كيفية توجيه الملل للقيام بأشياء مفيدة

إذا فكرت في الملل عموماً، فقد تَعُدُّه أمراً تافهاً، ولكنَّه جزء من الحياة، وبلوى تؤثر في الشباب غالباً؛ ولكن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. كبداية، نستطيع أن نقول إنَّ الكسل هو توصيف اللامبالاة؛ فاللامبالاة هي عبارة عن غياب أي رغبة للقيام بشيء. وعلى النقيض من ذلك، يشمل الملل الرغبة الشديدة في فعل شيء ما، ولكن لا شيء يلائم هذه الرغبة.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدونان "جيمس دانكيرت" و"جون إيستوود" (James Danckert & John Eastwood)، ويتحدثان فيه عن كيفية تغيير شعور عدم الراحة بسبب الملل وتحويله إلى شيء مفيد.

ومن غير الصحيح أيضاً أن نزعم أنَّ الملل هو عبارة عن إحباط؛ إذ ينشأ الإحباط عندما تُحبَط جهودك في تحقيق أهدافك؛ ولكنَّ الملل هو الرغبة في الوصول إلى هدف ترغب في تحقيقه. عندما تشعر بالملل، مهما كان ما تفعله في تلك اللحظة فهو غير مرضٍ لك في طريقة ما؛ إذ تريد فعلاً أن تكون مشاركاً، وتبحث بإلحاح عن نشاط يرضي شعورك؛ لذا يدفعك الملل إلى البحث عن خيارات أفضل، ويحفزك على إحداث تغيير.

توضح قصة "همفري بوتر" (Humphrey Potter)، التي رواها "آدم سميث" (Adam Smith) في كتاب "ثروة الأمم" (The Wealth of Nations) عام 1776، أنَّه في سن الحادية عشرة، كان "همفري" يقوم بوظيفته البائسة ألا وهي "سداد أنابيب"، وكان يستعمل آلة أقدم من المحرك البخاري. وكانت مهمته - المملة للغاية - هي فتح وإغلاق الصمامات مراًراً وتكراراً؛ حيث كان عليه أن يقوم بهذا الأمر، يوماً بعد يوم؛ وهذه المهمة جعلته يفكر ويتخذ قراراً معيناً.

فبدافع الملل الشديد، ابتكر "همفري" نظاماً من الحبال والتروس لجعل الآلة تقوم بالعمل بدلاً منه. لم يحرره ذلك من عمل يدمره فحسب، ولكن أيضاً ساعدته تكنولوجيا المحركات البخارية المتقدمة؛ فقد شعر 'همفري" بإحساس فظيع بسبب الملل الشديد؛ الأمر الذي دفعه إلى القيام بتغيير.

ربما تكون التكنولوجيا قد مضت قدماً، لكنَّ دور الملل في تحفيز التغيير لا يختلف في القرن الحادي والعشرين؛ ففي عام 2010، "جون همفريز" (June Humphreys)، الجدة البالغة من العمر 79 عاماً في بلدة "كرو" الإنجليزية (Crewe)، قامت بموجة من جرائم السرقة لمدة خمس سنوات؛ لأنّها كانت تشعر بالملل من حياتها.

كانت "جون" تسافر في رحلاتٍ مجانية ومعها في حقائبها حمولات كبيرة مثل الملابس والحلويات، ولكن في الوقت نفسه كانت تحمل معها أشياء غريبة جداً، عندما سألها القاضي في المحكمة عن سبب ارتكابها لجرائم السرقة، فردت عليه غاضبة: "لقد سرقتهم فحسب، أنا لا أستفيد بشيء من هذا الأمر".

ولكنَّ "دارين فيرنون" (Darren Vernon) الضابط تعيس الحظ المسؤول عن مراقبة "جون"، دافع عن موكلته قائلاً: "إنَّها تعرف أنَّ ما تفعله خاطئ، لكنَّها وحيدةٌ جداً، وتريد ملء وقتها". لقد أصبحت حياة "جون" بلا معنى؛ ومثل "همفري"، احتاجت إلى التغيير.

إذاً، هل يُعَدُّ الملل أُمَّ الاختراعات أم أصل الرذائل؟ في الواقع لا يسبب الشعور بالملل أياً من ذلك؛ بل يصيبنا شعور بعدم الارتياح؛ وهذا يدفعنا إلى القيام بأمر ما؛ والشيء الذي يحدث بعد ذلك سيكون على مسؤوليتنا.

هذه هي الرسالة التي تعبِّر عن الملل، إنَّها تذكِّرنا بأنَّ ما سيحدث بعد ذلك هو أمرٌ يعود إلينا؛ فإذا كنت لا تعير اهتماماً إلا إلى الشعور بعدم الراحة بسبب الملل، فستفوِّت عليك فرصة استثماره والقيام بشيء هادف.

عندما تعاني من عدم الارتياح بسبب الملل، فإنَّه ينبهك إلى حقيقة أنَّك، مثل "بوتر" و"همفريز" (Potter and Humphreys)، أصبحتَ غير ضروري ولا معنى لك، وتحتاج إلى استعادة ترتيب حياتك؛ إذ يتولد لديك أزمة بداخلك، وتصبح سلبياً، وتدع الحياة تسير كما هي، وتتوقف حتى عن وضع الأهداف في حياتك.

أنت في الواقع لست مرتبطاً بالعالم وفقاً لشروطك، ويجب أن تسعى إلى تحقيق أهداف خاصة بك وهامة بالنسبة إليك أنت، ومن ثمَّ هذا سيحفزك على القيام بأمور هادفة. في الواقع إنَّه أمرٌ جيد أن تشعر بعدم الارتياح بسبب الملل لأنَّه من دون هذا الإحساس، قد لا تلاحظ محنتك.

إنَّ التغيير الذي يتطلبه الملل لا يدور بسهولة حول القيام بشيء مختلف، سواء كان ذلك حول اختراع تكنولوجيا جديدة مثلاً، أم المطلوب هو تغيير الطريقة التي تتواصل بها مع العالم. ويشير الملل إلى ضرورة البحث عن النشاطات التي تنبع من فضولك وإبداعك وعاطفتك وتعبِّر عنها.

باختصار، تحتاج إلى القيام بأشياء جديدة. وقد تكون بعض الأمور المتعلقة بالقضاء على الملل مرغوبة أكثر من غيرها؛ ولكن في النهاية، كيفية القضاء على الملل هو أمرٌ يعود إليك.

الملل هو أمرٌ مزعج، فأنت من الأفضل أن تتجاوز الملل لأنَّك بقيامك بذلك، تتوقف عن فعل ما كان يحرمك من الشعور بقيمة أفعالك، وتبدأ بدلاً من ذلك، بفعل أمور تعزز أفعالك، وهو تحول حاسم نحتاج جميعاً إلى القيام به بطرائق مختلفة كل يوم. عندما تواجه صعوبة في تجاوز هذا الملل فيمكن أن يصبح هذا الشعور مزعجاً جداً، بدلاً من أن يساعدك للقيام بشيء جديد؛ وهذا الأمر يحدث لبعضنا أكثر من الآخر.

يسبب التعرض للملل صعوبات في التنظيم الذاتي وهو أقرب إلى سمة شخصية. وبالنسبة إلى هؤلاء الميالين إلى ذلك، فإنَّ التعرض للملل ليس بالأمر الجيد، فهو يرتبط بزيادة معدلات الاكتئاب والقلق، والمشكلات المرتبطة بتعاطي المخدرات والكحول؛ بل وحتى المشكلات المتعلقة بالإدمان على الهواتف الذكية. وفي نهاية المطاف، عندما تختفي هذه المشتتات، تظل حالة الملل قائمة؛ الأمر الذي يدفع الناس باستمرار إلى اتباع هذه الأفعال؛ ولكن هذا هو على وجه التحديد المكان الذي يواجه فيه الناس شديدي الملل صعوبة.

إنَّ شبكة الإنترنت ممتلئة بقوائم من النشاطات التي يمكن القيام بها حين نشعر الملل، وهذه القوائم في أفضل الأحوال تحقق هدفك، وفي أسوأ الأحوال تعرقل مطالبك التي تسعى إليها للقضاء على الملل؛ لذا لا تدع أحداً يملي عليك ما يجب فعله، فلا توجد نشاطات محددة للقضاء على الملل، وفي الواقع، هذا هو الهدف منها. فرسالة الملل تتضمن أنَّه يجب أن يكون الأمر بين يديك، فلن نخبرك بنشاطات محددة لتجربها.

شاهد: كيف تتخلص من الملل في 20 خطوة

توجد خطوات مختلفة يمكنك اتباعها من أجل القيام بشيء مفيد في خضم الملل:

1. الاسترخاء:

من الصعب القيام بشيءٍ هادف عندما تكون مضطرباً ومنفعلاً. إنَّ التغلب على هذا الاضطراب ضروري عندما تجد نفسك عالقاً في صراع الرغبة في المضي قدماً، ولكنَّك لا ترى طريقة للتغلب على المشكلات التي تواجهك؛ فأخْذُ بضعة أنفاسٍ عميقة يمكن أن يساعدك على التقليل من شعورك بالاضطراب.

يمكنك أيضاً أن تحاول القيام بتحويل هذا الشعور المضطرب إلى نشاط بدني، أو حتى إلى شيء سهل كالمشي. إنَّ الرياضة البدنية يمكن أن تسمح لنا بالشعور بأنَّنا فعالون، وتساعدنا في الاستغناء عن الطاقة غير المستعملة التي نشعر بها بشكل كبير عندما يواجهنا الملل. وإذا وجدت نفسك محاصراً مثلاً في اجتماعات مطولة ومملة، فحتى الخربشة على الورق قد تساعدك على الحفاظ على هدوئك وإبعاد الملل عنك.

2. تقبُّل الملل:

إنَّ مفارقة التغيير هي أنَّ "ما تقاومه سوف يستمر". وإذا شعرت بالازدراء والرفض، فلن تغرق إلا في الملل أكثر وأكثر. وبدلاً من ذلك، تقبَّل الملل على حقيقته، فهو شعورٌ غير مريح، ولكنَّه مفيد للعودة إلى حياةٍ مثمرة. إنَّ قضاء الوقت في الطبيعة أو التحدث مع الأصدقاء يمكن أن يساعدك على استعادة نظرتك إلى الأمور وتخلُّصك من موقف العداء تجاه العالم.

بدلاً من ذلك، قد يكون التأمل وسيلة مفيدة لتنمية شعور هادئ بداخلك. ومهما كانت الاستراتيجية التي تنفعك، فإنَّ الابتعاد عن الكتمان والإقرار بمشاعرك سيمهِّدان لك المجال لتعبِّر عن غايتك وتُحرِّر نفسك من الملل.

3. التأمل الذاتي واختيار الأهداف:

بعد أن تهدأ وتعترف بمشاعرك، ركِّز على الفوائد المحتملة لمختلف الأمور التي يمكنك فعلها. إذا كنت تستطيع أن تستجمع فقط ذرة صغيرة من الحماسة للاحتمالات الموجودة، فسيصبح الملل على المحك. إنَّ الأفعال هي عبارة عن العمل بناءً على رغباتك ونواياك. ومن المفيد أن يكون هدفك إيجابياً.

لكي تبدأ، قد تجد أنَّه من المفيد أن تخصص وقتاً للتأمل الذاتي. ففي كثير من الأحيان في حياتنا اليومية، نحن مشغولون جداً، ومستغرقون في أعمالنا دون أن نضع في حسباننا ما الذي يهمنا حقاً. إنَّ الملل يتيح لنا فرصة للتأمل الذاتي، إنَّه فرصة لإعادة استجماع القوى والإجابة عن بعض الأسئلة الرئيسة عن حياتك وعن نفسك مثل، من أنت؟ وما الذي يهمك؟

إنَّ وجود أسباب وجيهة للقيام بشيء ما قد يجعله أقل مللاً وأكثر حماسةً. بعد لحظاتٍ من التأمل، يمكنك العودة إلى نشاطات تهمك فعلاً، ويمكنك إيجاد سبب أهميتها. وفي نهاية المطاف، يعمل هذا على تعزيز الشعور بالذات، وبمن تكون، وما الذي تقدر قيمته في الحياة.

وفي الوقت نفسه يُعَدُّ الملل بمنزلة تحذير، فنحن يتوفر لنا الكثير من الترفيه غير النشط مثل وسائل التواصل الاجتماعي، وخدمات البث المباشر مثل شبكة "نتفليكس" (Netflix)، فضلاً عن الألعاب التي تسبب الإدمان مثل لعبة "كاندي كراش ساغا" (Candy Crush Saga).

من المغري عندما تكون في مللٍ شديد أن تميل إلى هذه المشتتات. المشكلة هي أنَّها تجعلك مستهلكاً غير نشط؛ فأنت لا تسعى بنشاط وراء الأهداف التي تهمك؛ لذا، هذه الخيارات هي مشتتات مؤقتة فقط.

إذا كنت ما تزال تواجه صعوبة في العثور على ما يهمك فعلاً، فهذا قد يساعدك على وضع قائمة من القيم الشخصية، بدءاً من الروابط الأسرية القوية، والنجاح المهني، والمغامرة، والعدالة الاجتماعية، والاستقلال المالي، وحتى زيادة معرفتك في مجال ما. ثم ضع أهدافاً ملموسة يمكنك العمل عليها لتعزيز قيمك الشخصية. ويمكنك أيضاً أن تتوقف للتأمل في الأوقات الماضية التي شعرت فيها بأنَّك أكثر فاعلية وكفاءة، وابحث عن النشاطات التي تمكِّنك من العودة إليها مرة أخرى، لإظهار مهاراتك ومواهبك الفريدة.

من الهام أن تختار أهدافاً واقعية؛ فقد أوضحت الجائحة ذلك بطريقة واضحة جداً؛ فخلال مختلف حالات الحجر الصحي، شعرنا جميعاً بألم القيود، وعجزنا عن القيام بما نريده؛ الأمر الذي عزز الشعور بالملل. ولكنَّ تحديد هدف كبير مثلاً لكتابة ثاني أعظم رواية في العالم تنافس رواية "الحرب والسلام" (War and Peace)، ليس بهدفٍ واقعي.

ما تختار القيام به يجب أن يكون هاماً بالنسبة إليك، ولكنَّ هذا لا يعني أنَّ أهدافك يجب أن تكون عظيمة. فخبز المعجنات، أو إصلاح دراجة، وحتى مجرد قراءة كتاب، كلها علاجات جيدة للملل ما دامت هامة بالنسبة إليك وتحقق أهدافك.

4. مجرد إنجاز الأمور:

الناس الذين يشعرون بالملل في كثير من الأحيان يعانون من "الشلل التحليلي". الانشغال بالقيام بالشيء الصحيح، يمنعهم من البدء بالعمل، فهم يعانون من نوع من الفشل في البدء. وبدلاً من التخطيط الفعال، والبدء بتحقيق الأهداف ومتابعتها، يركز هؤلاء الأشخاص شديدي الملل على وضعهم الحالي، ويترددون في إحداث تغييرات في حياتهم، ويغفلون بسهولة عن أهدافهم. ولتجنب حدوث ذلك، عندما يكون لديك بعض الأهداف في ذهنك، سواء كانت كبيرة أم صغيرة، فابدأ بها فقط. إذا أمكنك أن تبدأ بطريقة ما، فعندها سيختفي الملل.

إقرأ أيضاً: 15 طريقة لمحاربة الملل والقلق في زمن كورونا

5. تغيير وجهة النظر:

عندما تكون غارقاً في الملل، يمكن أن تشعر كما لو أنَّه لا يوجد مخرج من هذا الأمر. أحياناً تغيير وجهة النظر قد يساعدك، على سبيل المثال، تخيل نفسك تحلِّق بعيداً وراقب ذلك الملل من الخارج، بدلاً من التأمل فيه من الداخل، عندها يمكنك في أغلب الأحيان أن تجد سبب هذا الملل. إنَّ الإحساس بالفاعلية والاستقلال هما من السمات الرئيسة التي تميز القوة لديك. ومن المعروف أنَّ تقنية التحليق هذه، التي يشار إليها تقنياً باسم "اللامركزية"، تقوم بتعطيل الجزء المسؤول عن تنشيط سلوك الجهاز العصبي؛ وهي طريقة أخرى يمكن أن تجعلك تتحرك.

أحياناً يكون من الممكن تحويل حالة مملة إلى حالة مثيرة للاهتمام، على سبيل المثال، إذا كنت تقوم بعمل مكرر جداً، فاستثمر أفضل وقت لديك لإنجاز تلك المهمة من أجل جعل الوقت يمر بسرعة أكبر. أو إذا كنت تعمل على مشروع دراسي حول موضوع تَعُدُّه مملاً، فتخيل نفسك محققاً يعمل على قضية. بالتأكيد، هذا الأمر يمكنك القيام به في كل حالة تجد فيها العمل مملاً، فإنَّ إعادة صياغة الموضوع الذي تجده مملاً قد تجعله أقل مللاً بقليل.

إنَّ اختيار التركيز على شيء ما، يعطيه قيمة أكبر؛ لذا وجِّه اهتمامك نحو شيءٍ ما، وعندها فجأة، ستصبح التفاصيل الصغيرة رائعة؛ لأنَّك اخترت أن تنتبه جيداً لما رفضت القيام به سابقاً.

كما قلنا، الأمر يعود إليك، فقد تتخيل أنَّ جمع الطوابع ممل جداً، ولكن أولئك الذين يقومون بجمع الطوابع كهواية يختلفون معك بشدة. الملل لا يمكن أن يصيبك عندما تُلزِم نفسك بشيءٍ معيَّن. فعندما تختار أن تكون فضولياً مثلاً، عندها لا يمكنك أن تشعر أبداً بالملل.

المصدر: 1




مقالات مرتبطة