ما هو أثر اللعب في الحد من القلق لدى الأطفال؟

القلق هو أحد الاضطرابات النفسية الأكثر شيوعاً في مرحلة الطفولة، ويعاني منه نحو 7% من الأطفال في مرحلة الطفولة وخلال أوقات مختلفة، بينما يعاني 1 من كل 3 مراهقين من القلق في وقت ما خلال سنوات المراهقة.



تبدو النشاطات الطبيعية صعبة بالنسبة إلى الطفل الذي يعاني من القلق، ويواجه الأطفال القلقون صعوبة في التكيُّف مع المدرسة وتكوين صداقات وصعوبات في التعلُّم، وقد تُشعرهم هذه المشكلات بالإحباط وقد يتجنَّبون التحديات ويختارون التهرُّب أو الانعزال عن الناس.

وعندما يشعر الآباء باليأس بسبب وضع أطفالهم، فإنَّ النهج الذي يتبعونه في معالجة هذه الحالة قد يأتي بنتائج عكسية؛ فمثلاً إنَّ محاولة جعل الطفل يتجاهل مشاعره أو محاولة تجنيبه المواقف التي تسبب القلق قد يؤدي إلى تفاقم القلق عن غير قصد.

ولمساعدة الأطفال القلقين فقد طوَّر الأطباء أساليب علاجية، مثل العلاج المعرفي السلوكي الذي يساعد على التخفيف من الأعراض.

لكنَّ هذه العلاجات قد تكون مُرهِقة ومُكلِفة وأحياناً قد لا تنجح؛ إذ إنَّ القلق لدى الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة قد يكون دليلاً على مشكلات مستقبلية مثل اضطراب القلق الاجتماعي والرهاب الاجتماعي أو اضطراب الوسواس القهري، ومع ذلك فإنَّه من غير المعروف كيف يمكن أن نُوقِف مسارات القلق عندما يعاني منه الطفل في سن مُبكِّر جداً؛ وذلك لأنَّ الأطفال في هذا السن قد لا تكون لديهم القدرة المعرفية للاستفادة من العلاج.

ماذا لو أمكنَ وقاية الأطفال في سن مُبكر جداً من القلق؛ وبذلك نُجنِّبهم مشاعر القلق والإحباط في المستقبل؟ يشير منهج بحث جديد أَجرَته "كيت فيتزجيرالد" (Kate Fitzgerald) أستاذة الطب النفسي والتوليد في جامعة "ميشيغان" (University of Michigan) إلى أنَّ هذا قد يكون ممكناً.

كانت "فيتزجيرالد" تَدرُس الأطفال الصغار جداً، والذين يعانون من أعراض القلق وتكتشف اكتشافات هامة عن علامات الدماغ التي تشير إلى قلق الطفولة.

وبناءً على هذا العمل أنشأت هي وفريقها برنامجاً تدريبياً للأطفال، ويهدف إلى زيادة قدراتهم المعرفية؛ مما يساعد على تقليل قلقهم في مرحلة الطفولة وربما في المستقبل أيضاً.

تقول "فيتزجيرالد" حول عملها هذا: "نأمل أن نُثبت من خلال عملنا هذا أنَّ قلق الأطفال ليس أمراً حتمياً، ويمكن منع حدوثه من خلال التدخل الصحيح، وحتى الآن تبدو النتائج واعدة".

شاهد بالفديو: فوائد التعلم باللعب للأطفال

كيف يفسر علم الأعصاب ظاهرة القلق؟

عندما نواجه مواقف صعبة أو مخيفة في الحياة، فإنَّ أدمغتنا تعمل تلقائياً على مواجهة هذه المواقف؛ حيث تُرسِل اللوزة مواد كيميائية عصبية مثل الأدرينالين لجعل دقات القلب تتسارع وتهيئة أجسادنا لاستجابة الكر أو الفر أو عدم اتِّخاذ أي إجراء.

وفي الوقت نفسه يُرسِل الفص الأمامي من الدماغ إشارات ليجعلنا ندرك الموقف ونُقيِّمه؛ وذلك من خلال الاستفادة من التجارب السابقة ثم إعطاء حل للمشكلة، وفي النهاية تظهر استجابتنا المناسبة بناءً على هذه العملية.

يعمل هذان النظامان المتعاكسان جنباً إلى جنب عند الأشخاص الأسوياء فالأول يدفع الشخص نحو أقصى درجات التصرف والثاني يكبح الانفعال وتحدث الموازنة بناءً على الضرورة التي يقتضيها الموقف.

في سياق هذه العملية يمكن أن يكون لبعضِ القلق جانب إيجابي مثلاً عندما يُحفزنا على الدراسة تحضيراً للاختبار، ولكن عند الأشخاص القلقين تذهب الأمور إلى أقصى حد؛ مما يجعلهم يرغبون في تجنُّب التحديات أو الانسحاب من الموقف.

كما أنَّ القلق المَرَضي في هذه الحالات هو أمر مُرهِق؛ حيث يتعيَّن على الشخص بذل مجهود كبير ليسيطر على نفسه ويتمكن من المضي قدماً.

لذلك يكون المفتاح للتغلب على القلق هو مواجهة المواقف الصعبة عندما تعمل الجملة العصبية على التخفيف من استجابتنا تجاه الخوف، وينطبق هذا على الكبار والأطفال الأكبر سناً.

ولكن ليس الأمر على هذا النحو بالنسبة إلى الأطفال الصغار جداً، فقد اكتشفت "فيتزجيرالد" وفريقها أنَّ دماغ الطفل الصغير يستجيب بطريقة مختلفة قليلاً.

فعلى سبيل المثال: إنَّ الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 4 و7 سنوات لديهم استجابة مُفاجئة أعلى من المعتاد حتى في المواقف التي لا تشكل خطراً، وعلى العكس يكون لديهم استجابة طبيعية أكثر من اللازم في المواقف المخيفة التي يتفاعل معها أي طفل.

وهذا يعني أنَّه لديهم أعباء أكبر يجب أن يتغلبوا عليها عند مواجهة التحديات اليومية، مثل الذهاب إلى المدرسة أو مقابلة أشخاص جدد.

واكتشفت "فيتزجيرالد" مع فريقها وجود اختلاف في الدماغ لدى الأطفال القلقين الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و7 سنوات بالمقارنة مع الأطفال المصابين بالقلق والأكبر سناً وحتى مع البالغين المصابين بالقلق.

ويكمُن هذا الاختلاف في الجزء من الدماغ الذي يستجيب عند ارتكاب خطأ؛ حيث تبيَّن أنَّ هذا الجزء يكون أضعف عند الأطفال القلقين الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و7 سنوات إذا ما تمَّت مقارنتهم بالأطفال الأكبر سناً والبالغين المصابين بالقلق.

وربما يرجع السبب في هذا الاختلاف إلى أنَّ الأطفال الصغار ليست لديهم قدرات معرفية متطورة تساعدهم على استيعاب حدوث خطأ، ولكنَّ هذه الحالة ليست مخيفة ويمكن تقويمها في كثير من الأحيان.

حيث تُركِّز "فيتزجيرالد" في أهمية اكتساب الأطفال القدرة على القيام بالوظائف التنفيذية "ما يُعرَف في علم الأعصاب بالتحكُّم المعرفي"؛ وذلك لأنَّه دونها ستبقى الاستجابة المفاجئة مُسيطِرة لدى الأطفال الصغار الأمر الذي يزيد من قلقهم.

تشير الوظائف التنفيذية إلى القدرة العقلية على تجاوز الدوافع والعادات؛ حتى يتمكن الشخص من القيام بالأشياء بناءً على الأهداف والنوايا، على سبيل المثال: يتطلب الأمر تحكُّماً معرفياً لتجاوز عادة تناول الوجبات السريعة؛ وذلك حتى تتمكن من الاستمرار في الأفعال التي تتماهى مع قرارك في الحصول على صحة أفضل.

ومن المُرجَّح أن يُصاب الطفل الصغير الذي يمتلك تحكماً معرفياً مُنخفضاً بالقلق في وقت لاحق من مرحلة الطفولة، في حين أنَّ الطفل الذي يتمتع بقدر أكبر من التحكم المعرفي؛ يكون أكثر مقاومة للتوتر.

ولهذا السبب قد يؤدي رفع مستوى التحكم المعرفي إلى التخلُّص من القلق لدى الأطفال الصغار ويُحتَمل أن يمنعه من التفاقم مع مرور الوقت.

تقول "فيتزجيرالد": "إذا تمكَّنَّا من مساعدة الأطفال على اكتساب بعض التحكم المعرفي عندما يكونون قلقين، فقد نستطيع تحسين قدرتهم على التعامل مع المواقف العصيبة، ونحن نحتاج فقط إلى رفع قدرتهم على اكتساب التحكم المعرفي".

إقرأ أيضاً: تعبير الأطفال عن مشاعرهم: خطوة مُنجية من الوقوع في شرك الكبت

الحد من القلق الضار عند الأطفال:

لاختبار هذه الفكرة أَجرَت "فيتزجيرالد" وزملاؤها دراسة تجريبية - لم تُنشَر بعد - على أطفال قلقين تتراوح أعمارهم بين 4 و7 سنوات.

أُحضِرَ الأطفال إلى معسكر بيئة لعب صمَّمَها الباحثون؛ حيث حضر الأطفال أربع جلسات مدة كل جلسة نصف يوم؛ وذلك على مدار أسبوعين، وكان الأطفال يلعبون ألعاباً ممتعة تُعزِّز التحكم المعرفي.

لاحقاً رفع المستشارون درجة صعوبة الألعاب؛ وذلك بهدف مساعدة الأطفال على إتقان المهارات اللازمة للأداء الجيد مثل المرونة واستعمال الذاكرة الإجرائية وتثبيط الاستجابات غير المرغوب فيها، مثل التحرُّك عندما يُفترَض أن يقفوا دون حراك، ولقد استمتع الأطفال بصحبة بعضهم وتبادلوا طرائق لتحسين أدائهم وشارك الآباء في نهاية كل جلسة وتعلَّموا الألعاب من أطفالهم؛ وذلك حتى يتمكنوا من اللعب معهم في المنزل.

ولمعرفة تأثير هذا التدريب في أدمغة الأطفال وسلوكهم؛ قاست "فيتزجيرالد" وفريقها استجابة الأطفال المفاجئة واستيعابهم لحدوث الأخطاء قبل حضورهم للدورة التدريبية، وأجروا قياساً آخر بعد مدة تتراوح من 4 إلى 6 أسابيع من انتهاء الدورة.

للحصول على معلومات دقيقة من القياسات طُلِبَ من بعض الأطفال أن يلعبوا ألعاب الفيديو، وهذه الألعاب تتطلب التحكم المعرفي؛ حيث كان الأطفال يرتدون شاشات خاصة يمكنها التقاط ردود أفعالهم المفاجِئة واستيعابهم لحدوث خطأ، بالإضافة إلى أنَّ الباحثين جمعوا معلومات من الأطفال وآبائهم حول أعراض القلق قبل المعسكر وبعده.

وبعد تحليل البيانات وجدَ الباحثون أنَّ الاستجابات المرتبطة باستيعاب حدوث خطأ، قد ازدادت لدى الأطفال؛ الأمر الذي يدل على ازدياد التحكم المعرفي، وأيضاً وجدوا أنَّ استجاباتهم المفاجئة قد انخفضت؛ مما يدل على انخفاض مستوى القلق في هذا العمر.

وقالت "فيتزجيرالد" عن المعلومات التي تقدمها هذه البيانات: "إنَّ إشارات الدماغ المتعلقة باكتشاف خطأ ما قد ازدادت بالفعل، ولكن بطريقة جيدة وكان الأطفال يقومون بالأشياء الصعبة بكفاءة أكبر، كما أنَّ استجاباتهم المفاجئة توقَّفَت بما في ذلك استجابة الخوف".

تعكس هذه النتائج التقييمات الخاصة بالأعراض التي أبلغَ عنها الأطفال وآباؤهم؛ حيث أَبلغوا عن انخفاض أعراض القلق بما في ذلك الخوف وتجنُّب المواقف الصعبة وكل ذلك جاء بعد التدريب، وقد وجدت "فيتزجيرالد" هذه النتائج رائعة، وقالت: "العلاقة بين الدماغ والسلوك أمر مثير للاهتمام، ولكنَّ الأمر الذي قدَّم لنا أكبر فائدة هو انخفاض معدل قلق الأطفال بعد خضوعهم لهذا التدريب".

على سبيل المثال: أفادت إحدى الأمهات أنَّ ابنتها التي كانت تعاني من أعراض اضطراب الوسواس القهري قبل حضورها لهذا المعسكر، قد حققت تحسُّناً ملحوظاً حتى خلال الفترة التي كانت تحضر فيها الدورة.

وكتب أحد الوالدين في إحدى التقييمات: "لم تكن طفلتنا ترغب في مغادرة المعسكر في أثناء وجودها فيه، حتى إنَّ مزاجها كان أفضل وكانت مُنفتحة أكثر وتشعر بمزيد من الفرح".

وتتذكر "فيتزجيرالد" طفلاً آخر يبلغ من العمر 5 سنوات شارك في المعسكر، وكان يعاني من خوف كبير من ارتكاب الأخطاء في الروضة؛ مما أدى إلى نوبات من البكاء وغيرها من السلوكات الضارة وكان المعلمون يضطرون إلى إجراء مكالمات يومية مع والديه، ولكن بعد حضوره للدورة، فقد تعلَّم هذا الطفل كيف يخفف من قلقه وتغيَّر تبعاً لذلك كل شيء.

قالت "فيتزجيرالد": "بعد أسبوع من اللعب في المعسكر، لم يَعُد الطفل يحتاج إلى الاتصال بوالديه وقد أُعجِبَت والدته بهذا التحسن؛ وذلك لأنَّ الاستشارة السابقة مع معالج نفسي متمرس لم تُعطِ أيَّة نتائج، ولكن بعد حضوره إلى المعسكر بدأ هذا الطفل بالتكيُّف مع الروضة والاستمتاع بها".

مع هذه النتائج المُشجعة تقدمت "فيتزجيرالد" بطلب منحة مالية وحصلت على مبلغ 3 ملايين دولار لتوسيع برنامجها التدريبي وإجراء المزيد من البحوث.

وتأمل "فيتزجيرالد" أن تساعدها البحوث المستقبلية على تحديد العامل الرئيس في هذه الدورات، والذي أدى بشكل خاص إلى هذه النتائج المذهلة، وربما تتمكن من إيجاد طريقة لتخصيص معالجة الأطفال الذين لديهم وضع خاص؛ حيث قد يحتاج بعضهم إلى تدريب أكثف أو نشاطات مختلفة قليلاً حتى يصلوا إلى النتائج المرجوة.

إذا كانت النتائج الأولية التي توصَّلَت إليها "فيتزجيرالد" صحيحة، فقد تكون لعملها آثار واسعة؛ حيث يُوفِّر نموذجاً يمكن للآخرين اتباعه لعلاج اضطرابات قلق الأطفال والوقاية منها في المستقبل.

وتقول "فيتزجيرالد": "التدخلات العلاجية التي يمكن أن نقوم بها هي في متناول اليد، فبينما نعمل على فهم العلم الكامن وراء القلق في عقول الأطفال، يمكننا أيضاً استعمال هذا العلم لتطوير علاجات أكثر فاعلية".

المصدر




مقالات مرتبطة