هل يمكن أن يسهم المجتمع النظيف للغاية في ارتفاع حساسية الطعام؟

يقترح أربعة علماء بيولوجيا مناعية من "جامعة ييل" (Yale University) أنَّ ارتفاع معدَّلات حساسية الطعام قد يكون نتيجة عوامل بيئية ونظام حماية غير مناسب. يشير البحث الذي نشره العلماء في مجلة "سيل" (Cell) إلى أنَّ وجود فرط في نشاط نظام الحماية من الأغذية السامة في الجسم، استجابةً للعوامل البيئية، هو السبب وراء هذا الارتفاع.



كما كتبوا أنَّ ما يصل إلى 8% من الأطفال في الولايات المتحدة قد تكون لديهم استجابة قاتلة لما تُصنَّف بأنَّها المواد الثماني الرئيسة المسببة لحساسية الطعام؛ إذ تشمل: الحليب والبيض والقمح وفول الصويا والأسماك والقشريات والمحار والجوز والفول السوداني.

أبلغت مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها عن ارتفاع معدل حساسية الطعام عند الأطفال من البيانات التي جُمعَت من عام 1997 إلى 2011، فقد وجد الباحثون أنَّه خلال 14 عاماً، ارتفع معدل حساسية الطعام من 3.4% إلى 5.1%.

ووفقاً لأحدث البيانات من عام 2016، ارتفع المعدل هذا مجدداً إلى 7.6%؛ وهذا يعني أنَّ المعدل قد تضاعف خلال 19 عاماً. يقترح علماء البيولوجيا المناعية في "جامعة ييل" أنَّ الارتفاع هذا قد يكون نتيجة زيادة كمية المواد غير الطبيعية أو المواد الكيميائية في البيئة.

تمتلك أجسادنا نظاماً لمراقبة جودة الطعام:

يشعر الأطباء والباحثون بالقلق تجاه هذا الانتشار المتزايد لحساسية الطعام؛ إذ يشير باحثو "جامعة ييل" إلى الآليات الحسية المتعددة التي يستعملها جسدك لمراقبة ما تستهلكه، والدور الذي تؤديه في زيادة نسبة الحساسية، وتتضمن هذه الأنظمة: حاسة الشم والتذوق والعمليات الحسية الكيميائية التي تنشأ في الأمعاء، وتتأثر ببكتيريا الأمعاء.

يُفيد الباحثون بأنَّ ردود الفعل التحسسية تؤدي دوراً في نظام مراقبة جودة الطعام في الجسم؛ إذ يتضمن النظام تحديد مولدات الضد في الطعام والاستجابة لها، التي يمكن أن تؤدي إلى حساسية طعام مميتة.

إنَّ إحدى النظريات السائدة لارتفاع معدل حساسية الطعام هي "الفرضية الصحية"؛ إذ لم يعُد الأطفال والبالغون يتعرضون للممراضات الطبيعية في البيئة؛ وهذا يؤدي إلى زيادة حساسية الجهاز المناعي.

توسَّع العلماء، في مجلة "كلينيكال أند إكسبيريمينتال إيميونولوجي" (Clinical & Experimental Immunology) عام 2010، في الأسباب لتشمل الأطعمة المصنعة والمنظفات والمواد الكيميائية البيئية الأخرى، بالإضافة إلى البيئة "النظيفة للغاية" التي لا تتعرض فيها للميكروبات الطبيعية.

يُفيد علماء البيولوجيا المناعية في "جامعة ييل" بأنَّ كل ذلك يؤدي دوراً في تقويض نظام مراقبة جودة الطعام الداخلي، والمصمَّم للمساعدة على حماية جسدك من المواد الكيميائية الضارة، ويعتقد العلماء أنَّ هذه النظرية قد تكون الأساس الذي سترتكز عليه الأبحاث أو العلاجات أو طرائق الوقاية من الحساسية في المستقبل.

في بيان صحفي أُجري في "جامعة ييل"، سلَّط أحد القائمين على البحث، "رسلان ميدجيتوف" (Ruslan Medzhitov)، الضوء على المشكلة التي يواجهها الباحثون، قائلاً: "لا يمكننا ابتكار طرائق لمنع أو علاج حساسية الطعام حتى نفهم تماماً علم الأحياء الكامن وراءها؛ إذ لا يمكنك أن تكون ميكانيكي سيارات ناجحاً ما لم تعرف كيف تعمل السيارة العادية.

أحد العوامل المؤثرة في ذلك هو زيادة استعمال منتجات النظافة والإفراط في استعمال المضادات الحيوية، بالإضافة إلى إجراء تغييرات على النظام الغذائي وزيادة استهلاك الأطعمة المصنعة، مع تقليل تناول الأطعمة المزروعة طبيعياً وتغيير تكوين بكتيريا الأمعاء. وأدى ابتكار المواد الحافظة للأغذية والمواد الكيميائية البيئية مثل المنظفات إلى ظهور عناصر جديدة ترصدها أجهزة المناعة".

عندما يكتشف جسدك أنَّه استهلك السموم، فإنَّه ينشِّط الجهاز العصبي اللاودي أيضاً، الذي يهدف إلى تحييد الخطر الصحي. يعتقد الفريق أنَّ مجموعة التغييرات التي تطرأ على الإمدادات الغذائية والبيئة، جعلت الجهاز المناعي يستجيب لبروتينات الطعام بفاعلية، بالطريقة نفسها التي يستجيب بها لحماية الجسد من السموم.

إقرأ أيضاً: جرثومة المعدة: الأعراض وطرق العلاج

عوامل أخرى تسبب حساسية الطعام:

تشمل النظريات الأخرى التي اقتُرِحَت لزيادة حساسية الطعام، الاستعمال المفرط للأدوية المستعملة لتخفيف حموضة المعدة؛ إذ يمكن أن يؤدي ذلك إلى تغيير بكتيريا الأمعاء في الجهاز الهضمي.

كما اقترح بحث أُجري في "كلية كينغز لندن" (King’s College London) أنَّه عندما يتجنب الآباء إطعام أطفالهم الأطعمة المعروفة بأنَّها تسبب الحساسية، يزداد احتمال أن تظهر ردود فعل تحسسية لاحقاً.

اختار القائمون على الدراسة أطفالاً يتحسسون من البيض أو مصابون بمرض الأكزيما؛ وذلك ليكتشفوا ما إذا أدى تجنُّب مولد حساسية إلى ارتفاع أو انخفاض الحساسية من نوع طعام. أظهرت البيانات أنَّه عندما تجنَّب الآباء إطعام أطفالهم الفول السوداني، أُصيب 13.7% بالحساسية منهم عندما أصبح عمرهم 5 سنوات، مقارنة بـ 1.9% ممَّن تناولوا الفول السوداني في صغرهم.

يتساءل الباحثون أيضاً عما إذا كانت معدلات حساسية الطعام آخذة في الارتفاع؛ ذلك لأنَّنا نقضي المزيد من الوقت داخل المنزل، وهذا يفسر حقيقة أنَّ 40% من السكان يعانون من نقص فيتامين (د)، الذي يؤدي دوراً هاماً في تنظيم الاستجابة المناعية الفعالة.

وجدت الأبحاث التي نُشِرَت في مجلة "أليرجي أند كلينيكال إيميونولوجي" (Allergy and Clinical Immunology)، لتحليل استعمال قلم "إيبينفرين" (EpiPen) في الولايات المتحدة، اختلافاً شديداً بين الولايات الشمالية والجنوبية؛ إذ استُعمِل المزيد في الولايات الشمالية، وهذا يشير إلى وجود "أدلة عن عوامل هامة مسببة لنقص فيتامين (د)" تستحق المزيد من البحث.

وجد العلماء بيانات مماثلة في "أستراليا" بعد إجراء ذلك البحث بعامين، عندما كشفوا عن أنَّ استعمال قلم "إيبينفرين" والحساسية المفرطة أكثر شيوعاً في المناطق التي تتعرض للقليل من أشعة الشمس، وهذا يقدِّم "أدلة إضافية إلى دور فيتامين (د) المحتمل في التسبب في الحساسية المفرطة".

هل الأمر حساسية طعام أم عدم القدرة على تحمله؟

يوجد فرق بين التحسس أو إظهار ردود فعل بسبب الطعام وحساسية الطعام؛ فحساسية الطعام الحقيقية تتولد في جهاز المناعة، وتثيرها الاستجابة للبروتينات الموجودة في طعام أو شراب مُعيَّنَين.

على الجانب الآخر، عادة ما يكون عدم القدرة على تحمُّل الطعام رد فعل مَعِدي معوي مزعج لشيء تناولتَه، ولكنَّه لا يتولَّد من جهاز المناعة، على سبيل المثال: تختلف الحساسية الحقيقية من الحليب عن عدم تحمُّل مادة اللاكتوز؛ فالأول يؤدي إلى استجابة مناعية، والثاني يثير أعراضاً في الجهاز الهضمي، تدل على عدم القدرة على هضم بروتينات الحليب.

وتشمل حساسية الطعام من النوع الأول الغلوبيولين المناعي (ه) (IgE)، وهو جسم مضاد موجود في الدم والخلايا الصارية في جميع أنسجة الجسم.

بعد تناول الطعام لأول مرة، تنتج الخلايا الغلوبيولين المناعي (ه) لبروتين الطعام الذي أثار ردة الفعل، والذي يُسمَّى مولد الحساسية؛ إذ يتحرر الغلوبيولين المناعي (ه)، ويلتصق بسطح الخلايا الصارية. يمهد هذا الطريق للمرة القادمة التي تأكل فيها الطعام الذي يحتوي على مولد الحساسية المحدد؛ إذ يتفاعل البروتين مع الغلوبيولين المناعي (ه) على الخلايا الصارية، ويؤدي إلى إطلاق مركب الهستامين (Histamine).

تبدأ ردة فعل الغلوبيولين المناعي (ه) أحياناً بالشعور في حكة في فمك، يتبعه إقياء وإسهال وألم في المعدة، كما يمكن لبعض مولدات الحساسية من البروتين أن تنتقل على الفور إلى مجرى الدم، وتؤدي إلى ظهور ردود فعل تحسسية في كامل الجسم، ومن ذلك الشعور بالدوار أو الإغماء أو بحة في الحلق والسعال المتكرر وضعف في نبض القلب، كما قد تثير حساسيةً مفرطة تؤدي إلى انخفاض ضغط الدم والإصابة بالشرى والأزيز.

يمكن أن تستغرق حساسية الطعام من النوع 1 ما بين بضع دقائق إلى بضع ساعات حتى تتطور، وأما النوع 3 من حساسية الطعام، فيتولد بواسطة الغلوبيولين المناعي (ه)؛ فهو حساسية طعام متأخرة تحدث بعد 4 إلى 28 ساعة من تناوله.

حساسية الطعام عند البالغين:

مع أنَّ معظم أنواع الحساسية من الطعام تظهر خلال سنوات الطفولة، ليس من المستغرب أن يطوِّر البالغون حساسية تجاه الطعام. تشير البيانات المأخوذة من دراسة مستعرضة أُجرِيت على البالغين الذين يعيشون في الولايات المتحدة، إلى أنَّ 10.8% على الأقل منهم يعانون من حساسية الطعام.

أكمل 40443 من البالغين الاستطلاع، وأبلغ 19% عن الإصابة بنوع من حساسية الطعام، بينما أبلغ 10.8% فقط عن أعراض مترافقة مع استجابة الغلوبيولين المناعي (ه).

نُشِرَت الدراسة في مجلة "الجمعية الطبية الأمريكية" (American Medical Association) بالتعاون بين الدكتورة "كاري نادو" (Kari Nadeau) خبيرة حساسية الطعام في جامعة "ستانفورد" (Stanford) وعلماء في "جامعة نورث وسترن" (Northwestern University).

يرى الباحثون أنَّ هذا يتعارض مع الاعتقاد السائد بأنَّ معظم أنواع الحساسية تتطور في مرحلة الطفولة؛ إذ قدَّرت البيانات السابقة أنَّ 9% من البالغين لديهم ردود فعل تحسسية حقيقية تجاه الطعام؛ ففي المجموعة، وجد الباحثون أنَّ 38% ممن لديهم حساسية الطعام، قد أُصيبوا بردَّة فعل أرسلَتهم إلى غرفة الإسعاف، وأفاد 48% منهم أنَّهم قد أُصيبوا بحساسية تجاه نوع معين من الطعام على الأقل، بعد سن 18 عاماً.

يمكن أن تكون بعض أنواع حساسية الطعام التي تتطور لدى البالغين شديدة، مثل ردود الفعل التحسسية التي عانت منها طالبة الدراسات العُليا "إيمي باربوتو" (Amy Barbuto) في مطعم تايلاندي.

ففي مقابلة مع كاتبة من "مركز تكساس الطبي" (Texas Medical Center)، رَوَت "إيمي" أول حساسية أُصيبت بها في مطعم. قبل ذلك اليوم، كانت تعاني من عدم القدرة على تحمُّل الدابوق في الطعام، ولكن في عام 2011، عانت من حساسية مفرطة عندما استعملت صلصة الصويا الخاطئة في طعامها، ومنذ ذلك الحين دخلت إلى المستشفى 25 مرة من عام 2011 إلى 2020 بسبب الحساسية.

أخبرت "مركز تكساس الطبي" عن صعوبة تجنُّب مادة الدابوق، قائلة: "من الصعب تجنُّبه، حتى عندما تبذل قصارى جهدك لفعل ذلك؛ فحساسيتي شديدة لدرجة أنَّني قد أتعرض لها، ولا أدري بالأمر حتى. قد يبدو طعامي خالياً من الدابوق، ولكنَّ كل ما يتطلبه الأمر هو أن يلمس شخص الخبز ثم صحني".

إقرأ أيضاً: 8 عادات خاطئة يجب أن تبتعد عنها بعد تناول الطعام

التقليل من المخاطر المحتملة للإصابة بحساسية الطعام:

كما توضِّح قصة "إيمي"، يمكن أن تتطور حساسية الطعام في مرحلة البلوغ وتصبح قاتلة. تُعَدُّ بكتيريا الأمعاء أمراً حيوياً لصحة الجهاز المناعي وعمله الأمثل؛ فمن خلال العناية بها، تساهم في حماية صحتك، ولحسن الحظ، هناك طرائق عدة يمكنك من خلالها رعاية هذه الملايين من الخلايا الميكروبية التكافلية التي تعيش بداخلك وعليك، ومنها:

  • تناول الأطعمة المخمرة: تساعد هذه الأطعمة على إعادة ملء أمعائك بالبكتيريا الصحية.
  • تجنُّب مضادات الحموضة: فهي تغيِّر أحماض معدتك، وتتلف بكتيريا الأمعاء.
  • الابتعاد عن المضادات الحيوية، ومن ذلك الموجودة في طعامك: توصَفُ المضادات الحيوية بإفراط، ويجب ألا تطلبها من طبيبك أو تتناولها إلا في حالة الضرورة القصوى، وعندما تفعل ذلك، خذ معينات حيوية عالية الجودة لإعادة بناء بكتيريا الأمعاء الخاصة بك.
  • تقليل أو تجنُّب تناول الأطعمة المصنعة: هذه الأطعمة غنية بالسكر الذي يغذي البكتيريا الضارة في أمعائك.
  • تعزيز مستويات فيتامين (د) في جسدك: تنزَّه في الخارج، واحصل على فيتامين (د) من خلال التعرض لأشعة الشمس أو استعمال المكملات الغذائية، إذا كنت تعيش في مناطق تتعرض للقليل من أشعة الشمس.

 

 

 

المصدر




مقالات مرتبطة