ماذا تفعل عندما تتسبب مهمة شاقة بإصابة عقلك بالإجهاد؟

في حال كنت تعمل على مَهمة ذهنية مُعقدة وخُيِّرت بين إكمالها أو الذهاب إلى الشاطئ والاستمتاع هناك، أيهما تختار؟



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدوِّن "تود فوغل" (Todd Vogel)، والذي يُحدِّثنا فيه عن تجربته في التعامل مع المهام الذهنية المعقدة.

إن كنتَ تفكِّر مثل أغلب الناس، فغالباً ستُفضِّل خيار الاستمتاع تحت أشعة الشمس على الجلوس في مكتبك ومحاولة حل المشكلات؛ لكنَّ هذا الميل الشائع لتجنُّب إنجاز المهام الذهنية المُعقدة ليس إشارة مباشرةً على أنَّنا جميعاً كسالى بالفطرة؛ إذ قد يكون الإجهاد العقلي أمراً مزعجاً للكثيرين، وقد يصبح كحكة في المخ تحثك على التوقف عن العمل والقيام بشيءٍ آخر.

تتطلب المهام العقلية الصعبة نوعاً من الجهد المرهِق، مثل محاولة التفكير وحل لغز في الكلمات المتقاطعة أو إنهاء واجباتك المدرسية، أو حتى محاولة تذكُّر العناصر الموجودة في قائمة التسوق الخاصة بك، لكن ما هي طبيعة هذا الجهد الذهني بالضبط؟

أظهرت إحدى الدراسات الهامة أنَّه حينما يُخيَّر الناس بين القيام بمهمة ذهنية صعبة وأخرى سهلة، سيختارون عادةً الخيار الأسهل. حتى إن كان بذل الجهد يأتي بنتائج إيجابية، مثل كسب المال أو مساعدة شخص آخر أو التعاطف مع مشاعر الأخرين.

ولكوني مأخوذ بهذه الأسئلة، إنَّ امتلاك فهم أفضل لكيفية تجربة الناس وتفكيرهم وتعاملهم مع الجهد الذهني، له أهمية أكبر من تعزيز إنتاجية العمل. قد يكون لفهم سبب تجنب الناس لبذل الجهد في بعض الأحيان آثار مُنقِذة للحياة. تخيَّل ألا يقوم مصورو الأشعة بالجهد المطلوب منهم لتصوير صورة ما بحثاً عن ورم محتمل، أو الطيار الذي يتجنب بذل الجهد اللازم للبقاء في حالة تركيز ويقظة عند الطيران.

إنَّ الجهد الذهني جانب شائع وجوهري للتجربة الإنسانية، وقد بدأ للتو البحث في الأمر لفهمٍ أفضل للشعور الفردي حيال الجهد، ولماذا يجده الناس غير مُستحبٍّ أو مكروه. أظهرت دراسات عدة أنَّ الناس يتجنبون المجهود العقلي أو المعرفي؛ لكنَّ بعض هذه الدراسات قارنت بين الشعور الذي يولده بذل الجهد والتجارب البغيضة الأخرى المعروفة.

تشير بعض العبارات المُستعمَلة كثيراً مثل: "لقد أتعبني التفكير" أو "إنَّ رأسي يؤلمني من التفكير بشدة" إلى أنَّ الجهد المعرفي يثير مشاعر الانزعاج، وربما حتى تلك المشاعر المرتبطة بالألم. حاولنا أنا وزملائي أخيراً اختبار إمكانية أن تكون هذه الأقوال أكثر من مجازية؛ أي ما إذا كان التفكير الجاد مقيتاً أكثر من الشعور بالألم. ونستطيع القول إنَّه فضَّلَ كل شخص تقريباً، لمرة واحدة على أقل تقدير، تجربة أمر مؤلم على بذل جهود عقلية، بالإضافة إلى أنَّ هناك مَن اختار التعرض لتجارب مؤلمة لمرات عدة لتجنُّب إنجاز عمل يتطلب مجهوداً.

لنُعِد صياغة المثال السابق للاختيار بين عمل ذهني مُتعِب يجب إنجازه في المكتب أو فرصة للاسترخاء على الشاطئ، ماذا لو كان الاختيار الآن بين إنجاز مهمة عقلية مرهقة أو وضع إصبعك في مصيدة فئران؟ هل سيظل الناس على استعداد لتجنُّب المجهود العقلي إذا كان البديل ألماً جسدياً؟

في دراستنا، اختبرت أنا وزملائي هذا من خلال تقديم هذين الخيارين بالضبط للأشخاص: إما القيام بمهمة تتطلب أداء عقلياً مُعَقداً باستعمال الذاكرة تحديداً، أو المعاناة الناتجة عن إحساس بالحرارة المؤلمة.

قبل تحديد اختياراتهم، أُعطي مَن شاركوا جميعهم لمحة عن الخيارات حتى يعرفوا ما الذي يمكن أن يتضمنه كل منهم. طُلِب من المشاركين والمشاركات في المهمة التي تتطلب عملاً في الذاكرة التركيزَ على مجموعة من الأحرف التي ستظهر كسلسلة متتالية، ومن ثَمَّ محاولة تذكُّر ما إذا كان الحرف الذي سيُعرض أمامهم تالياً موجوداً ومطابقاً لحرفٍ آخر في تلك السلسلة من الأحرف.

كانت هناك خمسة مستويات مختلفة من الصعوبة، تزداد صعوبة كلٍّ منها كلما كان ظهور الحرف الهدف في وقتٍ مبكرٍ من السلسلة.

العمل اليومي المُماثل لهذه المهمة شيء مثل القدرة على تذكُّر قائمة التسوق التي تريدها وأنت في متجر البقالة؛ إذ يجب أن تتذكر العناصر التي لديك بالفعل، والعناصر التي تحتاج إليها، وتُحدِّث ذهنياً قائمتك في كُلِّ مرة تضيف فيها عنصراً جديداً إلى سلتك.

في غضون ذلك، ولتطبيق الخيار الثاني على المشاركين وهو التعرض لدرجات حرارة عالية ومؤلمة، استعملنا جهاز "محفز حراري"، الذي سمح لنا بالتحكم الدقيق بدرجة الحرارة وتجنُّب إتلاف الجلد. ووضعنا الجهاز على ذراع الشخص، مستعملين خمسة مستويات من درجات الحرارة المرتفعة. وكانت أعلى درجة حرارة هي الدرجة التي صنفها المشارك على أنَّها 80/100 على مقياس الألم في المرحلة التمهيدية للدراسة.

شاهد بالفديو: 5 علامات تدل على الإصابة بالإنهاك الناجم عن العمل

لقد فوجئنا عندما اكتشفنا أنَّ المشاركين غالباً ما اختاروا الألم الجسدي على المهمة المُجهِدة عقلياً. قد يشير هذا إلى أنَّ الناس قد يظنون أنَّ بذل الجهد المعرفي مُكلِفٌ ذهنياً بما يكفي بالنسبة إليهم، لدرجة أنَّهم يفضِّلون الخضوع لألم جسدي بدلاً من بذل جهد عقلي.

في الواقع، نستطيع القول إنَّ هذه النتيجة كانت سمتها العالمية؛ إذ إنَّ كل شخص تقريباً اختار الألم - ولو لمرة واحدة فقط - بدلاً من المهام التي تتطلب عمل الذاكرة، مع تفضيل العديد من الناس تجربة الألم مرات عدة لتجنُّب الجهد.

وكلما ارتفعت المستويات المطلوبة من الجهد - أي مع زيادة متطلبات وحاجة المَهَمة للذاكرة - كان الناس أكثر استعداداً لتجربة الألم الجسدي بدلاً من القيام بالعمل الذهني المطلوب للمهمة، أما حين يكون الخيار الثاني هو النسخة الأكثر صعوبة من مهمة الذاكرة، فكان خيار المشاركين والمشاركات بنسبة 60% من الوقت الشعور بالألم لحد معين، في حين فضَّلَ بعضهم الشعور بالألم بنسبة 100% من الوقت.

وبخلاف ذلك، عند معرفتهم أنَّ الخيار يتضمن التعرض لمستويات أعلى من الألم، كان الخيار الذي يُفضِّله مَن شاركوا هو المهمة الذهنية التي تتطلب جهداً في الذاكرة.

تُظهِرُ هذه النتائج أنَّه إلى حدٍّ ما، يمكن مقارنة الشعور بعدم الراحة الذي ينتج عن الجهد العقلي بالألم الجسدي. ومع أنَّ الجهد العقلي قد لا يكون أمراً ضاراً، فإنَّ فكرة أنَّه غير مُحبَّذ ويُفَضَّلُ تجنُّبه تجعل هذه التعابير تبدو أكثر من مجرد فكرة مجردة أو مصطلح مجازي. حقيقةً، ما أظهرناه هنا هو أنَّ الناس سيتجنَّبون بذل الجهد المعرفي حتى عندما يؤدي ذلك إلى إيذائهم وشعورهم بالألم.

مع أنَّ الحياة اليومية قد لا تتطلب منا في كثيرٍ من الأحيان الاختيار بين التفكير الجاد أو المعاناة من الألم، إلا أنَّنا في بحثنا هذا سنحاول تسليط الضوء على قوة الشعور الذي يمنحه الجهد العقلي لِمَن يبذله.

يبدو أنَّ الشعور غير السار الذي يمكن أن يشعر به الناس عند القيام بشيء يتطلب مجهوداً عقلياً هو أكثر من مجرد تأثير جانبي غير هام. في حين أنَّه ليس منطقياً أو صحيحاً القول إنَّ الجهد المعرفي مؤلم، إلا أنَّ التكاليف المُتَصوَّرَة الناتجة عن بذل الجهد والرغبة في تجنُّبه لها تأثيرات سلبية حقيقية في اتخاذ القرار.

وهذا ما يثير السؤال الآتي: إذا افترضنا أنَّ الجهد العقلي مكلفاً وغير مُحبَّذ، فلماذا لا يكتفي الناس أحياناً بالقيام به على مضض فقط؛ بل يبحثون عنه ويقومون به وهم مستمتعون أيضاً؟

بعد كل ما ذُكِر، يمكننا القول إنَّ هناك العديد من الأشخاص اللذين يستمتعون بالمهام التي تتطلب منهم بذل مجهودٍ كبير، مثل إكمال حل الكلمات المتقاطعة الصعبة أو حل الألغاز المنطقية المعقدة أو حتى قراءة مقالات عبر الإنترنت عن الجهد المعرفي. هل هناك شيء يميز تفكير هؤلاء الأشخاص؟

يرى بعض الخبراء أنَّ الجهد المعرفي قد لا يكون دائماً أمراً غير مرغوب فيه؛ بل إنَّ بعض الناس قد يرون الأعمال التي تتطلب جهوداً ذهنية على أنَّها مجزية. تماماً كما يمكن أن يشعر العدَّاء بنشوة السعادة عند إنهاء السباق، والشعور بالرضى الذي يختبره لاعب الشطرنج بعد اكتشافه حركة معقدة.

فهنا، وفي مثل هذه المواقف، يبرر نجاح الغايات الألم والجهد الذي رافق الوسائل. قد يكون الركض في سباق طويل أمراً غير سار، أو ربما يكون إرهاق العقل للعثور على حركة الشطرنج المثالية أمراً كريهاً أيضاً، ولكن وفي الحالتين كلتيهما، قد تفوق الفوائد المحتملة للجهد تكاليفه.

ومن ثَمَّ يبدو أنَّ قراراتنا للقيام بعمل ذهني تتضمن مقارنةً بين التكاليف المترتبة عليه مقابل الفوائد المحتملة الناتجة عنه. هذه المقارنة تسمح لنا فقط بمتابعة القيام بالنشاطات الأكثر فائدة لنا في الوقت الحالي. من المرجح أن يدرس الطالب بجد لامتحان قادم إذا كانت فوائد القيام بذلك مثلاً الحصول على درجة جيدة في الاختبار، الأمر الذي يفوق تكاليف الجهود المبذولة في الدراسة.

أما إذا لم يكن للاختبار مساهمة كبيرة في الدرجة الإجمالية للطالب، أو إذا كان موعد الامتحان بعيداً؛ فقد تقلُّ رغبة الطالب في إنفاق طاقته العقلية على الدراسة ويفضل بدلاً من ذلك الحفاظ على طاقته لفعل شيءٍ أكثر قيمة.

إقرأ أيضاً: 3 طرق للتخفيف من الإرهاق العقلي

هناك عاملٌ آخر يؤدي دوراً هنا، وهو أنَّ الناس سوف يختلفون في تقييمهم لجهدٍ عقليٍ ما على أنَّه كريه أو مُجدٍ. حقيقةً هناك سمة شخصية راسخة تُعرَف باسم "الحاجة إلى الإدراك أو المعرفة" وتُوضِّح التباين في تفضيل الأشخاص للنشاطات التي تتطلب المعرفة.

إذا أخذنا نظرة عن كثب إلى العدَّاءين، فهم يستمتعون بالجري بعد صافرة البداية، ومن المرجح أن يجد الأشخاص الأكثر احتياجاً للمعرفة الدخول في حالة من التماهي مع ما يفعلوه، أنَّ النشاط المطلوب القيام به سهل أو تلقائي أو ممتع حتى.

ومع ذلك، كما قد يكون لأكثر العدائين انضباطاً حدود في قدرتهم ورغبتهم في الركض لفترات طويلة من الوقت، سيكون هناك حدٌّ لاستعداد الشخص للمشاركة في النشاطات المجهدة؛ حتى لو كانوا يحتاجون جداً إلى المعرفة. في الواقع، وجدنا في دراستنا هذه أنَّ أولئك الذين يحتاجون جداً إلى المعرفة ما زالوا يختارون الألم إن خُيِّروا بينه وبين بذل مستوى عالٍ من الجهد العقلي.

قد تكون إحدى نتائج هذا البحث، أنَّه بصرف النظر عما إذا كنت ستحصل على درجات عالية أو منخفضة عند قياس حاجتك إلى المعرفة، عن طريق قياس إدراكك لتكاليف أو فوائد هامة مُجهِدة عقلياً، يمكنك التأثير إيجاباً في دوافعك للمشاركة في جهد ذهني ما.

على سبيل المثال: تخيَّل النتائج الإيجابية التي ستنتج عن بذل الجهد وإن لم تكن هناك فوائد واضحة، فحاول اختراع بعضها. قد تكون هذه الفوائد شيئاً صغيراً مثل مكافأة نفسك بقطعة من الشوكولاتة أو فنجان قهوة ساخن، أو شيء آخر أكبر أو أكثر أهمية ومعنىً تحدده أنت.

في الوقت نفسه، هناك خطوات يمكنك اتخاذها لتخفيف الجهد المبذول في مهمة ذهنية، من خلال تقسيمها إلى أجزاء أصغر، على سبيل المثال: يستعمل أولئك الذين يكافحون من أجل الحفاظ على جهدهم العقلي فكرة تقسيم المهام استعمالاً شائعاً، مثل الأشخاص الذين شُخِّصَت حالاتهم باضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط (ADHD).

غالباً ما أستعمل هذا النهج بنفسي عندما أشعر بانعدام الدافع أو قلة التحفيز. فمثلاً أجد أنَّه من السهل تقسيم المهام الكبرى وذات المجهود الكبير، مثل تنظيف المنزل أو العمل على كتابة نص، إلى مهام أصغر يسهل إدارتها، مثل كنس أرضية المطبخ + كتابة 250 كلمة.

من خلال تخفيف شدة الجهود المبذولة لإنجاز عمل ما وجعل المكافآت أكثر واقعية، قد تجد أنَّ الجهد الذهني المطلوب في عمل ما ليس كريهاً كما كان يبدو.

قد يكون النهج الدقيق الذي يناسبك مختلفاً عن هذا؛ ولكنَّ المبدأ الأساسي هو نفسه. قد تجد أنَّه يمكنك زيادة استعدادك وتحفيزك لإكمال المهمة التي بين يديك من خلال زيادة الفوائد المتصورة والمرجوة من بذل جهد عقلي، بالإضافة إلى تقليل التكاليف المترتبة على العمل.

إن بدأت بتطبيق هذا، فقد تجد نفسك جالساً في المكتب تبحث عن حلٍّ لمشكلة العمل المحيرة هذه بدلاً من الذهاب والاسترخاء تحت أشعة الشمس.

المصدر




مقالات مرتبطة