآلات التفكير؟ بسؤال أبسط: "هل يمكن للآلات فعل ما نستطيع نحن (بوصفنا كائنات مفكرة)"؟
يمكن عَدُّ الكمبيوتر ذكياً إذا كان قادراً على جعلنا نعتقد أنَّنا لا نتعامل مع آلة؛ وإنَّما مع شخص، وميزة السؤال الجديد - وفقاً لـ "تورنغ" - هي أنَّه يرسم خطاً واضحاً بين القدرات الجسدية والفكرية للإنسان؛ إذ يقدِّم "تورنغ" اختباراً تجريبياً.
جوهر اختبار "تورنغ" الفعلي والعملي هو كما يأتي؛ إذ يوضع القاضي والإنسان والآلة في غرف مختلفة، فيتواصل القاضي مع الإنسان والآلة، دون معرفة مسبقة بأي من المتحدثين هو إنسان وأيهما آلة، ويتم تحديد وقت الرد على سؤال بحيث لا يمكن للقاضي تحديد الآلة من خلال هذه الخاصية (في زمن تورنغ، كانت الآلات أبطأ من البشر، ولكنَّ الآن تتفاعل بشكل أسرع وهذا الحد لم يعد هاماً).
إذا لم يتمكَّن القاضي من تحديد أي من متحدثَيه هو الآلة، فإنَّ الآلة قد اجتازت اختبار "تورنغ"، ويمكن عَدُّها مفكرة، والأهم، لن تكون الآلة مجرد تشابه للعقل البشري؛ بل ستُعَدُّ ببساطة عقلاً مستقلاً، ولن يكون لدينا وسيلة للتمييز بين سلوكها وبين سلوك الإنسان.
يُطلق على هذا التفسير الذكاء الاصطناعي كما يُسمى "الذكاء الاصطناعي القوي"، فيجب أن نلاحظ أنَّ اختبار "تورنغ" لا يعني على الإطلاق أنَّه يجب على الآلة فهم جوهر الكلمات والتعابير التي تعمل بها؛ بل تحتاج الآلة فقط إلى تقليد استجابات ذات معنى لتُعَدَّ ذكية حقاً.
ما هي التفسيرات الحديثة لفلسفة الذكاء الاصطناعي؟
تطورت النظرة الفلسفية الحديثة للذكاء الاصطناعي تطوراً كبيراً منذ عصور "ديكارت" و"تورنغ"، ففي الوقت الحاضر، يدرك عدد من الفلاسفة أنَّ الآلات يمكنها محاكاة جوانب من الإدراك واتخاذ القرارات، ولكنَّهم أقل اقتناعاً بأنَّ الآلات حقاً واعية أو تمتلك عقلاً بالمعنى نفسه مثل البشر.
جانب هام من الفلسفة المعاصرة المتعلقة بالذكاء الاصطناعي هو اعتمادها على علم الأعصاب الحاسوبي؛ إذ يَعُدُّ علماء الأعصاب الحاسوبيين العقل نظاماً حاسوبياً، وقد سعوا إلى فهم كيف يمكن للخوارزميات والبرامج أن تقلِّد عمل العقل البشري، ومع ذلك، يظلون حذرين تجاه مدى قدرة الأنظمة الاصطناعية على "فهم" المعنى أو "التفكير" حقيقة في الطريقة التي يفكر بها البشر.
يوجد أيضاً مجال في الفلسفة يُسمى "فلسفة العقل" يتناول أسئلة عن الوعي وما إذا كان ينشأ من العمليات الحاسوبية، ويُجادل بعض الفلاسفة بأنَّ الوعي ينبع من حوسبات معقدة، في حين يزعم آخرون أنَّه لا يمكن تحميل الوعي على الإطلاق.
يوجد نهج آخر نحو الذكاء الاصطناعي في الفلسفة يأتي من ناحية الأخلاق؛ إذ يحرص الفلاسفة على استكشاف المسائل الأخلاقية التي تنشأ عند تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، مثل المسؤولية عن أفعال الآلة (من يتحمل اللوم عند وقوع أخطاء) أو مسؤولية سلوك الآلة مقارنةً بسلوك الإنسان.
بينما يظل الشك موجوداً إلى حد ما حول إمكانية تحقيق الذكاء الحقيقي من خلال الميكانيكا الحسابية وحدها، يعترف معظم الفلاسفة بأنَّ أنظمة الذكاء الاصطناعي يمكنها تحقيق إنجازات رائعة، خاصةً عندما يقوم الخبراء ببنائها بمكونات تفكير معقدة تشبه عمليات التفكير البشرية.
في الختام:
في ختام رحلتنا إلى عالم الشكوكية السقراطية وفلسفة "ديكارت" و"تورنغ" في عصر الذكاء الاصطناعي، ندرك أهمية هذه الفلسفات التاريخية في فهم تحدياتنا الحديثة، فبينما تشدد الشكوكية السقراطية على أهمية التساؤل واستكشاف جوانب الذكاء، تقدِّم فلسفة "ديكارت" و"تورنغ" لمحة عن عقلية الإنسان وكيفية تفاعلها مع التكنولوجيا المتقدمة.
في زمن الذكاء الاصطناعي، تظل هذه الفلسفات المرشد؛ إذ تسلط الضوء على تحدياتنا الأخلاقية والفلسفية، وتعزز الحاجة المستمرة إلى التأمل في طبيعة الوعي والتفكير في عالم تسيطر عليه التكنولوجيا.
أضف تعليقاً