لماذا يجب على الآباء التوقف عن لوم أنفسهم بشأن مستقبل أطفالهم؟

قبل بضع سنوات، جاءت إليَّ طالبة بعد مرور يومين على محاضرتي عن التربية وتنمية الطفل - أنا أستاذة علم النفس في الكلية - تردَّدت قليلاً، ثم اعترفَت: "أنا مهتمة حقاً بهذه المواد، لكنَّني كنت آمل أن يساعدني فصلك على أن أصبح أماً أفضل عندما يصبح لدي أطفال يوماً ما".



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن أستاذة علم النفس الدكتورة "يوكو موناكاتا" (Yuko Munakata)، والتي تُحدِّثنا فيه عن دور الأهل في تكوين شخصية أطفالهم.

قد خلُصتُ إلى استنتاجٍ مفاده أنَّ هذا الفصل لن يساعدها؛ وذلك لأنَّني أخبرتُ الطلاب أنَّني سأشرح كيف أنَّ الآباء ليس لديهم السيطرة على تكوين مستقبل أطفالهم، وصُعِقتُ بما سمعت وكأنَّني أُخِذتُ على حين غرة، أليس علم التربية وتنمية الطفل ذا صلة بكونك أباً صالحاً؟ آمل أن ينتهي فصلي بتغيير رأيها.

يتمنَّى الآباء الأفضل دائماً لأطفالهم، سواء كانوا صغاراً أم كباراً، أغنياء أم فقراء، متزوجين أم مطلقين، وهناك رفوفٌ من كتب التربية توضِّح للناس كيفية معالجة القرارات الصعبة التي يواجهها الآباء كلَّ يوم وكيفية تحقيق أفضل النتائج.

سواء كانت موضوعات هذه الكتب تتحدث عن أنواع وثقافات مختلفة من التربية كالتربية الصارمة أو الحرة، أم التربية على طريقة الهولنديين أو الألمان، لكنَّها تشترك في رسالة واحدة وثابتة: إذا لم ينجح طفلك، فلا بد أنَّك تفعل شيئاً خاطئاً.

وكما اتضح أنَّ العلم يدعم رسالة مختلفة تماماً ومؤثرة في النهاية: إنَّ محاولة التنبؤ بكيفية نشوء الطفل بناءً على الاختيارات التي يتخذها والداه يشبه محاولة التنبؤ بإعصار من رفرفة أجنحة الفراشة.

هل تعرف عن الفراشة التي يُضرب فيها المثل في الصين التي ترفرف بجناحيها، مسببةً اضطراب في الغلاف الجوي ما يكفي لتحويل تيارات الرياح التي ينتهي بها المطاف إلى تأجيج إعصار في منطقة البحر الكاريبي بعد ستة أسابيع؟

إذا كنت أحد الوالدين، فأنت الفراشة التي سوف ترفرف بجناحيها، وطفلك هو الإعصار؛ حيث ستشكل الشخص الذي يصبح عليه طفلك - تماماً مثل الفراشة التي تشكل الإعصار - بطرائق معقدة، تبدو غير متوقعة ولكنَّها مُجدية، فلم يكن ليوجد الإعصار دون الفراشة.

قد تتساءل: "ماذا عن كل الآباء الناجحين الذين لديهم أطفال ناجحون؟ أو الآباء أصحاب الحظ السيئ الذين لديهم أطفال حظهم سيئ أيضاً؟".

يبدو أنَّهم يُظهرون قوة وتأثير التربية، ولكن ينشأ الأطفال وتتكون شخصياتهم بتأثير العديد من القوى والمؤثرات التي يكبرون معها، وغالباً ما تكون متماثلة، مثل الجينات والأقران والثقافة، وهذا ما يجعل من الصعب معرفة القوى التي تؤثر فيما سيصبح عليه هؤلاء الأطفال.

أُجرِيَت دراسة على الملايين من الأطفال لإلغاء تأثير كل القوى الخارجية التي تؤثر في تشكيل شخصية الطفل، وتابعت الدراسات توائم متطابقة وغير متطابقة وأشقاء عاديين يكبرون معاً أو يُتَبنَّون وينشؤون منفصلين؛ حيث إنَّ التنشئة في المنزل نفسه لا تجعل الأطفال أكثر تشابهاً بشكل ملحوظ في مقدار نجاحهم، ومقدار سعادتهم أو اعتمادهم على أنفسهم، وما إلى ذلك.

وبعبارة أخرى، تخيَّل لو كنت قد أُخِذت عند الولادة ونشأتَ بكنف عائلةٍ مجاورة لمنزلكم من جهة اليسار، ونشأ أحد أخوتك بكنف عائلة مجاورة لكم من جهة اليمين، عموماً، لن يجعلكما ذلك متشابهين أو مختلفين في الصفات كما لو أنَّكما نشأتما تحت سقفٍ واحد.

فمن ناحية أخرى، تبدو هذه النتائج غير قابلة للتصديق؛ لذا فكر في جميع الطرائق التي يختلف بها الآباء من منزل إلى آخر؛ وكم مرةٍ يتشاجرون فيها، وما إذا كانوا يستخدمون أسلوب الأبوة المفرطة، أم يتعاملون ويهتمون بأطفالهم بقدرٍ من الحب. ربما كنت تعتقد أنَّه من الهام جعل الأطفال الذين ينشؤون في المنزل نفسه أكثر تشابهاً مما لو كانوا قد نشؤوا منفصلين، لكنَّ الأمر ليس كذلك.

وجد "تحليل تلوي" (meta-analysis)، الذي أُجرِي عام 2015، وهو دراسة تُحلل العديد من الدراسات، هذا النمط من خلال آلاف الدراسات التي تابعت أكثر من 14 مليون توءم في 39 دولة، وقد قاموا بضبط أكثر من 17000 نتيجة، وخلص الباحثون إلى أنَّ كل واحدة من هذه النتائج كانت قابلة للتوريث؛ حيث تؤثر الجينات في كيف وماذا سيصبح عليه الأطفال، ولكنَّ الجينات لا تفسر كل شيء.

تُعَدُّ البيئة هامة أيضاً، ولكنَّها ليست كافية لتكوين الأطفال الذين ينشؤون في المنزل نفسه ليكونوا أكثر تشابهاً؛ حيث درس بعض الأشخاص هذه النتائج وخلصوا إلى أنَّ دور الأهل ليس بتلك الأهمية، وأنَّك ستصبح الشخص نفسه الذي أنت عليه اليوم، بصرف النظر عمَّن قام بتربيتك.

من ناحيةٍ أخرى، فإنَّ هذه النتائج ليست كلها نتائج صادمة عندما تفكر في كيفية قيام الوالد نفسه بتربية أطفال مختلفين بطرائق مختلفة، على سبيل المثال: قد يجد أحد الأولاد أنَّه من المفيد أن توفر له أمه منزلاً مرتباً ومنظماً، بينما يجد الآخر أنَّ التنظيم خانق، وقد يعتقد أحد الأولاد أنَّ والديه يهتمان به عندما يطرحون أسئلة عن أصدقائه، ولكنَّ شقيقه يَعُدُّهم فضوليون، وقد ينظر أحد الأولاد إلى الطلاق على أنَّه مأساة، بينما يرى الآخر أنَّ الطلاق يمثل راحة وحرية.

ولكن لا يعني أنَّه لمجرد أنَّ الحدث لا يُشكل الناس بالطريقة نفسها أنَّه لم يكن له أي تأثير؛ حيث يمكن أن يكون دورك بصفتك أحد الأبوين هو تنشئة وتشكيل أطفالك، ليس فقط بالطرائق التي تجعلهم أكثر تشابهاً، ويمكن أن تقود تربيتك طفلك الأول إلى أن يصبح أكثر جدية وأن يصبح طفلك الثاني أكثر إهمالاً ولامبالاة.

أعلم أنَّ هذه ليست الطريقة التي نفكر فيها عادة بشأن تربية الأهل، وهي ليست نصيحة بسيطة، وفي هذه المرحلة، قد تكون مثل الطلاب في فصلي الذين يقولون أحياناً: "حسناً، لقد فهمنا ذلك، التنشئة معقدة، وربما لا تستحق الدراسة لأنَّها معقدة للغاية".

مع ذلك، يفهم العلماء الآن كيف ينتقل الأطفال من مرحلة المشي والتحدث إلى التفكير ويصبحون كائناتٍ مستقلة اجتماعياً، فإنَّهم يفهمون هذه العملية جيداً بما يكفي لفحص الأطفال حديثي الولادة بحثاً عن حالة وراثية أدت ذات مرة إلى التخلف العقلي، ويعمل العلماء أيضاً على تطوير فهم أكثر تعقيداً من أي وقت مضى لكيفية تشكيل الآباء لمستقبل أطفالهم.

ماذا يمكننا أن نفعله بكل هذه النتائج؟

1. اعلم أنَّ دور الآباء هام جداً:

قد يبدو هذا واضحاً، لكنَّ بعض الأشخاص الأذكياء كان لهم رأي مخالف لذلك.

إقرأ أيضاً: نصائح لتقوية الروابط بين الآباء والأطفال

2. اعلم أنَّ أهمية الوالدين أمر معقد ويصعب التنبؤ به:

بالنسبة إلى أي شخص عاش تجربة الأبوة: توقَّف عن إلقاء اللوم على نفسك كما لو كنت تتحكَّم بمسار حياة طفلك، فلديك تأثير في ذلك، ولكن ليس لديك السيطرة عليه.

بالنسبة إلى أي شخص كان ابناً أو ابنة في عائلة: توقف عن لوم والديك، أو على الأقل توقف عن التفكير في أنَّه يجب أن يتم تعريفك من قِبلهما.

وتوقفوا عن لوم الآباء الآخرين؛ حيث كشفَت دراسة استقصائية حديثة لآلاف الآباء أنَّ %90 من الأمهات و85% من الآباء يشعرون بالذنب، ويشعر ما يقرب من نصفهم بأنَّه محكوم عليهم طوال الوقت أو تقريباً من قِبل أشخاص يعرفونهم ومن غرباء تماماً، حتى عندما يبذل الآباء قصارى جهدهم، لا يمكنك إرضاء الجميع.

هذا ينطبق خاصةً على مصطلح "آباء التنين" (Dragon parents)، فقد ابتكرت الكاتبة "إميلي راب" (Emily Rapp) هذا المصطلح بعد تشخيص إصابة طفلها بمرض "تاي ساكس" (Tay-Sachs)، فكانت تعرف حينها أنَّ طفلها "رونان" (Ronan) لن يمشي أو يتكلم أبداً وأنَّه من المحتمل أن يموت قبل سن الرابعة.

وُلِد ابني البكر بحالة تمنع الأمعاء من امتصاص العناصر الغذائية أو الماء للجسم، ويحدث هذا على طفل واحد فقط من بين كل 5 ملايين طفل، ونادراً جداً لدرجة أنَّ أحد الأطباء وجد الثقة لإخبارنا أنَّنا سنصاب بالذعر إذا كان هذا هو ما يعاني منه طفلنا، وكان أيضاً الشخص الذي اضطر إلى إخبارنا بالحقيقة لاحقاً.

لدى "آباء التنين" الكثير ليقولوه عن التربية، حتى لو كانوا يعرفون أنَّ أطفالهم سيموتون صغاراً أو حتى لو لم تكن لديهم أيَّة فكرة عمَّا إذا كان أطفالهم سيعيشون.

تقول "راب": "لن ننطلق بأطفالنا إلى مستقبل مشرق وواعد؛ بل سندفنهم مبكراً، ويتطلب هذا قوة وطريقة جديدة للتفكير، ونحن "آباء التنين"، شرسون ومخلصون ومحبون وعاطفيون للغاية، لقد علَّمَتنا تجاربنا كيف نربي من أجل هذه اللحظة، بدافع التربية، ومن أجل الإنسانية المتمثلة في فعل التربية، لقد استنتجتُ في النهاية أنَّ ذلك نابع من حب طفلي، وبالنسبة إلى أي والد في أي مكان، هذا كل ما في الأمر".

كنت أظن أنَّ خبرتي في تنمية الطفل ستساعدني على الاستعداد لأصبح أحد الوالدين، وبدلاً من ذلك، ساعدني كوني أحد الوالدين على رؤية علم التربية من منظور جديد تماماً.

إقرأ أيضاً: 6 أمور أساسية لتنمية مهارات الطفل

3. قدِّر أهمية لحظاتك معهم بسبب ما تعنيه لك ولطفلك الآن:

أشار الناشط "أندرو سولومون" (Andrew Solomon) أنَّه "على الرغم من أنَّ الكثيرين منا يفتخرون بمقدار اختلافنا عن آبائنا، إلا أنَّنا نشعر بحزنٍ عميق لمقدار اختلاف أطفالنا عنا"، ربما سنكون أقل حزناً إذا تخلينا عن فكرة أنَّ مستقبل أطفالنا من صنعنا وتحت سيطرتنا.

إذا تمكَّنَّا من فهم تعقيد نمو أطفالنا، فيمكن أن يغير ذلك الطريقة التي نتعامل بها مع قرارات التربية التي نواجهها كل يوم، وتمكِّننا من إدراك أهمية وجود طفل بدلاً من محاولة تشكيل نتيجة محددة، لقد تعلمتُ أن أقدر كل لحظة مع ابني البكر ومع أخيه الأصغر والسلوك الفريد الذي يتَّبعه كل منهما.

يمكن أن يحرر علم التربية الناس من التركيز على ما هو أهم وذو مغزى في حياتنا؛ مما يمكن أن يجعل تجربة أن تكون الأبوة أكثر واقعية وإرضاء.

المصدر




مقالات مرتبطة