ما هي أهمية وجبة الغداء؟

يقول المثل القديم: "تناول فطور الملوك وغداء الأمراء وعشاء الفقراء"، ولكنَّ أسلوبنا الحالي في تناول الوجبات هو على العكس من ذلك، وهناك بعض النظريات التي تفسر لماذا نتبع نمطاً غذائياً يكون فيه العشاء أثقل وجبة.



يُشير مقال نُشِرَ عام 2015 في صحيفة "واشنطن بوست" (Washington Post) إلى دراسة عن إيقاع الساعة البيولوجية التي يُحتمَل أنَّها تسبب الشعور المفاجئ بالجوع والرغبة الشديدة في تناول الأطعمة الحلوة والمالحة والنشويات في وقت متأخر من الليل.

وتقترح هذه الدراسة أنَّه من المحتمل أن يكون السبب في هذه العادات هو التطور الذي شهده العالم المعاصر؛ حيث أصبح من المفيد أن يأكل البشر في وقت متأخر من الليل لتخزين الطاقة على شكل دهون وكليكوجين لليوم التالي، بالإضافة إلى العامل الهرموني؛ حيث تنخفض هرمونات الكورتيزول والأدرينالين في منتصف النهار.

لذلك إذا كنا نعمل في وقت متأخر من المساء أو في الليل، فإنَّنا نميل إلى تناول الطعام، وأيضاً توجد جداول العمل، والتي يبدو أنَّها العامل الرئيس في اتِّباع عادات أكل غير صحية، والتي تؤثر سلباً في كل شيء بدءاً بالنوم إلى زيادة الوزن.

يرى الطبيب "باتريك أوكولو" (Patrick Okolo) وهو رئيس قسم أمراض الجهاز الهضمي في منظمة "روتشستر الإقليمية للصحة" (Rochester Regional Health) أنَّ هذه العادات خاطئة، وأضاف أنَّه من الهام استعراض الآثار المترتبة على تناول الوجبة الأساسية في اليوم من حيث تأثيرها في الجهاز الهضمي، بالإضافة إلى تأثيرها في الصحة عموماً؛ إذ إنَّنا لا نستقلب الطعام في الليل بسبب الإيقاع البيولوجي للجسم.

تقول اختصاصية العلاج السلوكي الغذائي "كاتي شميدت" (Katie Schmidt): "معظمنا يتناول الطعام على عجل ودون أن نولي اهتماماً إلى ما يحتاج إليه الذهن والجهاز الهضمي والجهاز العصبي، ونحن نتعامل مع الغذاء على أنَّه شيء يعطلنا عن عملنا بدلاً من الاستمتاع به".

إنَّ تناول وجبتنا الكبيرة في الليل يؤدي إلى اضطرابات النوم وارتجاع الحمض من المعدة ومشكلات أخرى طويلة الأمد يصاب بها الجهاز الهضمي؛ وهذا يعني أنَّ الطعام سيُخَزَّن في أجسامنا في الوقت الذي لا نستخدم فيه هذا الوارد الغذائي، ومن ثم فإنَّه سيتراكم في أجسامنا على شكل دهون.

كما أشار "أكولو" إلى انتشار مرض ارتجاع الحمض الناتج عن تناول الطعام في وقت متأخر من الليل، وأوضح أنَّ المعدة الممتلئة تسبب كمية كبيرة من الأحماض؛ مما يؤدي إلى اضطرابات النوم وغيرها من الآثار الصحية.

طبيعة المجتمعات المعاصرة وعلاقتها بالعادات الغذائية غير الصحية:

لم يكن الأمريكيون يتبعون هذا النمط في تناول الطعام سابقاً؛ حيث كانت الوجبة الكبيرة لديهم هي وجبة الغداء، وجاء التحول نحو الوجبة المسائية بسبب نمط ومكان العمل؛ وذلك وفقاً لـ "سارة لومان" (Sarah Lohman) مؤلفة كتاب "ثماني نكهات: القصة غير المروية للمطبخ الأمريكي" (Eight Flavors: The Untold Story of American Cuisine).

أوضحت "لومان" أنَّ المجتمع كان زراعياً بنسبة أكبر قبل الثورة الصناعية؛ حيث كانت العائلات تعمل في مزارعها الخاصة وكانت الوجبة الكبيرة عندهم يتم تناولها في منتصف النهار؛ إذ إنَّنا نسمي هذه الوجبة حالياً بالغداء فقد كانت تُسمى لديهم بالعشاء.

وقد كانت توفِّر هذه الوجبة الطاقة اللازمة للعمل، كما أنَّه كان من الممكن التوقف عن العمل لبضع ساعات من أجل إعداد الوجبة والأكل، أضِف إلى ذلك أنَّ الناس كانوا يتحكمون بجداول العمل، وكانوا قريبين من منازلهم ولا حاجة إلى أن يسافروا، أما وجبة المساء فقد كانت عبارة عن الطعام الذي لم يتم تناوله في الوجبات السابقة وغالباً ما تكون باردة.

وهذا الوضع لم يتغير فجأةً بمجرد أن أصبحت الأعمال تميل إلى الجانب الصناعي، فقد كان الناس لا يزالون يعيشون بالقرب من وظائفهم والأطفال بالقرب من مدارسهم؛ لذلك كان من السهل العودة إلى المنزل لتتناول العائلة وجبتها الكبيرة ثم العودة إلى العمل.

لكن مع التقدم الذي حصل في القرن العشرين، بدأ الناس التنقل لمسافات أكبر، وغالباً من الضواحي إلى المدن طبعاً بهدف الوصول إلى عملهم، وهكذا أصبح من المستحيل العودة إلى المنزل في منتصف النهار لتناول الطعام.

وتقول "لومان": "عندها بدأ الناس بأخذ السندويش معهم كوجبة في العمل أو شراء الأطعمة الخفيفة، وهكذا قاد التغيير في المسافات التي نقطعها إلى تغيير الوجبة الكبيرة من منتصف اليوم إلى المساء عندما يكون الجميع في المنزل"، ونشأ هذا التحول من الوجبة الكبيرة في منتصف النهار إلى المساء بحكم الضرورة، ولكنَّه ترافق مع مخاوف بشأن آثاره الصحية.

وتستشهد "لومان" بكتاب "الطبخ في مدرسة بوسطن للطهي" (The Boston Cooking-School Cookbook) للكاتب "فاني فارمر" (Fannie Farmer)، والذي أُلِّفَ في عام 1896 وعلى الرغم من أنَّ الكتاب لا يذكر المخاوف بشأن توقيت الوجبة، إلَّا أنَّ له دلالة على أنَّ كتب الطبخ في مطلع القرن العشرين بدأت بإيلاء اهتمام بموضوعات الصحة والتغذية، وفي أماكن أخرى بدأ يظهر القلق بشأن تناول الطعام في وقت متأخر من الليل.

مثلاً، أُطلِقَت السلسلة الهزلية لصحيفة "وينسور مكراي" (Winsor McCray) بعنوان "حلم راريبيت فيند" (Dream of the Rarebit Fiend) وذلك في عام 1904 وتُصوِّر هذه السلسلة الشخصية التي كانت تعاني من كوابيس بسبب تناول الطعام في وقت متأخر من الليل، وأصبحت العلاقة بين الكوابيس والأكل في وقت متأخر شيئاً معروفاً بالنسبة إلينا اليوم.

في أجزاء أخرى من العالم يتبع الناس أنماطاً غذائية صحية أكثر، ويقول "أكولو": "الأنماط المُتَّبَعة في أجزاء من "إفريقيا" (Africa) و"جنوب شرق آسيا" (Southeast Asia) أكثر تلاؤماً مع أجسامنا؛ حيث يعمل الناس في المزارع ويأكلون وجبات كبيرة في وقت مبكر ويحرقون ما أكلوه ثم يأكلون بكميات قليلة في الليل، وفي كثير من الثقافات تكون الوجبة الكبيرة في فترة ما بعد الظهر الأمر الذي ينعكس إيجاباً على الصحة عموماً".

ويضيف "أكولو": "لا يزال الجدل قائماً حول ما إذا كانت الوجبة الكبيرة في اليوم يجب أن تكون وجبة الفطور أم الغداء، ولكن ما من شك أنَّها لا يجب أن تكون في وقت متأخر من الليل، ويجب علينا بعد مضي فترة ما بعد الظهر أن نمتنع عن تناول الطعام بكميات كبيرة، وأن نمنح أنفسنا الوقت لصرف العائد الغذائي الذي تناولناه خلال اليوم".

المشكلة هي أنَّه لا يوجد ما يشير إلى أنَّ ثقافة العمل أو الجداول الزمنية الأمريكية تتجه نحو التغير، وأصبح المجتمع الأمريكي بعيداً جداً عن طبيعة المجتمعات الزراعية ويعمل فيه الناس لساعات طويلة دون فترات راحة منتظمة وغالباً في وظائف ثابتة.

كما تشير "لومان" إلى أنَّه على الرغم من التحول إلى نمط العمل من المنزل بسبب جائحة كورونا، إلَّا أنَّ هذا التحول لم يُترجَم إلى الحصول على المزيد من الوقت للاستمتاع بالغداء ولا تزال جداول العمل غير قادرة على إتاحة بعض الوقت لنتوقف عن العمل ونقوم بالطهي وتناول الطعام كعائلة ومتابعة يوم العمل.

إقرأ أيضاً: 6 عادات غذائية خاطئة يجب أن تبتعد عنها

كيف نتَّبِع نمطاً غذائياً صحياً؟

السؤال الذي يجب الإجابة عنه هو ما الذي يمكننا فعله لنجعل نظامنا الغذائي صحياً أكثر في الوقت الذي يَصعُب فيه تحقيق ذلك بسبب طبيعة المجتمع المعاصر؟

أولاً، لا يجب أن نتذرع بالوقت، فلدينا جميعاً جداول زمنية مختلفة، وهي تزداد تعقيداً في أثناء الجائحة، وبعض الأشخاص يتناول وجبة الفطور في الساعة 11 صباحاً، بينما يتناول بعضهم الآخر وجبة الغداء في ذلك الوقت، فالهام هو أن تحرص على أن تأتي وجبتك الكبيرة في الفترة التي تكون فيها أكثر نشاطاً خلال اليوم، وفي حين أنَّ معظمنا لا يملك الوقت للتوقف عن العمل والقيام بالطهي، لكن يمكن إجراء بعض التغييرات البسيطة التي تؤثر في صحتنا ومنها الابتعاد قليلاً عن جو العمل والتركيز في وجبتنا.

لذلك قالت "كاتي شميدت": "في أمريكا، نتناول طعامنا بسرعة ولا نعطي أنفسنا الاهتمام اللازم الذي تحتاج إليه أذهاننا وجهازنا الهضمي والعصبي ونحن نتعامل مع الغذاء على أنَّه عقبة يجب تجاوزها مباشرةً لمتابعة العمل، بدلاً من النظر إليه كشيء جيد نستخدمه لتزويدنا بالطاقة واستعادة التركيز خلال يوم طويل".

وهذا يعني أخذ بعض الوقت لتتأكد من أنَّ وجبة الغداء مليئة بالعناصر الغذائية التي توفر لنا الطاقة لبقية اليوم، وأنَّنا سنحرق هذه الطاقة ولن نُخزِّنها، وطبعاً هذا لا يتطلب طهياً مُتقَناً، وبهذه الطريقة لا يزال في إمكاننا انتظار وجبة العشاء حيث تجتمع العائلة، ولكن ينبغي أن نأكل بكميات قليلة.

تتمثل الخطوة الأولى في إيجاد التوازن الذي يتلاءم معك ومع يومك، فالناس يختلفون من حيث ما يبذلونه من طاقة؛ ولذلك يجب أن تكون وجبة الغداء غنية وأكبر وجبة في اليوم، ولكن من حيث ما تحتويه من عناصر غذائية وسعرات حرارية وليس من حيث الكمية الكبيرة التي يمكن أن تجعلك متعباً.

تقول "شميدت": "غالباً ما يعزف الناس عن تناول وجبة كبيرة على الغداء؛ وذلك لأنَّهم يخشون الشعور بالخمول في فترة ما بعد الظهر، ولكنَّ تناول وجبة كبيرة لا يعني بالضرورة الشعور بالثقل والتخمة".

وهذا ما نصحت به خبيرة التغذية "بيجي كوتستوبولوس" (Peggy Kotsopoulos): "ركِّز في توفير جميع العناصر الغذائية لا في إضافة سعرات حرارية دون فائدة"، وأكَّدت "كوتسوبولوس" على أنَّ الغداء يجب أن يكون وجبة أكبر من العشاء، ولكن من حيث ما يشتمل عليه من عناصر غذائية.

وأضافت "كوتسوبولوس" أنَّه يُفضَّل تناول الكربوهيدرات على الغداء؛ حيث يكون لدى أجسامنا متسع من الوقت لتنظيم مستويات الجلوكوز في الدم، واستخدام هذه المواد السكرية لتمنحك الطاقة في وقت مبكر من اليوم، وستستفيد من هذه الوجبة الكبيرة بالشعور بميل أقل إلى تناول كميات كبيرة على العشاء.

وتنصح "شميدت" بتناول الدهون الصحية والبروتينات على الغداء بالإضافة إلى الكربوهيدرات المعقدة، كما تنصح بتناول 10 حصص من الأطعمة النباتية في اليوم؛ وذلك من خلال تناول الخضروات والفواكه والأعشاب والتوابل والبقوليات والمكسرات والحبوب الكاملة ويمكنك بسهولة تناول هذه الأطعمة ضمن وجبة الغداء.

أما إذا كنتَ تشعر بأنَّك استنفدتَ كل الوصفات التي تعرفها لوجبة الغداء، فيمكنك إلى جانب السَلَطات الغنية بالبروتين إعداد الأطباق التي تستهلك وقتاً قصيراً للتحضير ويمكن تسخينها لأيام عدَّة مثل الحساء واليخنات والكاري؛ حيث يمكنك دمج هذه المكونات في طبق واحد.

إقرأ أيضاً: نصائح لتحقيق نظام غذائي صحي ومتكامل

وتقول "شميدت": "إنَّها طريقة سهلة تجمع كل ما تحتاج إليه من عناصر غذائية في طبق واحد، وسيكون لديك ما يشبه مكونات دوائية عدَّة في كبسولة، فتستطيع مثلاً أن تجمع الخضروات والتوابل والأعشاب والبقوليات وتُحضِّر طبقاً جديداً في كل مرة، ويبقى الحساء في الثلاجة قابلاً للأكل عند تسخينه، ويمكنك حتى تعبئته في حافظة الطعام وأخذه معك إذا كنت خارجاً من المنزل".

يمكن أن يكون إعدادك لوجبتك هو المفتاح للحصول على وجبة غذائية سريعة وبسيطة وصحية تُعزِّز الطاقة وتكون لذيذة وتعيد لذهنك الحيوية.

أما بالنسبة إلى وقت العشاء، فيمكنك استغلاله بطقوس أخرى غير الأكل مثل الاستماع للموسيقا مع تناول كميات قليلة من الطعام المتبقي أو بعض السَّلَطات أو مجرد وجبة خفيفة.

المصدر




مقالات مرتبطة