لماذا قد نحب الماضي أكثر من الحاضر؟

هل تنتابُك بين الحين والآخر مشاعر الحنين إلى الطفولة؟ هل تشعر بالرغبة في العودة إلى مكان عملك السابق الذي قدَّمت فيه استقالتك بسبب الضغط النفسي والجسدي؟ هل تشعر بالقلق إزاء هذه الأفكار؟ هل يؤثر ذلك في ثقتك بنفسك وفي قراراتك؟ لا بأس كلنا نشعر بهذه المشاعر من حين إلى آخر، فنحن البشر نعاني من تحيُّز الحنين إلى الماضي، لتعرف التفاصيل، تابع معنا قراءة هذا المقال المُمتع.



ما هو التحيُّز إلى الماضي؟

التحيُّز إلى الماضي أو تفضيل الحنين إلى الماضي هو ظاهرة نفسية تعبِّر عن ميل الناس لتذكُّر الماضي بمشاعر تغلب عليها الإيجابية، ما يجعله مثالياً أو رومانسياً، ويمكن أن يظهر هذا التحيز بطرائق مختلفة، مثل تذكُّر التجارب السابقة على أنَّها أفضل ممَّا كانت عليه في الواقع، أو الاعتقاد بأنَّ الأشياء كانت أبسط أو أكثر براءة في الماضي، أو تفضيل الأعراف الثقافية أو الاجتماعية السابقة على تلك الحالية.

يمكن رؤية تحيُّز الحنين إلى الماضي في معظم مجالات الحياة، مثل السياسة، والترفيه، والعلاقات الشخصية، ففي السياسة، على سبيل المثال، قد ينظر الناس إلى القادة أو الحركات السياسية السابقة على أنَّهم أفضل من القادة الحاليين، حتى لو كان الواقع أكثر تعقيداً، وأيضاً في مجال الترفيه، قد يفضِّل الأشخاص الأفلام القديمة، أو البرامج التلفزيونية أو الموسيقية التي شاهدوها في طفولتهم، حتى لو كانت الأعمال الأحدث – موضوعياً - ذات جودة أعلى.

ما هي أسباب الانحياز إلى الماضي؟

أحد أسباب الانحياز إلى الماضي هو أنَّ الناس يميلون إلى التركيز على الذكريات الإيجابية وقمع الذكريات السلبية، فمن المرجَّح أن تُسترجع الذكريات المشحونة عاطفياً، وقد يختار الأشخاص بطريقة انتقائية تذكُّر الجوانب الإيجابية وحدها التي تخصُّ تجربة سابقة أو فترة زمنية معينة، ويمكن أن يؤدي هذا إلى رؤية مشوَّهة للماضي لا تعكس الواقع بدقة.

ثمَّة سبب آخر لتحيُّز الحنين إلى الماضي هو أنَّ الناس قد يستخدمون ذكرياتهم عن الماضي لتعزيز شعور بالهوية أو الانتماء، على سبيل المثال، قد يشعر الناس بالحنين إلى موسيقى أو موضة شبابهم؛ لأنَّها تربطهم بوقت ومكان معيَّنَين في تاريخهم الشخصي، ويجب ملاحظة أنَّ هذا الانحياز إلى الماضي ليس سلبياً دائماً، ويمكن أن تكون له آثار إيجابية، مثل توفير الراحة، والشعور بالأمان في الأوقات الصعبة، ومع ذلك، يجب أن نكون على دراية بهذا التحيُّز، وأن نشكِّك في ذاكرتنا وتصوراتنا للماضي، من أجل الحصول على فهم أكثر دقة للحاضر والمستقبل.

إقرأ أيضاً: ما علامات تأثير الماضي علينا؟ وكيف نتصالح مع الماضي السلبي؟

ماذا يقول "فرويد" عن الحنين إلى الماضي؟

كان "سيغموند فرويد"، مؤسس التحليل النفسي، مُهتماً بمفهوم الحنين إلى الماضي وتأثيراته النفسية المحتملة، ففي مقالته التي صدرت عام 1917 بعنوان "الحداد والكآبة"، استكشف "فرويد" العلاقة بين الحداد والحنين إلى الماضي، بحجة أنَّ كلاهما ينطوي على إحساس بالخسارة.

اعتقد "فرويد" أنَّ الحنين إلى الماضي يمكن أن يكون شكلاً من أشكال الحداد لفترة أو تجربة لم يعد من الممكن الوصول إليها، واقترح أنَّ الحنين إلى الماضي يمكن أن يكون وسيلة للناس للتعامل مع مشاعر الخسارة أو النزوح، لا سيما في المواقف التي يشعرون فيها بالانفصال عن محيطهم أو عن إحساسهم بالذات، كما يعتقد أيضاً أنَّ الحنين إلى الماضي يمكن أن يكون آلية دفاع، تُستخدَم لحماية النفس من الانزعاج من التغيير وعدم اليقين، فمن خلال التمسُّك بالماضي، يمكن للناس الشعور بالاستمرارية والاستقرار في حياتهم، حتى عندما يواجهون تحديات أو اضطرابات كبيرة.

يُسلَّط عمل "فرويد" على الحنين إلى الماضي الضوء على الطرائق المعقدة التي يمكن لذكرياتنا وعواطفنا تشكيل تجاربنا وتصوراتنا للعالم من حولنا، ففي حين أنَّ الحنين إلى الماضي يمكن أن يوفِّر الراحة والشعور بالارتباط بالماضي، فإنَّه يمكن أن يحدَّ أيضاً من قدرتنا على المشاركة الكاملة مع الحاضر والمستقبل.

لماذا نبالغ في تقدير جودة الحياة التي عشناها في طفولتنا؟

ثمَّة أسباب عديدة تجعل الناس يبالغون في تقدير جودة الحياة التي عاشوها في طفولتهم، كما قرأنا سابقاً، وهنا بعض من الأسباب:

1. الذاكرة الانتقائية:

يميل الناس إلى تذكُّر الجوانب الإيجابية لطفولتهم مع نسيان الجوانب السلبية؛ وهذا يعني أنَّه من المرجح أن يتذكَّر الناس الأوقات الجيدة، واللحظات السعيدة، والتجارب الممتعة لطفولتهم مقابل قمع أو نسيان التجارب الأقل متعة أو المؤلمة.

2. آلية الدفاع النفسي:

قد يستخدم الناس الحنين إلى الماضي بوصفه طريقة للتعامل مع المشاعر السلبية، مثل التوتر أو القلق أو الاكتئاب؛ إذ يوفِّر الحنين إلى الماضي إحساساً بالراحة والأمان، ويذكِّر الناس بوقت كانت الحياة فيه أبسط وأقل إرهاقاً.

شاهد بالفيديو: 15 درس يجب أن نتعلمها من الحياة

3. تكوين الهوية:

تُشكِّل تجارب الطفولة هويات الناس، ويمكن أن يكون الحنين وسيلة للحفاظ على هوية معينة أو شعور بالذات، فقد يشعر الناس بارتباط قوي بالمعايير الثقافية أو الاجتماعية لطفولتهم، ما قد يؤدي إلى حنين إلى الماضي.

4. المقارنة الاجتماعية:

قد يقارن الناس حياتهم الحالية بطفولتهم، وذلك قد يقودهم إلى رؤية الماضي من خلال نظارات وردية اللون، وقد يحدث هذا عندما يواجه الأشخاص صعوبات في حياتهم البالغة، أو يشعرون بعدم الرضى عن وضعهم الحالي.

يميل الناس إلى المبالغة في الجوانب الإيجابية لطفولتهم، وذلك بسبب الميل الطبيعي لتذكُّر الأوقات الجيدة مع نسيان الأوقات السيئة، ومع ذلك يجب أن ندرك أنَّ هذا التحيُّز يمكن أن يؤدي إلى رؤية غير دقيقة للماضي وفهم محدود للحاضر.

الحنين إلى الماضي ضروري للتعامل مع فكرة الموت:

يمكن أن يكون الحنين جزءاً طبيعياً من تقييم الحياة والتعامل مع فكرة الموت، فمع تقدُّم الناس في العمر، يصبحون أكثر وعياً بفنائهم، وذلك قد يدفعهم إلى التفكير في تجاربهم وذكرياتهم السابقة، ويمكن أن يكون الحنين وسيلة للتوفيق بين الماضي والحاضر، وفهم قصة حياتهم.

أظهرت الأبحاث أنَّ الحنين إلى الماضي يمكن أن يوفر إحساساً بالاستمرارية والتماسك في الحياة، وذلك يساعد الناس على الحفاظ على اتصال مع ذواتهم السابقة، وإيجاد المعنى والهدف في حياتهم، إضافة إلى ذلك، يمكن أن يوفر الحنين إحساساً بالراحة والأمان خلال الأوقات الصعبة، مثل فترات التوتر أو القلق أو الحزن.

مع ذلك، يجب ملاحظة أنَّ الحنين المفرط أو الانشغال بالماضي يمكن أن يكون علامة على مشكلات الصحة العقلية الأساسية، مثل الاكتئاب أو القلق، كما هو الحال مع أي عاطفة، فيجب الحفاظ على منظور متوازن، والانخراط في ذكريات الحنين بطريقة صحية ومثمرة.

يمكن أن يكون الحنين جزءاً طبيعياً من تقييم الحياة والتعامل مع فكرة الموت والفناء، ويمكن أن يوفِّر إحساساً بالاستمرارية والتماسك في الحياة، ومع ذلك يجب الحفاظ على منظور متوازن واستخدام الحنين بطريقة صحية ومثمرة.

إقرأ أيضاً: 4 دروس هامة تتعلمها عندما تتجاوز الماضي

ما هي فوائد الحنين إلى الماضي؟

ثمَّة عديد من الدراسات الحديثة عن الحنين إلى الماضي وتأثيراته في الصحة العقلية والنفسية، وفيما يأتي بعض الأمثلة عن ذلك:

1. استراتيجية فعَّالة للتعامل مع التوتر والقلق:

وجدت دراسة نُشِرَت في مجلة (Emotion) في عام 2021م، أنَّ ذكريات الحنين إلى الماضي يمكن أن تكون استراتيجية فعَّالة للتعامل مع التوتر والقلق من جائحة (COVID-19)، ووجدت الدراسة أنَّ الأشخاص الذين شاركوا في ذكريات الحنين إلى الماضي أبلغوا عن مستويات أقل من المشاعر السلبية ومشاعر أكبر بالترابط الاجتماعي.

2. يعزِّز التفكير الإبداعي وحل المشكلات:

وجدت دراسة أخرى نُشرت في مجلة (Memory) في عام 2021م، أنَّ الحنين إلى الماضي يمكن أن يعزِّز التفكير الإبداعي وحل المشكلات، ووجدت الدراسة أنَّ المشاركين الذين شاركوا في ذكريات الحنين إلى الماضي كان أداؤهم أفضل في مهمة تفكير متشعب من أولئك الذين لم يفعلوا ذلك.

3. يزيد من الشعور بالمعنى والهدف في الحياة:

وجدت دراسة نُشرت في مجلة (Motivation and Emotion) في عام 2020م، أنَّ الحنين إلى الماضي يمكن أن يزيد من الشعور بالمعنى والهدف في الحياة، ووجدت الدراسة أنَّ الأشخاص الذين انخرطوا في ذكريات الحنين إلى الماضي، أفادوا بمشاعر أكبر بمعنى الحياة، وكانوا أكثر عرضة للانخراط في النشاطات التي تعكس قيمهم ومعتقداتهم.

في الختام:

تشير هذه الدراسات إلى أنَّ الحنين إلى الماضي يمكن أن تكون له آثار إيجابية في الصحة العقلية والرفاهية النفسية، ومع ذلك يجب التأكيد على أنَّ الحنين المفرط أو الانشغال بالماضي يمكن أن يكون علامةً على مشكلات الصحة العقلية الأساسية، مثل الاكتئاب أو القلق، كما هو الحال مع أي عاطفة، فيجب الحفاظ على منظور متوازن، والانخراط في ذكريات الحنين بطريقة صحية ومثمرة.




مقالات مرتبطة