يقيد حريتك، ويجتاح مساحتك الشخصية، ويشكك بتحركاتك، ويتتبع تفاصيل حياتك ونشاطاتك لحظة بلحظة تحت شعار أنَّه يرعاك ويحبك ويخاف عليك، ويسيء الظن بالآخرين على الدوام، ويغار ويحسد ولا يتمنى الخير للآخرين تحت شعار الحرص والحذر؛ ولكن، أيُّ حرص ذاك الذي يضرب بعرض الحائط كل القيم الإنسانية الراقية، ويجعل من الشخص مهووساً بالشك، ولا يعترف بوجود القلب الطيب والنية الحسنة لدى الآخرين، وينظر إليهم على أنَّهم أشرار يرتدون زي صديق أو حبيب أو جار؟
إنَّه فاقد للثقة بكل شيء في الحياة، الأمر الذي يرهق الطرف الآخر ويدفعه إلى الهرب من علاقة مؤذية ومستهلكة للطاقة والحياة والحماس؛ فهو يملك قدرة هائلة على إخماد طاقة الطرف الآخر الذي تراه دائم التبرير والقلق والتوتر من جراء الاتهامات الهائلة الموجهة إليه.
يتَّبع سياسة غريبة الأطوار في تأويله للأمور وتفسيره للكلمات، فيميل إلى خلق نظرية تآمرية تُحاك ضده من جراء موقف صغير وبسيط حدث معه ولا يدعو إلى الريبة نهائياً، وينزع إلى تفسير ضحكة صادقة وعفوية على أنَّها ضحكة ساخرة تمسُّ كرامته ووجوده؛ الأمر الذي يُنفِّر الآخرين منه بسبب حساسيته المفرطة وشكوكه اللامنطقية والوسواسية.
يحمل قلبه كماً كبيراً من المشاعر السلبية والأفكار السوداوية والنوايا الخبيثة تجاه الآخرين، دون أن يسعى إلى المسامحة والغفران ولو لمرة واحدة في حياته؛ فتجده عدوانياً وعنيفاً ودائم الغضب بفعل مخزون الطاقة السلبية المعتمل في داخله.
لا يعترف هذا الشخص بمرضه البتة، بل يفعل كل ما بوسعه لكي يجعلك أنت المريض والظالم والمفتري، ولديه قدرة هائلة على قلب الموازين لصالحه هو.
يطول الحديث عن الشخصية الاضطهادية التي تعدُّ من أصعب الشخصيات التي يمكن أن تتعامل معها على الإطلاق؛ لذا دعونا نتعرف عليها من خلال هذا المقال.
ما هي الشخصية الاضطهادية (البارانوية)؟
تُصنَّف الشخصية الاضطهادية على أنَّها اضطراب من اضطرابات الشخصية التي لا يدرك الشخص المصاب معاناته منها، وتعيقه عن أداء مهامه الحياتية، وتؤثر في جوانب حياته المهنية والدراسية وتواصله مع الآخرين.
يكون الشخص المصاب باضطراب الشخصية الاضطهادية دائم الحساسية والشك بالآخرين، حيث يفسِّر أصغر موقف عفوي يقومون به على أنَّه خطة شريرة من أجل إيقاع الأذى به وتدميره، ويفترض مسبقاً كراهيتهم له دوماً.
ما أعراض الشخصية الاضطهادية (البارانوية)؟
لكي نشخص إصابة شخص ما باضطراب الشخصية الاضطهادية، يجب أن يعاني من أغلب الأعراض الآتية:
1. الارتيابات التي لا أساس لها:
يملك هذا الشخص شكوكاً وأفكار سلبية بخصوص نوايا الآخرين نحوه، ويفكر أنَّ الآخرين يخططون لإيذائه واستغلاله بشتى الطرائق؛ فمثلاً: إن عُرِضَ عليه شخص ما المساعدة بنية طيبة وصادقة، فإنَّه يشك بتلك المساعدة ويتعامل معها على أنَّها أذية مستترة خلف قناع المساعدة.
2. الهلع من استخدام أي شيء ضده:
إنَّ من أصعب سمات الشخصية الاضطهادية على الإطلاق "عدم الإدلاء بأيِّ معلومة تخصها بسبب خوفها الشديد من استخدام هذه المعلومات كورقة ضغط عليها لاحقاً، أو كوسيلة لاستغلالها والتلاعب بها".
3. المهارة في قلب الأحداث:
الشخصية الاضطهادية محترفة في الإسقاط؛ فهي تعمل على تحميل الآخرين مسؤولية أفعالها المشينة، وتقلب الأمور إلى صالحها معتبرة نفسها ضحية للآخر.
4. لا تقبل النقد على الإطلاق:
تبعد الشخصية الاضطهادية كل البعد عن المرونة، وهي متعصبة جداً لأفكارها وآرائها؛ وفي حال تعرضت إلى النقد من قبل شخص ما، تستشيط غضباً، ولا تتوانى عن كيل أبشع الألفاظ والإهانات بحقه.
في المقابل، تعطي الشخصية الاضطهادية الحق لنفسها بانتقاد كلِّ الأشخاص المحيطين بها.
5. جفاف القلب وعدم الغفران:
تعاني الشخصية الاضطهادية من جفاف القلب وتبلد المشاعر، ويحمل قلبها الكثير من الضغائن؛ فهي لا تنسى أي موقف قام به الآخرون تجاهها مهما صغر، ولا تسامح نهائياً.
أيضاً، تميل هذه الشخصية إلى الحسد والغيرة، فتجدها تغار بشدة من نجاح الآخرين دون أن تفكر في مقدار تعبهم وجهدهم المبذول للوصول إلى هذه الدرجة من التميز.
6. الشَّك المريض بشريك الحياة:
تميل الشخصية الاضطهادية إلى الشك بشريك الحياة، فتشك بخيانته وعدم وفائه وإخلاصه لها، وتتبع طرائق استخباراتية تجعل حياة شريكها جحيماً؛ فتجدها دائمة التلصص والتجسس على مكالماته ورسائله وحساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، وملتزمة بمراقبتها لتحركاته لحظة لحظة؛ الأمر الذي يصيب شريكها بالضيق النفسي والنفور منها، ويسبب له الأمراض العضوية الناتجة عن كبت المشاعر، مثل التهاب الكولون العصبي، وتسرع ضربات القلب، وآلام المعدة، وضيق الصدر، واضطرابات النوم، والإسهال أو الإمساك.
7. التفسيرات السيئة الشريرة:
لا مكان للنية الصافية أو النقية في عقل وقلب الشخصية الاضطهادية؛ فهي تميل إلى تفسير كل ما يُقال أو يحدث أمامها بسوء ظن ونية شريرة، وتعيش وهي مؤمنة بخضوعها التام لنظرية المؤامرة، حيث تشعر أنَّ الجميع يتآمر لإيذائها والنيل منها، وبمن فيهم: أهلها وأقرباؤها.
8. التكبر والغرور:
تعيش الشخصية الاضطهادية بعقلية المتكبر الفارغ من الداخل، حيث تتلذذ بفرض الأوامر والإهانات بحق الآخرين، في حين لا تسمح أن يخطئ أيُّ شخص بحقها.
ما أسباب تكوين الشخصية الاضطهادية؟
1. العامل الوراثي:
تزداد نسبة استعداد الطفل للإصابة باضطراب الشخصية الاضطهادية عندما يكون أحد الوالدين مصاباً بهذا الاضطراب.
2. العامل البيئي:
لقد عانت الشخصية الاضطهادية من بيئة عائلية غير دافئة في أثناء فترة طفولتها؛ فهي لم تُعطَى الحنان اللازم، ولم يُشبَع احتياجها النفسي بالشكل الصحيح، وعُومِلت بقسوة وعنف عوضاً عن احتوائها وبناء ثقتها بنفسها، واعتُمِد معها أسلوب النقد اللاذع والتوبيخ بدلاً من أسلوب التحفيز والترغيب.
ستظهر لدى الطفل الناشئ في بيئة كهذه شكوك خطيرة تجاه الآخرين، حيث حرَّض ما اختبره من انفصال عاطفي شديد عن أبويه في طفولته الشكوك السلبية لديه تجاه الآخرين عموماً.
أيضاً، يعدُّ ضعف الثقة بالنفس الأساس الذي تُبنَى عليه الشخصية الاضطهادية، وتعدُّ العامل المساعد على تطويرها، ومن ثمَّ يتضخم الأمر ليشمل الشكوك المتواصلة والمستمرة بالآخرين وغير المبنية على أساس منطقي.
3. الدافعية:
قد لا يعاني الطفل من اضطراب الشخصية الاضطهادية رغم وجود العامل الوراثي في العائلة، والبيئة العائلية القاسية؛ ويعود هذا إلى الدافعية، حيث تكون السمات الشخصية للطفل قوية ومميزة.
في المقابل، قد لا يكون هناك عامل وراثي في العائلة، وقد يتمتع الطفل ببيئة سليمة نفسياً، إلَّا أنَّه قد يصاب باضطراب الشخصية الاضطهادية؛ ويعود ذلك إلى السمات الشخصية الضعيفة للطفل، حيث يملك عامل دافعية مشوشاً وهشاً.
4. الصدمات النفسية المتكررة:
يؤدي تعرُّض الشخص إلى صدمات نفسية متكررة، مع عدم وجود وعي كافٍ بضرورة استنباط الدروس الإيجابية من التجارب السلبية واستكتشاف نقاط الضعف في الشخصية التي جذبت هذه المواقف إلى حياته؛ إلى زيادة احتمال إصابة الشخص باضطراب الشخصية الاضطهادية.
علاج الشخصية الاضطهادية:
يؤدي التعامل مع الشخصية الاضطهادية إلى استكانة الطرف الآخر واعترافه بشيء لم يقترفه أساساً؛ وذلك لعدم قدرته على مجاراة الشخصية الاضطهادية في قدرتها على الجدال المستمر وتزوير الحقائق وقلب الموازين إلى صالحها، ويتطور الأمر بعد ذلك إلى إصابته بالاكتئاب والذبول والاحتراق النفسي؛ لذا:
- لا تراهن على تغيير الشخصية الاضطهادية، بل راهن على تغيير ردة فعلك تجاه أفعالها.
- لا تسمح لها أن تستدرجك إلى معاركها ونقاشاتها العقيمة، بل انسحب من هكذا مواقف، وإلَّا ستتأذى.
- لا تنتقد الشخصية الاضطهادية بشدة؛ وإن كان لابد من انتقادها، انتقدها بأسلوب لطيف ورفق ولين.
- اسعَ جاهداً إلى جعلها مستبصرة بوضعها ومدركة لمرضها؛ وذلك لكي تبدي اهتماماً للتغيير والعلاج.
- تمتع بقدر كبير من الصبر والحكمة في أثناء تعاملك مع الشخصية الاضطهادية، وتحديداً إن كانت قريبة منك.
- ابقَ مصراً على آرائك وأفكارك ولا تتنازل عنها لكي ترضي غرور الشخصية الاضطهادية، وإلَّا ستتمادى معك وتجتاح حريتك ومساحتك.
- استعن بطبيب نفسي موثوق في حال عدم جدوى اتباع الأساليب السابقة معها.
على المعالج النفسي التمتع بالصبر والحكمة في أثناء علاجه للشخصية الاضطهادية؛ فهي دائمة التشويش في حديثها، وتبتعد عن الفكرة الرئيسة الجوهرية دوماً.
يستطيع المعالج استخدام العلاج النفسي المعرفي السلوكي من خلال العمل على جعل المريض يستشعر النتائج السلبية لسوء ظنه بالآخرين، ومن ثمَّ يستبصر أهمية تغيير أفكاره للوصول إلى حياة أفضل.
الخلاصة:
اهتموا بأطفالكم، واسعوا جاهدين إلى زرع الثقة والقوة في شخصيتهم، حيث تنشأ أغلب الاضطرابات الشخصية نتيجة التربية القاسية الخالية من العواطف والحنان، كما يعدُّ تحطيم ثقة الطفل بنفسه والانتقاد اللاذع أساس كل مرض نفسي.
أضف تعليقاً