وبحلول منتصف القرن الحالي -على الأغلب - سنكون أمام أكبر التحديات؛ لأنَّنا في حاجة توفير الغذاء لأكثر من تسعة مليارات نسمة!
ما هو الأمن الغذائي؟ وما هي مقوِّماته؟ وأبعاده؟
استُخدِم مصطلح الأمن الغذائي لأول مرة عام 1970؛ بسبب انتشار المجاعات حول العالم، ويُشير هذا المصطلح إلى إمكانية حصول البشر (في أيِّ وقت وفي أيِّ وضع كان) على كمية كافية من الغذاء السليم الذي يوفر احتياجات الجسم اليومية كافة.
وفي البداية كان يُقصد به توفُّر الغذاء فحسب، لكنَّه اشتمل فيما بعد على توفُّر الغذاء الصحي على مدار السنة ولجميع الأفراد.
تُعرِّف مُنظَّمة الأغذية الزراعة الدولية (الفاو) الأمن الغذائي على أنَّه: "توفير الغذاء لجميع أفراد المجتمع، بالكمية والنوعية اللازمتين، للوفاء باحتياجاتهم بصورة مستمرة، من أجل حياة صحية ونشطة".
للأمن الغذائي مقوِّمات تتمثل في:
خصائص الدولة الجغرافية والمناخية، ووفرة المصادر المائية، ووفرة الموارد البشرية، ووفرة الأراضي الزراعية والمراعي والغابات، ووفرة الثروة الحيوانية، وامتلاك التكنولوجيا الحديثة.
كما يتضمن الأمن الغذائي أربعة أبعاد مهمة؛ هي:
- توفر الغذاء: التوفر المادي لكميات كافية من الأغذية ذات الجودة المناسبة، إمَّا عن طريق الإنتاج المحلي أو الاستيراد (بالإضافة للمساعدات الغذائية).
- إمكانية الحصول على الغذاء: مدى تمتع الأفراد والأُسر بدخل أو موارد أخرى، وقدرة شرائية كافية لشراء الغذاء المناسب عالي الجودة.
- استغلال الغذاء: التركيز على نوعية الغذاء الذي يتناوله الفرد إلى جانب كميته، فلا يُحقِّق الغذاء النتيجة المرجوة منه، إلَّا عندما يكون متنوعاً، بحيث يشمل العناصر الغذائية المطلوبة كافة.
- استقرار الغذاء: لا يُمكن الوصول للأمن الغذائي دون استقرارها، ويُعَدُّ تقلُّب أسعار السلع الغذائية الأساسية، وعدم الاستقرار السياسي، والبطالة من أهم العوامل التي تُقوِّض استقرار الأمن الغذائي.
شاهد بالفيديو: 7 نصائح لتغذية صحية سليمة
معوقات تحقيق الأمن الغذائي:
- انخفاض عدد الأفراد الذين يعملون في الزراعة وتربية الحيوان كمهنة.
- التدهور المستمر للأراضي الزراعية؛ نتيجة انجراف التربة والتصحر والزحف العمراني واستنزاف الإنسان لها.
- الحاجة المتزايدة للماء عالمياً، وافتقار الدول إلى مصادر المياه، أو سوء استغلالها.
- التركيز على الزراعات المروية، بدلاً عن الزراعات البعلية التي تعتمد على مياه الأمطار.
- النمو السكاني الكبير بطريقة تفوق متوسط معدلات الإنتاج الزراعي، خاصة إن رافق هذه الزيادة هجرة السكان الريف إلى المدن؛ ممَّا يؤدي إلى تراجع في الإنتاج الزراعي بسبب هجرة اليد العاملة.
- تغيُّر العادات الغذائية للإنسان؛ إذ أصبح التوجه نحو الأطعمة الجاهزة واللحوم ومنتجات الألبان، أي إنتاج المزيد من اللحوم؛ ما يترتب عليه إنتاج المزيد من المحاصيل العلفية؛ وينتج عن ذلك آثار بيئية سلبية.
- التغيُّر المناخي، حيث باتت نسبة الأراضي القاحلة تمثل حوالي 40% من مساحة اليابسة، وهذه النسبة مُرشَّحة للزيادة نتيجة درجات الحرارة المرتفعة.
- عدم المساواة في المستويات الاجتماعية والاقتصادية بين سكان البلد الواحد؛ ومنهم الفقراء الذين لا يحصلون على ما يسدُّ رمقهم، ومنهم الأغنياء الذين يتباهون في فتح الموائد في المناسبات والاجتماعات التي غالباً ما يفيض عنها الطعام، ويُرمى بعدها في القمامة.
- الوقود الحيوي، يُنتَج الوقود الزراعي من نباتات مثل الذرة وقصب السكر، وسوف تُحوَّل المزارع إلى زراعة مثل هذه النباتات للوقود الحيوي؛ ممَّا يقلل من عدد الحبوب المتاحة للأغذية ويرفع أسعارها.
- الصراعات والمنازعات والحروب، وما تؤدي إليه من انعدام الأمن الغذائي وحدوث المجاعات في البلدان التي تُعاني منها، أمثال الصومال وجنوب السودان في إفريقيا.
- هدر الطعام من العادات السيئة؛ فهناك مليارات من الأطعمة الصالحة للأكل يُتخلَّص منها كل عام، ومعظمها في الدول المتقدمة، ومع ذلك يموت الناس جوعاً في الدول النامية.
تُشير "الفاو" إلى أنَّ الطعام المهدور عالمياً يبلغ حوالي 1.3 مليار طن كل عام.
نتائج انعدام الأمن الغذائي:
لانعدام تحقق الأمن الغذائي، آثار سلبية في كثير من المجالات؛ مثل:
1. البيئة:
حاجتنا المتزايدة للطعام تُشكِّل واحدة من أهم التهديدات التي تتعرض لها البيئة، فخطر انعدام الأمن الغذائي يدفعنا لمزيد من الزراعة التي تُعَدُّ المسبب الأكبر للاحتباس الحراري؛ لأنَّها تُطلق غازات مسببة لهذه الظاهرة أكثر ممَّا تطلقه السيارات والشاحنات والقطارات والطائرات مجتمعة، فضلاً عن أنَّ الزراعة تُعَدُّ المستهلك الأكبر للمياه والأكثر تلويثاً لها.
2. الأطفال:
يؤدي انعدام الأمن الغذائي لإصابة الأطفال بسوء التغذية؛ وبالتالي يصبحون أكثر عُرضةً للأمراض والحاجة لدخول المستشفيات، ويُصابون بالكسل والخمول وقِلَّة النشاط البدني، ممَّا يؤثر في نشاطهم الدراسي، وتفاعلهم الاجتماعي مع أقرانهم.
3. ارتفاع أسعار المواد الغذائية:
انعدام الأمن الغذائي يعني أنَّ هناك نقصاً في السلع الغذائية؛ ممَّا يؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، فيصبح وصول الناس للغذاء محدوداً، ويجعل البلاد تُعاني من انعدام أكثر للأمن الغذائي.
4. البطالة:
يؤدي انعدام الأمن الغذائي إلى تباطؤ وتراجع اقتصاد الدولة؛ الأمر الذي يترتب عليه انخفاض قدرة الدولة على دفع الأجور؛ ممَّا يدفعها لتسريح بعض الموظفين من وظائفهم وبالتالي انتشار البطالة.
5. ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية:
كُلَّما ارتفع معدل انعدام الأمن الغذائي، ارتفع معدل الإصابة بالأمراض، وبالتالي يزداد العبء على نظام الرعاية الصحية، وتزداد تكاليف الرعاية.
واقع الأمن الغذائي العربي:
أظهرت التقارير بأنَّ الدول العربية لم تُحقِّق الاكتفاء الذاتي، بل إنَّها في حالة عجز غذائي مُتنام، وذلك على الرغم من أنَّها تمتلِك مقوِّماته، فحجم الإنتاج العربي من المواد الغذائية لا يكفي تغطية الاستهلاك المحلي العربي؛ وبهذا تضطر هذه الدول إلى اللجوء للاستيراد في تغطية هذا العجز.
لنتعرَّف على أسباب عدم تحقيق الأمن الغذائي في الدول العربية؛ سنتكلَّم عن دولتين عربيتين كنموذجين، هما مصر والسعودية:
كانت مصر مثلاً، تعتمد في غذائها على الفول والحبوب بكثرة، وكانت تعتمد السعودية على الأرز بشكل أساسي، ولكن مع الأسف الواقع اليوم يختلف عن ذلك.
فبعد أن كانت مصر سلَّة غذاء الوطن العربي، ونموذجاً في اكتفائها الذاتي نتيجة وفرة المساحات الزراعية الكبيرة ووفرة اليد العاملة، وبعد أن كانت تعتمد في أزماتها على الفول والقمح، باتت اليوم من أكبر المستوردين لهاتين المادتين، في حين كانت سابقاً أكبر الدول تصديراً لهما.
هذا الاعتماد الكبير على الاستيراد جعل مصر في حالة خطر دائم في ظلِّ تغيُّر الأسعار العالمية، وأصبحت تتأثر في أيِّ أزمة تتعرض لها الدول المُصدِّرة، وقد تضررت مصر بالفعل في عام 2019 بسبب موجة الجفاف التي ضربت أوروبا.
تُعَدُّ السعودية اليوم من بين الدول الأعلى استهلاكاً واستيراداً للأرز، ومن المعروف أنَّ عملية الزراعة (وخصوصاً لمحصول الأرز) في السعودية ودول الخليج صعبة؛ لأنَّها بلاد صحراوية تُعاني قِلَّة موارد المياه، ممَّا يضطرها للاستيراد.
صحيح أنَّها دولة مُصدِّرة للنفط، لكنَّها تتأثر بأسعار النفط وأسعار المحاصيل العالمية، وتدخل في أزمات الحبوب الاستراتيجية كالتي دخلت فيها مصر، ومع ذلك لم تلجأ إلى حل هذه المشكلة والتحرر من البقاء تحت رحمة ظروف السوق العالمية، ولم تسعَ إلى الاستثمار المباشر في زراعة الأرز في الدول التي تستورد منها كالهند والباكستان.
كلنا نُصاب بالذهول عند سماع هذه المعلومات، ويتبادر إلى الأذهان سؤال كيف ولماذا؟
يعود جواب هذا السؤال إلى عدة عوامل تعاني منها هاتين الدولتين، وطبعاً حالهما كحال باقي الدول العربية؛ من أهم هذه العوامل:
ارتفاع تكلفة الإنتاج وانخفاض عوائد المحصول، وتوقف التوسع في الرقعة الزراعية وتزايد نسبة التصحر، والتضخم السكاني، وقِلَّة الأمطار، وعدم السيادة على مصادر المياه، وضعف التقنيات والتكنولوجيا المستخدمة، وضعف دعم الفلَّاحين، وغياب التخطيط لتوفير المحاصيل الاستراتيجية التي تكفي السكان، والاعتماد على استيراد السلع الغذائية من دول أجنبية؛ ممَّا يجعلها تابعة لهذه الدول وشروطها.
حل المشكلة "كيف نحقق الأمن الغذائي؟":
حل المشكلة الغذائية في العالم يعني زيادة إنتاج المواد الغذائية، وهذا يتطلب تضافر جهود كل المعنيين حول العالم؛ ويكون ذلك من خلال:
- التوسع في الأراضي الزراعية، والعمل على استصلاح الأراضي البور في بلدان مختلفة من العالم، والعمل على وقف الزحف العمراني على الأراضي الزراعية.
- أن تتخلى الدول المتقدمة عن أنانيتها وسِريَّة المعرفة والتقدم التكنولوجي الذي وصلت إليه، والعمل على رفع إنتاجية القطاع الزراعي في البلدان النامية من خلال استخدام أفضل التقنيات التي توصلت إليها هذه الدول المتقدمة.
- إجراء تعديلات في السياسات الزراعية والغذائية، وأن تُنتزع السياسات من أيدي الشركات العالمية الكبرى، وتُعاد الأرض والماء والبذور إلى الفلاحين، حتى يُتاح لهم تحقيق الاكتفاء الذاتي، وبيع منتجاتهم في الأسواق المحلية بدلاً من تخصيصها للتجارة الدولية.
- تبديل أنماط الاستهلاك والحد من هدر الطعام، والتحول إلى أنواع بديلة تتمتع بقيمة غذائية عالية، وتتطلب كميات أقل من المياه والأراضي.
- بالنسبة للبلدان العربية فإنَّها تتمتع بمقومات بناء أمن غذائي قوي، حيث تتوفر الأراضي الزراعية الواسعة غير المُستغلَّة والصالحة للزراعة، فالمساحة المزروعة من الوطن العربي تبلغ فقط 65 مليون من نحو 1.4 مليار هكتار هي المساحة الجغرافية للوطن العربي، إضافة لتوفر ثروة سمكيَّة ومراعي وغابات ويد عاملة ماهرة، لكن في نفس الوقت لم تُحقق هذه البلدان أمنها الغذائي، ولا تزال تُعاني اعتماداً كبيراً على استيراد الغذاء لإطعام سكانها الذين يزدادون باستمرار.
يأتي في أولى الحلول لها تحسين كفاءة الري، ومعالجة مياه الصرف التي لا تزال غير مُستغلَّة في البلدان العربية.
- تشجيع الشباب على العمل في الزراعة بتقديم تسهيلات ومُحفِّزات مغرية لهم؛ حيث تُعاني المناطق الريفية في البلدان النامية من هجرة اليد العاملة نحو المدن بحثاً عن فرص عمل أفضل، على الرغم من الحاجة للتوسع في النشاط الزراعي.
- التوجُّه لتحقيق توازن غذائي لتجنب مشكلات سوء التغذية، ويكون ذلك بتشجيع المزارعين على زراعة أصناف جديدة وتنويع المحاصيل، في وقت كانت المحاصيل الزراعية الأساسية كالذرة والقمح هي المسيطرة على اهتمام الدول للتغلب على المجاعات.
- التعاون الإقليمي بين الدول العربية بحيث تُنقل المواد الغذائية فيما بينها بكل سهولة، والاستفادة من استثمار الميزة النسبية التي تتمتع بها كل دولة عن غيرها في إنتاج السلع الغذائية بدلاً عن الاستيراد من دول أجنبية.
- التخطيط الاستراتيجي الإنمائي لاستغلال الموارد الطبيعية الزراعية، والتوسع في الري الحديث، واستصلاح الأراضي المتصحرة.
شاهد بالفيديو: 7 طرق بسيطة للحدّ من هدر الطعام
في الختام "الأمن الغذائي هو الحلم المنشود لكل دولة في العالم":
كان الغذاء ومازال الهمَّ الأكبر للشعوب منذ الأزل؛ لأنَّ الغذاء أساس البقاء والاستمرار، ومن هنا وقع على حكومات هذه العوب مهمة عبء تأمين هذا الغذاء بشكل دائم وبأفضل جودة.
لذلك كان لِزاماً على دول العالم اليوم العمل على هذا الملف بكامل الجدية والمسؤولية، فكلما حققت هذه الدول أمناً غذائياً، كلما حصَّنت نفسها أكثر في وجه أيَّة مشاكل مستقبلية، كما أنَّها بالأمن الغذائي تُحسِّن اقتصادها نتيجة تَحسُّن ميزانها التجاري؛ لانَّها لن تحتاج إلى استيراد السلع الغذائية بعد اليوم، وستتحرر من التبعية لدول كانت تستورد منها، فتصبح دولة قوية بكل المقاييس؛ لأنَّها تمتلك لقمة عيشها وتُنتجها، ولا تخشى أن يلوي ذراعها أحد في لقمة عيشها هذه!.
أضف تعليقاً