ما هي العلاقة بين عدم اليقين والقدرة على الاستمتاع بالحياة؟

عدم اليقين سيف ذو حدين؛ حيث يميل عدم اليقين إلى جعل الناس أكثر قلقاً ويحتاج إلى جهود للسيطرة على ما قد يحدث، وقد يُمثِّل توقُّع الأسوأ حمايةً ذاتية؛ مما يجعلك مُحصَّناً لتتفادى المفاجآت السيئة.



وفي الوقت نفسه، فإنَّ توقُّع أنَّ الأمور ستسير بشكل سيئ يمكن أن يؤثر في قراراتنا وسلوكاتنا ويزيد من احتمالية حدوث نتائج سلبية، ويمكن أن يؤدي إلى قبول الشعور بعدم اليقين، وحتى الميل إليه؛ إلى الشعور بمزيد من المخاطرة، بينما يفتح المجال لمزيد من الاحتمالات وقدرة أكبر على التكيف وربما رضا أكبر.

هل الاستمتاع بالحياة يحافظ على كيفية تفاعلنا مع عدم اليقين؟

الاستمتاع بالحياة، كما وصفه الباحثون "جريجوري" (Gregory)، و"كويدباخ" (Quoidbach)، و"هاسي" (Haase) و"بيف" (Piff) في مجلة "إيموشن" (Emotion) عام 2021 هو: "شكل من أشكال تنظيم العاطفة الذي يتضمن تعمُّد تنظيم التأثير الإيجابي"، وقد يحدث شعور المتعة في الحياة بشكل عفوي أو قد يكون خياراً نتخذه، أو حتى فلسفة للحياة.

"لأن سنونو واحد لا يصنع صيفاً، وكذلك يوماً واحداً لا يصنعه، وكذلك الأمر يوماً واحداً، أو وقتاً قصيراً، لا يجعلان المرء سعيداً" - الفيلسوف اليوناني أرسطو (Aristotle).

درس "جريجوري" وزملاؤه (Gregory and colleagues) في بحثهم كيف يؤثر عدم اليقين في قدرتنا على الاستمتاع بالحياة، ورُبِطَت المتعة المتزايدة بالبحث عن ظروف إيجابية، واختيار النظر إلى الجانب اللطيف للأشياء، واتِّخاذ الإجراءات لجعل الأمور أكثر متعة، وإعادة تقييم كيفية تفسيرنا للأحداث لإيجاد جوانب إيجابية والتصرف بشكل مختلف لرؤية أفضل ما في المواقف.

ويرجع مؤلفو الدراسة الأدبيات المتعلقة بالعديد من الفوائد المدروسة للاستمتاع بالحياة، بما في ذلك تحسين العافية والسلامة ورفع احترام الذات وزيادة السعادة وتخفيف الاكتئاب وزيادة المرونة وتعزيز إحساسنا بأهمية الحياة، بالإضافة إلى الآثار المفيدة المحتملة خلال المرض مثل تخفيف التهاب وتسكين الأعراض الجسدية للسرطان، ولفهم دور المستويات المنخفضة من عدم اليقين بشكل أفضل، أجرى "بيف" وزملاؤه (Piff and colleagues) سلسلة من ثلاث دراسات تبحث في كيفية ارتباط المتعة بعدم اليقين.

في الدراسة الأولى، قاموا بتتبع المشاعر على مدار اليوم لأكثر من 6000 شخص باستخدام تطبيق مسح يسمى "58 ثانية" (58 Seconds)، والذي يسمح للمشاركين بالرد بسرعة على استطلاعات صغيرة، ولقد نظروا في مقاييس عدم اليقين والاستمتاع بالحياة والحالة العاطفية باستخدام أسئلة استفسارية، وقاموا بتحليل مجموعة البيانات المعقدة، التي تحتوي على أكثر من 18000 ملاحظة تعتمد على التقرير الذاتي.

ووجدوا روابط بين عدم اليقين في وقت مبكر من اليوم وزيادة الاستمتاع بالحياة بعد ساعات عدَّة، واستمرارها بعد التحكم بمجموعة من المتغيرات المربكة المحتملة، بما في ذلك العمر والوقت من اليوم واليوم من الأسبوع والحالة العاطفية، وكان هذا التأثير المترابط قصير العمر نسبياً؛ حيث انخفض بعد 7 أو 8 ساعات.

الدراسة الثانية تناولت مسألة السببية؛ إذ بعد مشاهدة مقاطع الفيديو التي صُمِّمَت للتحكم بإحساس القدرة على التنبؤ في الحياة - أحدهما لزيادة الإحساس بعدم اليقين في الحياة وعدم القدرة على التنبؤ بها، والآخر يعرض المستقبل على أنَّه أكثر استقراراً، والفيديو الثالث محايد - قام 397 مشاركاً بتقييم مستوى المشاعر السلبية وثلاثة مقاييس مختلفة للاستمتاع بالحياة، ووجد فريق البحث أنَّ زيادة عدم اليقين تتسبب في زيادة القدرة على الاستمتاع بالحياة وتجاوز الدراسة الأولى لإثبات أنَّ التحكم بالشعور بعدم اليقين يؤثر في الاستمتاع بالحياة.

استخدمَت الدراسة الثالثة تصميماً واقعياً للنظر في القدرة على الاستمتاع بالحياة خارج إطار التقرير الذاتي أو بيئة المختبر؛ حيث وزَّع الباحثون نشرات على الأشخاص الذين يمرون بجانبهم في الشارع، ثم يطلبون منهم لاحقاً اختيار ما إذا كانوا يريدون حرفياً "التوقف وشم رائحة الزهور" في محطة على جانب الطريق.

تلقَّى أكثر من 200 شخص أحد المنشورين اللذين يعرضان صورة زهرة مع النص "توقَّف وشُم الورود"، وكانا متطابقين بخلاف أحدهما يحمل شعار "الحياة لا يمكن التنبؤ بها" والآخر "الحياة ثابتة"، وعلى بعد حوالي 150 قدماً، كانت لدى الباحثين طاولة مع باقة من الورود؛ حيث عُرِض على المارة خيار الاستمتاع بالرائحة، بينما قام مساعدو الأبحاث الذين يختبئون في مكان قريب بتسجيل ردود أفعالهم.

والأشخاص الذين تلقوا نشرة تحتوي على جملة "الحياة لا يمكن التنبؤ بها" كانوا أكثر عرضة 2.58 مرة للتوقف وشم رائحة الورد، وظل هذا التأثير ثابتاً بعد التحكم بعمر المشارك وجنسه، ودعم النتائج المستندة إلى الاستطلاع التي مفادها أنَّ الوعي الأولي بعدم اليقين في الحياة - في المتوسط​​ - يزيد من فرصة الاستمتاع بالتجارب عندما تفرض الفرصة نفسها.

إقرأ أيضاً: أساسيات التفكير الإيجابي: الأكثر مرونة هو الأكثر تحكّماً

الاستمتاع بالحياة كطريقة للتأثير في عدم اليقين:

يتجاوز الاستمتاع بالحياة كونه مفهوماً هاماً في علم النفس الإيجابي، بالنسبة إلى الكثيرين، إنَّه أسلوب حياة متشابك بشكل وثيق مع تنمية فلسفة الحياة المتمثلة في العيش بشكل جيد أو الازدهار أو الحياة الجيدة، وهي فلسفة الحياة المعيشية على أكمل وجه التي وصفها أرسطو بالفضيلة.

وبالنظر إلى حالة عدم اليقين غير القابلة للاختزال في الحياة، فإنَّ كيفية العيش بشكل جيد في مواجهة النجاح والفشل الذي لا يمكن التنبؤ به هي سؤال عميق ودائم تصارع معه الإنسانية لقرون؛ حيث إنَّ إضافة عنصر عدم اليقين إلى التهديد يجعله يبدو أكثر خطورة.

وفي الوقت نفسه، تكون القدرة المفرطة على التنبؤ مملة وبلا حياة، وإضافة عدم اليقين تؤدي إلى إضافة البهجة إلى العلاقات ورواية القصص وحتى مع الذات، هو جوهر الإبداع والمتعة؛ حيث ويمكن أن يكون اليقين مطمئناً ومطلوباً لتحقيق الاستقرار، ولكن في النهاية يكون إيجاد التوازن الصحيح بين عدم القدرة على التنبؤ والتحكم أمراً مُرضياً للغاية.

بعد إنشاء العلاقة الأساسية بين عدم اليقين والاستمتاع بالحياة، هناك مجال للبحث المستقبلي الذي يبحث في أنواع ودرجات مختلفة من عدم اليقين، والحصول على فهم أفضل لكيفية ارتباط الاستمتاع بالحياة وعدم اليقين على مدى فترات زمنية أطول، وكيفية تأثير أنواع معينة من التهديد في استجابات الاستمتاع بالحياة.

إقرأ أيضاً: 7 استراتيجيات تساعدك على التعايش في ظل انعدام اليقين

بما في ذلك دور القلق بشأن الموت - "بروز الوفيات"؛ وهو جزء من نظرية السيطرة على الخوف، والتي تنظر في تأثير علاقتنا بالموت في كيفية اتِّخاذنا للقرارات - حيث يتبادر إلى الذهن سؤال آخر: هل يؤثر الاستمتاع بالحياة في الاستجابات العاطفية المستقبلية لعدم اليقين؟ إذا شُجِّعَ الشخص على الاستمتاع بالحياة، فهل يواجه عدم اليقين بمشاعر سلبية أقل واستجابة أكثر تكيفاً؟

يتجاوز الاستمتاع بالحياة الشعور بالتحسُّن؛ حيث من المحتمل أن تصبح آلية التأقلم طريقة حياة، وبالطبع، الاستمتاع بالحياة ليس حلاً واحداً يناسب الجميع للازدهار؛ حيث إنَّ مجرد إخبار شخص ما بمحاولة الاستمتاع بالحياة في الأوقات الصعبة هو ابتعاد عن الهدف، فالهدف النهائي لعيش حياة كاملة هو أمر جذاب، لكنَّ تأطير خلق - مثل هذه الحياة - كخيار بسيط، يخاطر بفقدان حقيقة مدى صعوبة التغيير، ويمكن أن تقوِّض التجربة الصادمة التي لم تُحَلُّ القدرةَ على التوجيه بما يكفي لفرز حتى الاحتياجات الأساسية.

بالنظر إلى أنَّنا في خضمِّ جائحة، ناهيك عن عدد لا يحصى من التغييرات الأخرى على المستويين العالمي والمجتمعي، تعلَّم تحقيق أقصى استفادة من العيش، على الرغم من عدم القدرة على التنبؤ بالمستقبل يبقى سؤالاً وجيهاً ووجودياً.

قد يؤدي الاستمتاع بالحياة دوراً تطورياً؛ حيث يعمل كطريقة لتعويض الآثار العاطفية والنفسية السلبية الناجمة عن عدم اليقين لرسم مسار متجاوب وقابل للتكيُّف خلال تقلبات الحياة، إلى جانب الإدراك الصريح للمشكلات والعمل البنَّاء، وإلى جانب التكيف الفردي، يُعَدُّ الاستمتاع بالحياة تجربة مشتركة؛ مما يسمح للأشخاص بالانضمام إلى المجتمع خلال أفضل الأوقات وأسوأ الأوقات، والبقاء على تناغم مع ما هو مفيد وهام ومحزن والمضي قدماً معاً.

المصدر




مقالات مرتبطة