تُظهِر أبحاث علم الأعصاب وعلم الاجتماع أنَّ معظم الناس لديهم ما يُعرف بالانحياز إلى التفاؤل (optimistic bias)؛ أي إنَّهم يميلون إلى الاعتقاد بأنَّ المستقبل سيكون أفضل بكثيرٍ من الحاضر أو أنَّ الأمور ستصبح أفضل ممَّا هي عليه الآن. هذا الانحياز يجعلك تستمر في المُضي قُدُماً إلى الأمام عوضاً عن البقاء في مكانك، إذ من أجل إحراز التقدم يجب عليك أن تؤمن بأنَّك تستطيع تحقيق نتائج أفضل وأن يكون لديك الدافع لمحاولة القيام بذلك.
التحدّي يكمن حينما تُضطر إلى التوقّف عن التفكير بهذه العقلية لأنَّ التطلّع بشكلٍ دائمٍ إلى الأمام وتركيز الاهتمام على الوصول إلى غَدٍ أفضل من اليوم لا يتيح لك الاستمتاع بما يحدث اليوم والتركيز عليه. ثمَّة فكرة مشابهة لفكرة "الانحياز للتفاؤل"، يُطلِق عليها عالم النفس في جامعة هارفارد "تال بين شاهار" اسم "خدعة الوصول"، إذ يتحدث في كتابه الذي يحمل عنوان "أسْعَد" (Happier) عن الاعتقاد الزائف بأنَّ الوصول إلى مكانٍ تعتقد بأنَّك تريد الوصول إليه، أو تحقيق هدفٍ معين يحققان لك السعادة التي كنت تتوقع أن تشعر بها وأنَّ هذا نادراً ما يحدث، ثمَّ من أجل البحث مجدداً عن السعادة تستبدل بالهدف الأول هدفاً جديداً وتستمر بالدوران في الدائرة نفسها.
اكتشف عالما النفس "ماتيو كيلينغسورث" و"دانييل جيلبرت" اللذين يعملان في جامعة هارفارد أنَّ الناس يشعرون بأقصى درجات الرضا حينما تتماشى أفكارهم مع تصرفاتهم. اتحاد العقل مع الجسد ليس دائماً مهمةً سهلة لا سيما حينما تكون الحياة مليئةً بالمشاغل وتحتاج في أغلب الأحيان إلى أداء عدة مهام في الوقت نفسه وتنفيذها بسرعةٍ قياسية، حينئذٍ يمكنك الاستعانة بممارسة التأمل في أثناء المشي، فالتأمل هو مجموعة من التقنيات التي تهدف إلى تعزيز حالة الوعي وتركيز الاهتمام على لحظات الحاضر، وللتأمل أشكالٌ عديدة، لكن دعنا نلقي نظرةً أكثر قرباً على ممارسة التأمل في أثناء المشي:
ما هو التأمل أثناء المشي؟
عند ممارسة التأمل أثناء المشي تبقى عيناك مفتوحتان وتركز اهتمامك كله على تجربة المشي، وعلى عكس أشكال التركيز والتأمل الأخرى التي تَهْتَمُّ بالتنفس تشجعك ممارسة التأمل في أثناء المشي على التنفس دون بذل الجهد.
ربما تجد أنَّ الإحساس بالجسد أثناء المشي وممارسة التأمل أسهل من الإحساس به خلال التأمل الذي تمارسه وأنت جالس، إذ حينما تتحرك (وتركز انتباهك) ستشعر بالأحاسيس التي يشعر بها جسدك - كيف تلمس قدماك الأرض مرةً تلو الأخرى وكيف يتأرجح ذراعاك ذهاباً وإياباً.
فوائد ممارسة التأمل أثناء المشي:
يعزز المشي بحد ذاته صحة القلب، ويحسن الدورة الدموية، ويحرق السعرات الحرارية، ويقدم مجموعةً من الفوائد الصحية الأخرى، لكن حينما تضيف له التأمل سيقدم لك عدداً من المزايا الأخرى، من بينها:
1- التواصل بعمقٍ مع البيئة:
يُعتقََد بأنَّ التأمل أثناء المشي يُعَدُّ طريقةً للتواصل مع الأرض بشكلٍ أكثر عمقاً. الأرض ليست البيئة التي نعيش فيها فقط بل هي كائنٌ حيٌّ يتحلى بكثيرٍ من الشغف، والوعي، واليقظة، والحب، ويمكننا في كل خطوةٍ نخطوها ونحن نمارس التأمل أن نشعر بهذه الأحاسيس.
2- التخفيف من الشعور بالقلق:
أظهرت الدراسات أنَّ ممارسة التأمل أثناء المشي يمكن أن تخفف الشعور بالقلق لأنَّها تمكِّنك من إبعاد ذهنك وجسمك عن الأماكن التي تسبب لك الشعور بالقلق، وتتيح لك التنفيس عن الطاقة المكبوتة داخلك، وتجعل جسدك كله يشارك في إعادة توجيه الذهن نحو تريكز الاهتمام على المكان الذي تمارس فيه المشي عوضاً عن تركيزه على الشعور بالقلق. وأظهرت دراسةٌ أخرى أن َّ ممارسة التأمل قبل المشي أو بعده تقلل أيضاً الشعور بالقلق لدى الشبان الراشدين.
3- إزالة الشعور بالاكتئاب:
في تجربةٍ أُجريَتْ على مجموعةٍ صغيرةٍ من البالغين الأكبر سنَّاً أدَّتْ ممارسة التأمل في أثناء المشي ثلاث مراتٍ في الأسبوع مدة 12 أسبوعاً إلى تخفيف الشعور بالاكتئاب. يُعَدُّ الشعور بالضغط والقلق سببين أساسيين للاكتئاب، وممارسة التأمل في أثناء المشي يمكن أن تغير طريقة تعاملك مع الأفكار والمشاعر التي تسبب هذين الشعورين. إحدى الصفات التي تميز الاكتئاب هي تعامل المُكتَئب بشكلٍ سلبيٍّ مع نفسه ومع التجارب التي يعيشها، لكنَّ ممارسة التأمل في أثناء المشي تُعَدُّ شكلاً من أشكال التأمل الذي يدربك على التعرف إلى تلك المشاعر ثمَّ السماح لها بالمرور من العقل دون البقاء فيه.
4- تعزيز القدرة على التركيز:
ربما يؤثِّر كلٌّ من الإنترنت والمجتمع الذي أضحَتْ الأحداث تسير فيه بوتيرةٍ متسارعة بشكلٍ خطيرٍ في قدرتك على تركيز الاهتمام، وقد أظهرَتْ الأبحاث أنَّ ممارسة التأمل في أثناء الحركة، كالتأمل في أثناء المشي واليوغا، قد يكون لها فوائد مذهلة على صعيد المدة التي يمكن أن تحافظ خلالها على تركيز الاهتمام.
5- التعافي بشكلٍ عام:
يعتمد كلٌّ من العقل والجسم على الآخر وإذا دعمْتَ أحدهما فأنت تدعم الآخر، واجتماع التأمل مع المشي يعالج العقل والجسم بشكلٍ متزامن ليعزز تعافي الاثنين معاً.
شاهد بالفيديو: فوائد المشي لمدة 20 دقيقة يومياً
كيف تمارس التأمل أثناء المشي؟
يقول "رالف والدو إيميرسون": "ليست الغاية هي المهمة بل الطريق الذي سيوصلك إليها هو المهم". تُعَدُّ ممارسة التأمل في أثناء المشي تجلياً حقيقياً لهذه المقولة.
تذكر هذه المقولة حينما تمارس التأمل أثناء المشي فأنت لا تحاول الوصول إلى أي مكان لأنَّك موجودٌ بالفعل في المكان الذي تريد أن تكون فيه. قد يكون أصعب جزء فعلاً من هذه العملية ألَّا تفكر فعلياً في أي شيء وأن تمشي وتتنفس فقط لأنَّك اعتدْتَ ربما على قضاء أيامك متنقلاً من موقعٍ إلى آخر وأنت تحاول الوصول إلى مكانٍ ما. إذ على الرغم من أنَّك فعلياً ستنتقل من بقعةٍ إلى أخرى إلَّا أنَّ المكان الذي ستذهب إليه والمسافة التي ستقطعها غير مهمَّيْن. أنت لا تحاول الوصول إلى عددٍ معينٍ من الخطوات أو تحقيق أي نتيجةٍ أخرى من النتائج التي تقيسها أجهزة الحفاظ على اللياقة، وأنت في الواقع لسْتَ في حاجةٍ أبداً إلى أي أجهزة.
إنَّ اختيار المكان الذي ستمارس فيه التأمل أثناء المشي أمرٌ عائدٌ إليك بشكلٍ كامل لكنَّ معظم الناس، لا سيما المبتدئين، يفضلون أن يمشوا ويمارسوا التأمل في أجواءٍ طبيعيةٍ لا يوجد فيها ما يشتت انتباههم كالمنتزهات، أو بجانب شاطئ البحر أو البحيرة، أو في أي مكانٍ آخر لا يوجد فيه سيارات ولا أشياء أخرى تسبب تشتت الانتباه. ارتدِ ثياباً مريحةً، وتجنَّب الثياب الضيقة التي تعيق تدفق الدماء في الجسم، وابدأ:
1- قف وثبِّت قدميك فوق الأرض وارخ ذراعيك إلى جانب جسمك: خذ بعض الأنفاس العميقة، وأطلق بعض الزفرات الطويلة، وراقب الشعور الذي تُحِس به قدماك وهما مثبَّتتان فوق الأرض.
2- تفَّس بشكلٍ طبيعي.
3- دع عينيك تركزان انتباههما إلى الأمام وابدأ المشي ببطء: بعد أن تمشي قليلاً قد تلاحظ أنَّك تريد زيادة سرعتك، لكن في البداية امشِ ببطء. يمكنك النظر حولك كيفما تشاء لكن احرص على الاستمرار في تركيز الاهتمام على الحقيقة التي مفادها أنَّك تسير وتتنفس، ولا داعي لأن تنظر إلى قدميك فهما تعلمان أين يجب عليهما أن تخطوان.
4- انتبه إلى الأحاسيس التي تشعر بها قدماك ويشعر بها جسمك: حافظ مع كل خطوةٍ تخطوها على ارتخاء جسمك، واتخذ وضعيةً مناسبة، وانتبه إلى وقع كامل المنطقة الممتدة من أصابع قدميك إلى الكعب على الأرض. راقب مشاعر جسمك كله وكيف يخرج كل نفسٍ من رئتيك وكيف يدخل إليهما.
5- تابع توجيه اهتمامك إلى خطواتك ونَفَسِك: قد يتشتت انتباهك، هذا أمرٌ عادي. انتبه إلى أفكارك وعواطفك دون أن تحكم عليها وتابع إعادة توجيه أفكارك إلى اللحظات التي تعيشها في الوقت الحاضر، وعُد إلى تركيز الاهتمام على أنفاسك وخطواتك.
6- تابع المشي مدة 5-20 دقيقة على الأقل: إذا كان لديك المزيد من الوقت وكنت تشعر بالارتياح تابع المشي، إذ لا يوجد مدة زمنية محددة لممارسة هذا التمرين فافعل ما ترى أنَّه مناسب.
7- مع اقتراب التمرين من نهايته توقف بلطف: قف بثبات مثلما فعلت تماماً في البداية وخذ بضعة أنفاسٍ عميقة. تفقَّد جسدك وراقب المشاعر التي يُحِس بها. أتشعر أنَّك أكثر ثباتاً، وتماسكاً، وأنَّ ذهنك أكثر صفاءً؟
على الرغم من أنَّ العديد من الناس يفضلون ممارسة التأمل أثناء المشي في أحضان الطبيعة إلَّا أنَّه من الممكن ممارسة التأمل في الفترات التي تنتقل فيها من مهمةٍ إلى أخرى أو من مكانٍ إلى آخر، إذ تستطيع على سبيل المثال ممارسة التأمل في أثناء الانتقال من السيارة إلى متجر البقالة. أو إذا كنت في حاجةٍ إلى استراحةٍ في منتصف النهار جرِّب ممارسة التأمل مدة دقيقةٍ واحدة حينما تنهض من كرسيك وتذهب لشرب الماء.
إذا لم يكن لديك أيّة مشاكل صحية تمنعك من المشي جرب ممارسة التأمل في أثناء المشي وانظر إذا كان يساعدك في تركيز الاهتمام على اللحظة التي تعيشها والإحساس بقدرٍ أكبر من المتعة والسلام.
أضف تعليقاً