ولأنَّ الإنسان كائن اجتماعي ويحتاج دائماً إلى تكوين العلاقات وفي طريقه؛ لذلك يتسرع بالحكم دون الجلوس مع الشخص مدة كافية وتفهمه بشكل جيد وربما لا يصيب الحكم دائماً، وعادة يحاول كل إنسان إظهار أفضل ما لديه خلال اللقاء الأول؛ وذلك بهدف دفع الآخرين لتكوين اتجاهات إيجابية؛ لذا نرى معظم الناس يقعون ضحية الخديعة من قِبل شخص ما؛ فيعتقدون بأنَّه شخص بصفات وأفكار معينة ليتبين فيما بعد خلاف ذلك؛ فيندمون على تسرعهم واندفاعهم وأحكامهم الخاطئة، وتبدأ مشكلاتهم ربما من هنا وتبدأ حياتهم تتعقد بسبب ذلك الإنسان.
نحن هنا لسنا بصدد الحديث عن صحة الانطباع الأول أو عدمه؛ بل الفكرة الرئيسة هي الحديث عن أهمية الانطباع الأول في حياتنا وانعكاسه على طبيعة علاقاتنا الاجتماعية والمهنية.
أولاً: ما هو الانطباع الأول؟
الانطباع الأول بحسب قاموس أكسفورد "هو شعور أو فكرة أو رأي عن شيء ما أو شخص ما، خاصة ما يتكون دون تفكير واعٍ أو على أساس القليل من الأدلة"، والانطباع الأول في علم النفس هو الموقف الذي يلتقي خلاله إنسان بإنسان آخر لأول مرة، ويبدأ بتشكيل أفكاره الخاصة، ويرسم صورة ذهنية محددة عن ذلك الشخص بناءً على الحدس والإحساس وتصرفاته وأساليبه المستخدمة في ذلك.
توجد مجموعة كبيرة من العوامل التي تؤدي دوراً هاماً وحاسماً في رسم تلك الصورة الذهنية ومنها:
1. العمر:
يتأثر الانطباع الأول بعمر الفرد؛ إذ يوجد اختلاف واضح بين الأحكام التي يطلقها الشباب وتلك التي يطلقها كبار السن، فكل منهما ينظر بطريقة مختلفة إلى الأشياء، وغالباً ما يكون حكم كبار السن تجاه الأشخاص أكثر إيجابية من الشباب أو صغار السن.
2. المظهر الخارجي وحركات الجسد:
ثمة مثل شعبي لـ "شيشرون" الروماني يقول فيه: "الوجه صورة العقل التي تعكسها العيون"، ويقول "أوسكار وايلد": "وحدهم الأناس السطحيون لا يحكمون من خلال المظهر، إنَّ سر الكون فيما ظهر، لا فيما لا يظهر".
من جهة أخرى، ثمة تأكيد كبير من البشر على ضرورة عدم الحكم على فرد ما من خلال مظهره الخارجي؛ بل من خلال جوهره؛ وذلك عبر إطلاق الشعارات والعبارات الرنانة، إلا أنَّنا ومن خلال التعاملات اليومية بين الأفراد، نلحظ بسهولة أهمية المظهر والشكل الخارجي في جميع جوانب الحياة الاجتماعية والشخصية والعملية والاقتصادية، حتى إنَّ علماء النفس بينوا في العديد من الدراسات أنَّ البشر يشكلون انطباعهم الأول عن الأفراد من النظرة الأولى حسب مظهرهم الخارجي، مثل شكل الجسم وتعابير الوجه ولون البشرة والملابس ونوعها وفيما إذا كنت تملك المال أو سيارة وما هو نوعها وإلى ما ذلك.
3. ثقافة الفرد ومستواه العلمي:
غالباً ما تكون الانطباعات الإيجابية تجاه الأفراد من ذوي الشهادات العلمية العالية، فغالباً يراهم الناس على أنَّهم من أصحاب النخبة في المجتمع، وعليه يميلون إلى التودد لهم وتكوين العلاقات الإيجابية معهم.
4. النوع:
يؤثر نوع الجنس إن كان ذكراً أم أنثى في الانطباع الأول، فمثلاً في حالات خاصة ثمة بعض السيدات التي تنتابهن مشاعر الغيرة عند رؤية من هي أجمل منهن أو تحمل شهادة أعلى، فيأتي الحكم عليها سلبياً، وبالمقابل قد يكون الرجل مشدوهاً بجمال امرأة ما فيأتي الحكم عليها إيجابياً.
5. السرعة والدقة:
غالباً ما يطلق الناس أحكاماً سريعة كالقول إنَّ فلاناً متكبر وآخر متعجرف وتلك السيدة غير ودودة أو ذلك الموظف غير متعاون وذلك الطفل مشاكس، كما أنَّ الناس لا يستطيعون كشف الأكاذيب عند اللقاء الأول؛ لذا كلما زاد الوقت الممنوح لتكوين الانطباع الأول، زادت الثقة بنتيجة الحكم الذي وصل إليها، فالحكم السريع مجحف بحق الجميع.
6. عدد الأفراد الملاحظين ضمن الموقف:
يتأثر رأي الفرد بآراء الآخرين عن ذلك الفرد؛ لذا يكون الانطباع الجماعي أكثر تأثيراً واستمراراً من الانطباع الفردي؛ إذ يدوم لوقت طويل نسبياً.
شاهد بالفديو: كيف تحافظ على علاقات شخصية قوية؟
ثانياً: ما هو المقصود بإدارة الانطباع؟
تشير إدارة الانطباع إلى السلوكات التي يقوم بها الأفراد بهدف إنشاء صور ذهنية وهويات اجتماعية مرغوبة، وتختلف هذه السلوكات من فرد لآخر؛ فيستخدم كل فرد استراتيجيات معينة لتكوين الانطباعات التي يريدها في عقول الآخرين؛ وبمعنى آخر إدارة الانطباع هي القدرة على الاستخدام اللفظي وغير اللفظي في تشكيل الصورة الإيجابية لدى الآخرين، مثل طريقة النطق والكلمات المستخدَمة وارتفاع الصوت وحدته وإشارات الجسد ودلالاتها؛ أو بعبارة أبسط، هي الأساليب والسلوكات التي يستخدمها الفرد لإنشاء الصورة الذهنية المطلوبة لدى الأفراد والمجتمع عامة.
الصورة الذهنية تتضمن الخصائص وسمات الفرد الذاتية مثل الإبداع، والفضول، والحذر، والتنظيم، وسهل أو صعب المعشر، وودود أو متحدٍ، وحساس وقلق أو واثق وغير ذلك، بالإضافة إلى السمات الشكلية ومظهره الخارجي وتصرفاته وحركاته وكيف يستطيع استخدام ذلك في تقديم نفسه للآخرين وتصور معين في عقول ووجدان واتجاهات الأفراد لكي ينظروا إليه نظرة إيجابية، وهذه العملية ذات طابع اجتماعي بامتياز؛ إذ يُعَدُّ الوجود الاجتماعي شرطاً ضرورياً وجزءاً أساسياً منها.
كما تتعدد الدوافع وراء هذه العملية فيوجد مثلاً:
- الدوافع الاجتماعية والمادية: مثل الموافقة والقبول بالمجتمع وتكوين علاقات الصداقة والحصول على المساعدة أو تولي سلطة أو مركز ما في المجتمع، أو دوافع مادية مثل الحصول على عمل، أو زيادة في الراتب، أو الحصول على مكافأة في عمل وما إلى ذلك.
- الدوافع الذاتية: مثل المحافظة على الثقة بنفسه من خلال استمرار احترام وتقدير الآخرين له، ومن الدوافع أيضاً تحسين الهوية الشخصية في عيون الآخرين.
- الدوافع الدفاعية: عندما يضطر الفرد إلى إعطاء انطباعات عندما تواجه صورته الذاتية المرغوبة اجتماعياً خطراً ما.
ثالثاً: كيف يمكن تشكيل الانطباع الأولي وترك انطباع إيجابي جيد لدى الآخرين؟
لتشكيل انطباع ما يجب على الفرد تحديد نوع الانطباع والسلوكات المؤدية إليه، لكن توجد مجموعة من المتغيرات المؤثرة في قدرة الفرد على إدارة الانطباع منها:
1. مفهوم الفرد عن ذاته:
فعند كل فرد أشياء يقدرها ويتفاخر بوجودها ويحاول إبرازها بالوقت الصحيح، وهنا تأتي أهمية عملية إدارة الانطباع في انتقاء أفضل ما يملك الفرد وعرضه، كما تؤدي خصائص الناس ومعتقداتهم دوراً هاماً، فقد يتفاخر الفرد بوجود شيء ما لديه، لكن ربما يكون هذا الشيء محطَّ سخط لدى إنسان آخر؛ لذا يجب معرفة خصائص الفرد الآخر قبل الشروع بالقيام بأي سلوك، ويوجد بعض الأفراد الذين يرغبون في كسب الآخرين فيعملون على خداعهم من خلال إظهار نقيض صفاتهم الحقيقية.
2. قيود الدور الاجتماعي الذي يقوم به الفرد:
فثمة أدوار محددة في المجتمع يجب على أفرادها أن يمتلكوا صفات وخصائص محددة في شخصيتهم؛ لذا يجب عليهم إظهار انطباعات محددة للحفاظ على هذا الدور وحماية أنفسهم من السقوط كما حدث مع بعض السياسيين والقادة الذين انحرفوا عن أداء أدوارهم كما يجب.
3. القيم الاجتماعية المستهدَفة:
غالباً يحاول الناس إعطاء الانطباعات التي تتوافق مع قيم المجتمع وتحكي صورتهم أمام العامة.
رابعاً: كيف يمكنك ترك انطباع إيجابي لدى الآخرين؟
- حاول تقديم أفضل ما لديك من صفات ومهارات وعلوم قد اكتسبتها بحيث تظهر بمظهر الشخص الكفء أمامهم.
- احترام الناس الآخرين ومدحهم وإشعارهم بالتميز وتقديم ما يحتاجونه من مساعدة للتقرب منهم.
- اختيار التصرفات التي تبدو بها لطيفاً ومهذباً وتقدِّر الآخر مهما كانت صفته.
- إذا كان الشخص الآخر أقوى منك أو صاحب سلطة أو أكثر كفاءة، يمكن إظهار الضعف وطلب المساعدة للتقرب أكثر منه.
- استخدام المفردات اللفظية اللطيفة للتقرب وغرس انطباع الشخص الودود المحب المعطاء.
- الاستخدام الصحيح لتعبيرات الجسد، مثل طريقة الوقوف وطريقة السلام وتعبيرات الوجه.
- الابتعاد عن اتباع أساليب التخويف والترهيب لفرض السيطرة بالقوة أو لمحاولة الظهور بمظهر الشخص القوي.
- وضع الأمور في نصابها والاعتذار من الشخص إن كنت قد سببت له أي ضرر أو حدث سوء تفاهم معه.
- عدم اللجوء إلى المحاسبة الفورية عند خطأ الآخرين معك؛ بل أتح لهم الفرصة لشرح وتقديم الأعذار والمبررات، وسامحهم إن لم يتسببوا لك بالضرر الجسيم مع التأكيد على عدم تكرار التصرف.
في الختام:
العلاقات الاجتماعية تنشأ عن اتصال أفراد المجتمع وتفاعلهم مع بعضهم بعضاً، ويعتمد التفاعل على تحليل السلوك الصادر عن الفرد في موقف اجتماعي معين، وبالاعتماد عليه يتم إطلاق الأحكام عليه وتصنيفه اجتماعياً، فالفرد يقضي وقتاً لا بأس به بالتفكير في الأفعال والسلوكات والأشياء التي يجب عليه القيام بها ليستطيع التأثير بالآخرين ويقودهم إلى نوع العلاقة التي يريدها منهم؛ إذ لا يدخر جهداً في محاولة السيطرة على تصورات الآخرين والتأثير بها بالطريقة التي تمكِّنه من تحقيق أهدافه الخاصة واحتياجاته النفسية والذاتية والجسدية، وفي نفس الوقت يحظى بالتقدير والاحترام الاجتماعي.
المصادر:
أضف تعليقاً