هل هناك جانب إيجابي لعدم وجود حياة اجتماعية؟

قد تكون الطريقة لتحقيق النجاح بسيطة في الواقع، فمن خلال تجربتي الخاصة خلال إجراء مقابلات مع فنانين وكُتَّاب ورواد أعمال مبدعين ناجحين للغاية وجدت واحدة من أكثر الإجابات شيوعاً عن سؤال: "كيف يمكن أن تكون أكثر إنتاجية؟"، فكانت هذه الإجابة هي: "عدم امتلاك حياة اجتماعية".



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتبة "مادلين دور" (Madeleine Dore)، وتُحدِّثنا فيه عن الجانب الإيجابي لعدم وجود حياة اجتماعية.

إضاعة الوقت:

لأنَّني أعمل عملاً مستقلاً وعن بُعد في حين يتوجَّه الأفراد في المنزل إلى العمل، فقد بررت أهمية الحياة الاجتماعية النشطة للغاية بأنَّها ضرورة إنسانية أساسية، ومع ذلك عندما اتَّضح لي مقدار الوقت كنت أقضيه في التواصل الاجتماعي، أدركت أنَّني ربَّما كنت مخطئة؛ فظننتُ أنَّني كنت أقضي 22 ساعة أو أكثر كل أسبوع في النشاطات الاجتماعية؛ لذا حاولت معرفة ما سيحدث لعملي وصحتي وعافيتي إذا تخلصتُ من حياتي الاجتماعية تماماً.

كنت أعلم تماماً أنَّني كنت أقوم بالنشاطات الاجتماعية تحت تأثير ظاهرةٍ تُدعى الخوف من فوات الشيء (FOMO) وعدم القدرة على الرفض، وأيضاً طريقة للتسويف أو تشتيت تركيزي عن عملي، ولمدة شهر واحد رفضت جميع النشاطات الشخصية مع الأصدقاء؛ كالخروج لتناول الطعام والحفلات والأحداث غير المتعلقة بالعمل؛ لمعرفة ما إذا كان ذلك سيجعلني أكثر إنتاجية ويحسن تركيزي وآفاق العمل.

النتيجة بعد 31 يوماً:

في اليوم الأول من التجربة التي دامت شهراً كان عليَّ أن أواجه بعض القلق العميق بشأن تفويتي لكثير من النشاطات، وبالنسبة إلي غالباً ما كان السبب هو الخوف من فوات الشيء، فعندما يكون لدي العديد من الخيارات المغرية المتاحة للنشاطات الممتعة، كيف أعرف أنَّني أتَّخذُ القرار الصحيح؟ لكن مع مرور الأيام بدأ هذا الخوف بالزوال وبدأت في الاسترخاء؛ فلم يكن لدي سوى خيار واحد لأفكر فيه وهو البقاء في المنزل.

هذا القيد جعلني أكثر ارتياحاً لقراري؛ فقد اعتدت الشعور بالانزعاج عند تفويت أي حدث، لكن من خلال التجربة شعرت بالسعادة أكثر في أثناء العمل أو القراءة أو مشاهدة المسلسلات بدلاً من التفكير في الأشياء الأخرى التي يمكنني القيام بها.

يسمح الجدول الزمني الخالي من المرح أيضاً بمزيد من العمل المركز؛ وهو ما يُعَرِّفُهُ أستاذ علوم الكمبيوتر "كال نيوبورت" (Cal Newport) بأنَّه القدرة على التركيز دون تشتيت الانتباه في مهمة مُجهِدة من الناحية المعرفية، فلم أعد مشتتة بالتفكير فيما يمكن أن أفعله للاستمتاع أو بالمتعة التي شعرت أنَّني محرومة منها، فقد تمكنت من تحديد أوقات مركزة للعمل خلال الأسبوع في الأوقات التي كانت عادةً مخصصة للتواصل الاجتماعي، مثل قضاء ليالي الجمعة في العمل الإداري أو الكتابة صباح يوم السبت في مقهى.

شاهد: ما هو علاج العزلة الاجتماعية؟

تقبُّل الملل:

عندما خصصت المزيد من الوقت للعمل لاحظت أيضاً تغيراً في صحتي العامة وعافيتي؛ إذ بدأت أطهو أكثر في المنزل، وأمارس التمرينات الرياضية اليومية، وأخلد إلى الفراش باكراً كل ليلة، وأقرأ وأستمتع بلحظات الراحة والملل طوال اليوم، وحتى مع وجود أوقات مخصصة للطهي والتمرينات الرياضية لم يترك لي وجود حياة اجتماعية وقت فراغ أكثر ممَّا تخيلت؛ فغالباً ما يرتبط الملل والوحدة بعدم القيام بأي شيء.

تقبلت عدم القيام بأي شيء والاستمتاع بلحظات العزلة، وذهبت في نزهات وجلست في المقاهي وحدي وأصبحت أحلم أحلام اليقظة بتكرار؛ لأنَّني لم أعد أحاول ملء كل لحظة فراغ؛ فلحظات الخمول هذه ضرورية للإبداع، فشرود الذهن مرتبط بحل المشكلات الإبداعي.

عندما يكون عقلك قادراً على الشرود، فإنَّه يصل إلى الذكريات والعواطف وأجزاء عشوائية من المعرفة المخزنة، كما تقول "أيمي فرايز" (Amy Fries)، مؤلفة كتاب "أحلام اليقظة في العمل: أيقظ قدراتك الإبداعية" (Daydreams at Work: Wake Up Your Creative Powers) وكاتبة ومحررة في مجلة علم النفس اليوم (Psychology Today).

خلال التجربة وجدت نفسي أقوم بعصف ذهني بانتظام لأفكار جديدة وأعيد تصور المشاريع الحالية، كما يقول "بيدرو دياز" (Pedro Diaz) الرئيس التنفيذي لمعهد "ووركبليس منتال هيلث انستيتوت" (Workplace Mental Health Institute): "إنَّ عدم القيام بأي شيء يمكن أن ينشطك بقدر ما قد ينشطك قضاء الوقت مع الناس، وهو ضروري للشعور بالنشاط".

وجدَتْ دراسة أُجرِيَت على 48 شخصاً ودَرَسَت حالتهم العقلية ومزاجهم وإرهاقهم وتوترهم على مدى 12 يوماً أنَّ السلوك الانطوائي يرفع الحالة المزاجية للناس ومستويات الطاقة؛ لكنَّ هذا السلوك أدى أيضاً إلى زيادة الشعور بالإرهاق بعد ذلك؛ فعلى الرَّغم من كونها عينة صغيرة إلَّا أنَّها تدعم فكرة أنَّ النشاط المركز سواء أكان التواصل الاجتماعي أم العمل أم الدراسة له تأثيره.

أثارت هذه الملاحظة سؤالاً هاماً، فربما لا يكون مقدار التنشئة الاجتماعية أو العمل الذي نمارسه هو ما يؤدي إلى الإرهاق؛ بل ما قد يؤدي إليه هو وجود فترات راحة مناسبة من أي منهما؛ إذ يقول "دياز": "لا نولي أهمية كافية للبقاء بمفردنا، ولا يعرف معظم الناس حتَّى ما يجب عليهم فعله لمنح عقولهم وجهازهم العصبي قسطاً جيداً من الراحة".

في مجتمع يُعَدُّ فيه الانشغال علامة شرف، قد يكون من الصعب فهم ما إذا كانت الحياة الاجتماعية القليلة أو المعدومة هي نتيجة حتمية للحياة العملية، أو وسيلة للإشارة إلى أهميتنا للآخرين، كما تقول "سيلفيا بيليزا" (Silvia Bellezza) المؤلفة المشاركة في دراسة في كلية هارفارد للأعمال (Harvard Business School): "عندما تقول إنَّك مشغول فأنت تخبر الآخرين أنَّك تتمتع بمكانة عالية وبأنَّك شخص هام، ليس لأنَّ ما ترتديه باهظ الثمن، لكن لأنَّك مرغوب للغاية ومطلوب بشدة"، حيث تناقش الدراسة التي شاركت بها بأنَّ أسلوب الحياة المرهق بدلاً من أسلوب الحياة المريح، أصبح رمزاً للمكانة الطموحة.

مشكلة عدم وجود أصدقاء:

يمكن أن تتحول الآثار الإيجابية إلى الوحدة، مثل زيادة وضوح الفكر والشعور بالنشاط إلى مصدر قلق إذا بقيت في المنزل منعزلة عن المجتمع لفترة طويلة، وبالنسبة إلى كثيرٍ ممَّن يعملون في المكاتب، تُعَدُّ التنشئة الاجتماعية أحد أهم عناصر الحياة العملية، ومن المرجح أن يندمج الأشخاص الذين لديهم أصدقاء مقربون في العمل نسبة أكبر بسبع مرات تماماً في عملهم.

كما تعزز الصداقة الحميمة في مكان العمل إحساساً مشتركاً بالهدف، ويمكن أن تؤدي شبكة دعم اجتماعي إلى الترقيات وتبادل الاستشارات المهنية، وبطبيعة الحال تُعَدُّ التنشئة الاجتماعية خارج ساعات العمل أيضاً طريقة هامة لبناء التواصل في العمل؛ ففي حين أنَّ شهراً من عدم وجود حياة اجتماعية لم يؤثر في علاقتي مع العملاء الحاليين، فقد يكون ذلك قد قلل من قدرتي على إنشاء علاقات مع عملاء جدد حينما واصلت ذلك.

إقرأ أيضاً: نصائح لتأسيس وبناء علاقات اجتماعيَّة ناجحة

اعمل واستمتع:

بدلاً من السعي إلى تحقيق توازن متميز بين العمل والحياة الشخصية، قد يكون من الأفضل لنا أن نحاول إدخال حياتنا الاجتماعية في عملنا؛ فلقد خطر لي أنَّ سر الحياة المهنية الناجحة لا يكمن في التخلص من حياتك الاجتماعية، لكن دمج الاثنين معاً.

فقد وَجَدَت "إيلين جالينسكي" (Ellen Galinsky) إحدى المشاركات في تأسيس منظمة "فاميليز آند وورك انستيتيوت" (Families and Work Institute) أنَّ الأشخاص الذين يعملون من خلال التركيز المزدوج على العمل والحياة الاجتماعية لديهم أكثر من اهتمام أو تركيز على نفس الأولوية، هُم الأكثر رضى في حياتهم عموماً.

تقول "جالينسكي": "نجد أنَّ الأشخاص الذين يتسمون بالتركيز المزدوج على العمل والحياة الاجتماعية، يميلون إلى أن يكونوا أكثر صحة، ويؤدون بصورة أفضل في العمل والمنزل، فإذا كان لديك تركيز واحد فقط في حياتك وحدثت مشكلة ما فستكون النتائج مدمرة، أمَّا إذا كانت لديك أشياء أخرى هامة بالنسبة إليك؛ مثل هواية أو ممارسة الرياضة أو نشاط اجتماعي أو أصدقاء، فأنت تميل إلى القيام بعمل أفضل عموماً".

إقرأ أيضاً: 7 نصائح لعلاقات اجتماعية أفضل مع الآخرين

في الختام:

خلال التجربة لم أستبدل وقت فراغي بعمل إضافي فحسب؛ بل ركزت على أمرين، فقد كنت قادرة على تخصيص أوقات عمل أكثر تركيزاً ولم أكن لأفعل ذلك لولا هذه التجربة؛ لكنَّني انجذبت أيضاً إلى النشاطات التي أهملتها سابقاً؛ مثل الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية والعزف على البيانو وممارسة التأمل.

لقد تعلمت أنَّني لا يمكنني استئصال مجال من مجالات الحياة من أجل تنمية مجال آخر؛ إذ يرتبط التواصل مع الناس ارتباطاً وثيقاً بعملنا ويساعدنا على مواجهة تقلبات الحياة التي لا مفر منها، وبعد التجربة أعدت تحديد مفهوم النجاح بالنسبة إلي؛ فهو ليس عملاً أو متعة أو توازناً؛ بل مزيج من النشاطات المختلفة في كل يوم، وفترات راحة بينها.

المصدر




مقالات مرتبطة