ما هي الإيجابية السامة؟ وكيف تستطيع تجنبها؟

نحن نلجأ في خضم اليأس والإحباط وغمرة المشاعر السلبية إلى الشكوى لمن هم مقربون منا، وبدل أن يتقبَّلوا مشاعرنا ويمنحوها الشرعية والحق بأن تعتمل في أنفسنا، يحاولون رفع معنوياتنا بعبارات إيجابية مجردة؛ لكنَّهم دون أن يدركوا يصبحون كمن يدسُّ السم في العسل.



"لقد خسرتُ عملي".

"لا تحزن ولا تيأس، فستجد عملاً آخر أفضل منه، تابع البحث، وطوِّر ذاتك، وانهض، ولا تستسلم؛ فالحياة مليئة بالفرص وستجد الفرصة التي تستحقها".

"لقد تركني خطيبي بعد ثلاث سنوات".

"إيَّاكِ أن تذرفي دمعة واحدة، سيعوضك الله خيراً منه، إنَّه لا يستحقك ثقي بذلك، فلو كان خيراً لبقي، لعل الله يريد أن يحدث بعد ذلك أمراً".

نقتنع بأقوالهم ونبدأ بتنفيذ تعليماتهم وفي داخلنا شيء ما ينوح وينكسر، تتأجج المشاعر السلبية التي خلَّفها الموقف، فنرشُّ عليها عبارات التشجيع الزائفة التي تكون أشبه بدعوة ميت إلى الرقص.

إنَّ عبارات التشجيع والتحفيز دون الطبطبة والتقبل للموقف والشعور السلبي الذي أثاره، أشبه بوضع ضمادة جروح على ضربة السيف، إنَّها حلٌّ هش مؤقت يزيد الطين بلَّة ويعقِّد الأمور أكثر ما يحلُّها، وهذا ما أطلق عليه المتخصصون اسم "الإيجابية السامة"، فهل تعرفون ما هي الإيجابية السامة؟ وهل تعرفون كيف تستطيعون تجنبها؟

ما هي الإيجابية السامة؟

الإيجابية السامة في الحقيقة هي نوع من أنواع قمع المشاعر وكبتها، إنَّها منع الإنسان من إظهار شعوره بالانكسار أو الغضب أو الضعف بحجة التفاؤل والنظر نحو النصف الممتلئ من الكأس، إنَّها إغلاق قسري للجراح بكل ما تحتويه من الصديد والشوائب، فيتضاعف الألم وتتعاظم الكارثة.

الإيجابية السامة هي أن يقال لك ابتسم وفي داخلك ألف جرح، وواجه الأحزان بضحكتك، إنَّها إقناعك بأنَّك تستطيع أن تحافظ على نمط إيجابي في التفكير حتى وأنت في قاع مزاجك وحضيض أحداثك، وإلا فإنَّ تهمة التشاؤم والسلبية ستلتصق بك.

لا ينكر أحدٌ فوائد الإيجابية والتفاؤل وضرورة تمتع الإنسان بهما؛ لكنَّ قمع المشاعر الصعبة على حساب فرض الشعور المتفائل يسبِّب أذية نفسية كبيرة وعواقب وخيمة؛ فالحياة ليست وردية دائماً والسعادة والفرح ليسا الشعورين الوحيدين في كتالوج المشاعر البشرية؛ فلكل موقف مشاعره التي تعبِّر عنه، والتي تكون صاخبة وجارفة أحياناً، وإنَّ عبارات الإيجابية السامة أشبه بسد مجرى سيل جارف بكومة قش.

إقرأ أيضاً: 6 نصائح ذهبية لتوليد الطاقة الإيجابية

أضرار الإيجابية السامة:

من الجيد أن يكون الإنسان إيجابياً، أما الإفراط في الإيجابية حتى عندما يكون الشعور السلبي منطقياً فهذا ليس محموداً، وعليه فإنَّ أضرار الإيجابية السامة هي ما يأتي:

  1. من أضرار الإيجابية السامة أنَّها تحوِّل الإنسان إلى شخص غير منطقي، فكيف يضحك من خسر وظيفته تواً، وكيف لا يحزن من فقدَ شخصاً عزيزاً بحجة الصلابة والإيمان؟ إنَّ الإيجابية السامة تجعل الإنسان منفصماً عن الواقع وفاقداً الاتصال به، وغير صادق مع نفسه وبعيداً عن الآخرين.
  2. إنَّ تراكم المشاعر السلبية هو من أخطر أضرار الإيجابية السامة؛ ففيها يتجاهل الإنسان مشاعره الحقيقية لكونها بعيدة عن التفاؤل، ومرة بعد مرة تتراكم المشاعر السلبية، وتولِّد كبتاً عاطفياً وقمعاً شعورياً، فيحاول التنفيس عن نفسه بقلق أو حقد أو غضب بغير أسباب مقنعة.
  3. من أضرار الإيجابية السامة أيضاً نذكر انقطاع العلاقات بين الناس؛ فالشخص الذي تحمَّل شعوراً سلبياً بسبب موقف ما، ولجأ إلى أشخاص من حزب الإيجابية السامة وانهالوا عليه بالوعظ المتفائل والتفكير الإيجابي، فسيفقد شعوره بالانتماء إلى هذه الجماعة، فهم لا يتفهَّمون شعوره ولا يقدِّرون حقه في هذا الشعور؛ بل يعدُّونه ثانوياً وغير ذي قيمة، وفي مثال على ذلك نذكر الأمهات الجدُّد، اللاتي تغيرت حياتهن جذرياً بقدوم الطفل؛ فالسهر والتعب والبكاء والرضاعة وتبديل الحفاضات وغيرها من المهام المستنزفة، فإذا ما لجأت المسكينة إلى أقرانها من الأمهات، انهالت عليها عبارات من مثل: "اشكري الله أنَّ لديك طفلاً، الناس يحلمون بهذا التعب"، "طفل واحد وتشتكين، ماذا لو كنت مثلي تعتنين بثلاثة أطفال"، "تشتكين وعمر طفلك شهران؟ هذا لا شيء، ماذا تركت لوقت الحبو والمشي والحضانة والمراهقة".
    هل لنا أن نتخيل مشاعر هذه الأم المسكينة التي دخلت لتشكو، وخرجت بصفتها مخلوقة جاحدة على موعد مع التعب والعذاب طيلة فترة حياتها؟ هل ستكرر هذه الأم شكواها لمجموعة النساء هذه أم أنَّها ستنسحب من هذه التجمعات؟
  4. ربما أهم أضرار الإيجابية السامة هو أنَّها وهم، فحتى الذين يقنعون أنفسهم بأنَّ كل شيء على ما يرام، وأنَّهم إيجابيون ومتفائلون دائماً واعتادت أدمغتهم هذه البرمجة سيصلون إلى لحظة الانفجار التي ستستبدل كل الإيجابية السامة بغضب شديد.
  5. الحزن والوحدة هما من أضرار الإيجابية السامة على الشخص من هذا النوع، فهو لن يستطيع مواجهة الآخرين إذا ما أفلت زمام مشاعره الحقيقية وخلع قناع إيجابيته المفرطة، لن يتقبل الآخرون ذلك، ولن يجرؤ هو على الخروج إليهم بشعوره الحقيقي، فيصاب بالحزن ويقاسي الوحدة في معاناته.
  6. يُعدُّ الاعتياد على المشاعر السلبية أيضاً من أضرار الإيجابية السامة؛ فالأشخاص الذين اعتادوا تجاهل المشاعر السلبية وكبتها، لن يعوا وجودهم في مزاج سيئ، وسوف يصعب عليهم تحديد أسباب مكدَّرات المزاج، كونهم اعتادوا على التنكر لحزنهم وغضبهم وخذلانهم؛ لذا لن يدركوا كيفية الخروج من هذه الحالات.
  7. الحرمان من الحصول على الدعم الحقيقي من أضرار الإيجابية السامة، فهؤلاء الأشخاص يدَّعون الإيجابية دائماً، فلا يحصلون على مواساة الآخرين في لحظاتهم الصعبة.
  8. تُعدُّ مفاقمة الشعور بالألم أيضاً من أضرار الإيجابية السامة؛ لأنَّ إخفاء المشاعر السلبية يتسبب بإحداث ضغوطات نفسية كبيرة تزيد الألم الجسدي، الأمر الذي أكدته الطبيبة النفسية "ليندا شو" في حوار مع صحيفة "إندبندنت"؛ إذ قالت: "إنَّ الآلام الجسدية المزمنة تتفاقم بمرور الزمن عليها بغير علاج، الأمر سيان على الأمور العاطفية والعقلية".
  9. تعوق الإيجابية السامة مدعيها من اكتساب الخبرات الحياتية من المواقف الصعبة التي يمر بها، وتحُدُّ من نضجه ونموه النفسي والوجداني، كونه يتجاهل المشاعر التي تتولد من خلالها ويحاول تغطيتها بغشاء إيجابي مزيف.

كيف تستطيع تجنُّب الإيجابية السامة؟

فيما يأتي مجموعة من النصائح والخطوات التي تساعدك على تجنب الإيجابية السامة، نبدؤها بما يأتي:

1. الابتعاد عن الاجتماعات التي تحتوي على أشخاص من هذا النوع:

إنَّ أول خطوات تجنب الإيجابية السامة هي الابتعاد عن الأوساط التي يوجد فيها أشخاص من هذا النوع، فإذا كان زملاؤك في الجامعة أو في العمل ممن يسلبون منك حقك في التململ أو الغضب أو الحزن أو التشاؤم أو أي شعور سلبي آخر، فمن الأفضل لك أن تخفف الوجود في هذه التجمعات، خاصة في أثناء فتراتك العصيبة، وتجنب البوح بمشاعرك السلبية أمامهم؛ لأنَّ إنكارهم لحقك في المرور بتقلبات المزاج بين الانخفاض والارتفاع وإصرارهم على وجوب ثباتك في المكان المرتفع، يزيد من مشاعرك السلبية ويعقد أمامك طريق تجاوزها.

شاهد بالفيديو: 10 خطوات بسيطة لنشر التفاؤل والطاقة الإيجابية

2. بناء حصانة نفسية متينة:

إنَّ ثاني خطوات تجنب الإيجابية السامة هي بناء الحصانة النفسية تجاه هذا النوع من الشخصيات التي تحرِّم على نفسها وعلى الآخرين المرور بمشاعر سلبية، وإنَّ هذه النصيحة هي الأثمن، وخاصة إذا ما كان مدعو الإيجابية الدائمة في دائرتك المقربة التي لا تستطيع الابتعاد عنها، مثل الزوج أو الأب أو أم الزوج أو المدير.

إنَّ الحصانة النفسية تعني التأهب النفسي لجرعة من المواعظ أو التأنيب في حال بدرَ منك أي تصرف أو كلمة توحي بانخفاض مزاجك، ووعد للذات بعدم التأثر أو أخذ كلماته في الحسبان في حال أزعجتك.

شاهد بالفيديو: 8 طرق تمكنك من عيش حياة سعيدة وهانئة

3. رفع درجات الوعي والتقبل:

ثالث خطوات تجنُّب الإيجابية السامة هي تقبلنا لأنفسنا ولطبيعة حياتنا المتفاوتة بين الصعود والهبوط، ومزاجاتنا المتراوحة بين الإيجاب والسلب، فلا يوجد شخص على وجه الأرض بمزاج سعيد طيلة الوقت، ولا توجد حياة خالية من التحديات والمصاعب، وإنَّ المشاعر الإنسانية هي استجابة للمواقف، ومن حق أي إنسان أن يحزن ويغضب ويبكي ويتشاءم وييأس، ومن حقنا بصفتنا بشراً أسوياء أن ننهار ونشكو ونمر بمشاعر سلبية من الضروري تفريغها وإعطاؤها المساحة الكافية للظهور والتحرر.

4. التفريغ الصحي للمشاعر السلبية:

من أجل تجنب الإيجابية السامة التي تطالبنا بالابتسام والتفاؤل دائماً، ومن أجل الحصول على تفاؤل وإيجابية حقيقيين لا بدَّ أن نعترف بمشاعرنا السلبية ونفرِّغها؛ وذلك عن طريق تعلمنا مهارات الذكاء العاطفي؛ فالذكاء العاطفي يعلمنا كيف نسمي المشاعر بمسمياتها الصحيحة "حزن أو غضب أو انزعاج وغيرها"، ويسمح لنا بالتعرف إلى الأسباب التي أججت في أنفسنا هذه المشاعر؛ ومن ثَمَّ الوصول إلى الاستجابات المناسبة لحل المشكلة وتفريغ الشعور السيئ.

توجد طرائق عديدة لتفريغ المشاعر السيئة، منها التدوين ومنها البكاء والتحدث إلى شخص مقرب وممارسة الرياضة واليوغا وتمرينات التأمل، فاختر الطريقة الأنسب لك.

إقرأ أيضاً: كيف تحوّل شغفك إلى طاقة إيجابية؟

راقب كلماتك وتعلَّم مهارات التعاطف:

قد تكون كلماتك الإيجابية السامة نابعة من حبك للشخص الذي يشكو لك، ورغبة منك برؤيته في أحسن حال؛ لكنَّك بالتأكيد لن ترضى بأن تكون كلماتك جرحاً فوق جراحه؛ لذا من الضروري أن تنتبه إلى ما تقوله كون الأشخاص الشاكين في وضع حسَّاس، وأن تتعلم مهارات الاحتواء والتقبل والتعاطف، لتخفف عن الشخص وتشعره بأنَّ ما يمر به طبيعي ومقبول ومشروع.

في الختام:

إنَّ الإيجابية السامة هي كذبة كبيرة نحاول أن نصدقها أو نطلب من الآخرين ذلك، دون أن نعي حجم الأضرار التي تلحق بنا وبالآخر جراء ذلك، فلنكن حقيقيين وصادقين مع أنفسنا ومع الآخر، ولنسمح لمشاعرنا السلبية أن تظهر وتطفو؛ لأنَّ هذه أولى خطوات التحرر منها.




مقالات مرتبطة