كيف ينظر علم النفس إلى الذكريات المؤلمة؟ وهل نستطيع حقاً نسيان الماضي؟

هل سأل أحدكم يوماً هذا السؤال: لماذا لا يستطيع بعض الأشخاص أن يعيشوا اللحظة الراهنة؟ بعض الأشخاص عندما يحاولون أن يعيشوا اللحظة، فإنَّ ذكريات الماضي تحضر أمامهم بكل ما تحمله من مشاعر مؤلمة وتجارب سيئة، دون أن يشعروا بذلك، ودون أن يكونوا قادرين على تجنُّب هذه الذكريات المريرة؛ بل إنَّهم كلما هربوا منها، تسارع إلى اللحاق بهم، ويجدون أنفسهم في داخلها مجدداً، ودون سابق إنذار.



حاجات أساسية مكبوتة؛ والنتيجة إنسان يعيش خارج الحاضر:

لعلَّ الإنسان في الماضي، قد وضع كل احتياجاته الحقيقية جانباً، ونسيها في مكان بعيد، حتى لم يعد يتذكر ذلك المكان وتلك الاحتياجات؛ بل امتلك احتياجات ثانوية عوضاً عنها؛ إذ إنَّ هذا الإنسان كان في رحلة بحث عن شخص يستمع له ويصغي إلى مشكلاته وهمومه، ويُبدي الاحترام الكامل لاحتياجاته، فبقي يحاول كبتها وإخفاءها، وكأنَّها عيب يجب عدم إظهاره.

بعض الحاجات المكبوتة الشائعة، وكيف يقوم الفرد بتعويضها:

فقد يحتاج هذا الشخص إلى العطف أو الحب أو حتى مجرد لفتة اهتمام فقط، وعندما لا تُلبى هذه الاحتياجات، يستبدلها بتناول الطعام، بوصفه حاجة ثانوية يمكن أن تلهيه، لكنَّها لا يمكن أن تحقق الإشباع الذي تحققه الحاجة الأولى.

يمكن أن يحتاج الإنسان إلى عيش علاقة صحية، تقدِّم له الدعم والثقة والراحة النفسية، وعندما لا تُلبَّى هذه الحاجة، فإنَّه يلجأ إلى سلوك بديل، مثل التسوق المفرط، أو قد ينغمس بما يطلق عليه اسم "الشراء القهري"؛ وذلك دون أي مبرر سوى محاولة التعويض عن حاجته الأساسية.

قد يحتاج الإنسان إلى لمسة حنان أو إلى أي شيء يشعره بأنَّه كائن مرغوب من قِبل شخص ما، فعندما لا يُحقَّق هذا الإشباع، ولا يصل إليه؛ فإنَّه يحاول أن يعوِّض هذا النقص، من خلال الإدمان على التبغ أو السجائر.

وتجد هذا واضحاً جداً في كلام المدخن؛ إذ يقوم بمغازلة السيجارة وكأنَّها حبيبته أو زوجته، فقد تسمع صديقك المدخن يقول: "أحب علاقتي بهذه السيجارة فهي تحترق من أجلي، وأنا أموت من أجلها"؛ فهذا الكلام له دلالة واضحة في علم النفس، بأنَّ المدخِّن هنا يحتاج إلى علاقة حب يفرغ من خلالها حاجاته الطبيعية، وحين فشل، أجبر سيجارته على تقمص دور العاشقة المتيمة التي كان يحلم بها.

ولأنَّ هذه الاحتياجات التعويضية الثانوية لا تعوِّض الاحتياجات الأساسية تعويضاً كاملاً، فإنَّه قد يلجأ إلى الكحول والإدمان على المشروبات الكحولية؛ إذ يلمس كأس الكحول ويغازلها كما غازل السيجارة. يمكن أن يرتاح بعض الشيء، لكنَّه سيغضب وينتابه الخنق بعد مدة معينة من الزمن؛ وذلك لأنَّ الكأس أو السيجارة لم تبادلاه هذه المشاعر، ويعود إلى تقمص دور الضحية.

قد يحتاج الإنسان إلى من يَقبل به كما هو دون أي تغيير؛ وذلك لأنَّه غير قادر أصلاً على ذلك؛ لذا تراه يتنازل بكثرة في أيَّة علاقة تسنح له الفرصة بالحصول عليها، ومستعد لفعل أي شيء لكي يضمن حصوله على هذا الشعور.

لذلك كلما كانت المسافة كبيرة بين حاجاتك الحقيقية، وحاجاتك الثانوية، ضاع شعورك بذاتك، وفقدت القدرة على معرفة وتحديد ما تريده بدقة، ثم ستضيع منك اللحظة الراهنة وتغرق في تفاصيل الماضي، كنتيجة حتمية لما سبق.

ما الذي يجب على الإنسان فعله تجاه حاجاته المكبوتة؟

عوضاً عن أن تظل تدور في حلقة مفرغة، لا تعود عليك إلا بالضجر والسوء واليأس والإحباط، يجب عليك أن تدرك جيداً أنَّ الطريق الوحيد للتخلص من كل تلك المشاعر السلبية، هي أن تعود إلى تلبية حاجاتك الحقيقية وتتصالح معها، وتزور ذكرياتك المؤلمة، وتقيم لها جنازة مهيبة تليق بها وبكل ما سببَته لك من مشكلات وأزمات في الحاضر، وتودعها إلى الأبد.

عندها نستطيع أن نقول إنَّك قد تعافيت مما أصابك، وهي عملية صعبة ومعقدة وطويلة، لكنَّ نتائجها مبهرة.

هل يمكن للإنسان أن يصنع سعادته وحده، دون مساعدة أحد؟

في حال لم يكن الإنسان يستطيع أن يخلق السعادة عندما يكون وحده، فإنَّه وبكل تأكيد لن يستطيع أن يعيشها مع مَن يحب، فللسعادة تدريبات وتمرينات وتفكير عميق، ويجب على الإنسان في ظل هذه الحياة التي تعج بالتوتر والقلق والضجيج، أن يتعلم صنع سعادته وشعوره بالأمان والطمأنينة؛ وذلك بالاعتماد على نفسه، وتطوير مهاراته المختلفة في صناعة سعادته بنفسه.

إنَّك بهذه الطريقة لن تجبر نفسك أن تفعل أي شيء لا تكون على قناعة به، كي لا تكون وحيداً؛ وهذا الأمر لا يؤثر إيجاباً في سعادتك فقط؛ بل في ثقتك بنفسك وقوَّتك ونجاحك في الحياة، وكلها في نهاية المطاف أمور تصب في نهر سعادتك، فالكثير من الناس يبقون أنفسهم في علاقات سامة، قد تتعبهم وتؤثر سلباً في حياتهم وعملهم؛ وذلك لأنَّهم يخافون من فكرة أن يبقوا وحدهم.

وفي النهاية إنَّ الإنسان المحنك هو مَن يصنع سعادته بنفسه، ثم يختار شريك حياته وفق ما يريد، وليس بحسب ما يمليه عليه الواقع، وتأمره به الظروف.

إقرأ أيضاً: السعادة: "الغاية التي ينشدها الجميع"، كيف نصل إليها؟

هل يستطيع الإنسان أن يتحكم بذكريات الماضي؟

يتفق الكثير من الناس على أنَّ كل حادثة تحصل في حياة الإنسان، لها حلوها ومرها؛ أي حتى أسوأ الأمور، التي تتسبب في أضرار هامة في حياتنا أو عملنا أو صحتنا، وتتسبب في كم كبير من الحزن والألم، فإنَّها في مكان آخر أو من زاوية أخرى، قد تكون سبباً في حصول أمر مفرح، أو قد تحمل في طياتها الأمل في مستقبل أفضل.

وإذا نظرنا نظرة إيجابية إلى ما نفعله في حياتنا اليومية، من تصرفات وأعمال وكلام، فإنَّنا سنصل إلى إدراك أنَّ هذه الأمور ستصبح ذكريات في الغد، هذه النظرة تعطينا دافعاً أكبر، بأن نضفي عليها لوناً من ألوان الإيجابية، فلا يمكن عدها مجرد رصيد للأيام القادمة؛ بل هي في حقيقة الأمر الدافع الأساسي لأي عمل نودُّ أن نقوم به في المستقبل.

ما هي الطريقة التي نستطيع من خلالها غربلة ذكرياتنا؟

إنَّ عقلنا الباطن يخزِّن جميع الذكريات، ويتذكرها بدقة، حتى لو اعتدنا أنَّنا نسينا كل شيء، ولا يكتفي بتخزين الأمور الجيدة؛ بل يخزن السيئة أيضاً، ويذكرها أكثر من الأشياء الجميلة، فمن هنا نستطيع أن نعوِّد أنفسنا النظر بإيجابية إلى ذكرياتنا التي حدثَت في الماضي، عوضاً عن الشعور بالحسرة حيال أمور فعلناها، وأخرى لم نفعلها، إليك بعض النصائح:

1. كن حاضراً بمشاعرك:

إن كنت من الأشخاص الذي يشعرون بالحسرة حيال علاقة حب حدثت في الماضي وانتهت، أو تشعر بالأسى حيال عمل ذي راتب عالٍ لكنَّك فشلت في الحصول عليه، فإنَّه يجب عليك أن تحاول تذكُّر الأشياء الجميلة التي حدثت في تلك العلاقة، والطموح الجميل الذي كنت تتمسك به عند التقدم إلى ذلك العمل.

2. لا تهمل الحاضر، من أجل الوصول إلى المستقبل:

يُعَدُّ السكوت عن إهانة ما أو موقف مؤذٍ من أجل الحصول على مكسب ما في المستقبل، من الأشياء السيئة التي نفعلها في الحياة اليومية بكثرة، فهذا التفكير أو التصرف هو أكثر ما يجلب التعاسة للإنسان؛ إذ إنَّ الإنسان يقوم بغرز السكين في ذكرياته وذاكرته؛ ذلك لعدم وجود أحد يمكن أن يضمن المستقبل، أو حتى الأشخاص في المستقبل.

شاهد بالفديو: 5 عادات خاطئة يجب أن تبتعد عنها لتتخلص من التعاسة

3. لا تؤدِّ دور الضحية:

يجب عليك أن تتحمل المسؤولية الكاملة تجاه أمر يحدث لك، أو أي خطأ ترتكبه، ويجب عليك ألا تدع هذا الأمر يؤثر سلباً فيك؛ وذلك لأنَّه قد يتحول إلى ذاكرة مؤلمة، تراودك بين الفينة والأخرى، وبذلك يكون ألمها مضاعفاً لآلاف المرات؛ وذلك لأنَّها تبعث على الشعور بالعجز والخوف، ويجب على الإنسان أن يتسلح بحرية الاختيار، وأن يعترف بأنَّه عنصر فاعل في كل ما حدث، وفي كل ما يحدث له.

4. حاول أن تشعر بالامتنان دائماً:

يجب على الإنسان أن يمارس حقه وواجبه في الامتنان تجاه ما حققه، وما وصل إليه من أمور جيدة وجميلة، بدلاً من أن يبقي نفسه أسيراً للذكريات السيئة، التي يحملها له الماضي على جناحيه، ويدق بابه كلما وقف صامتاً على نوافذ الذاكرة.

في الختام:

من غير الصحيح، أنَّ الإنسان لا يستطيع تغيير الماضي وفق ما يشاء وما يحب؛ وذلك لأنَّ كل لحظة نعيشها الآن، وكل دقيقة نمضيها، وكل فعل نقوم به، وكل كلمة نتفوه بها هي مشروع ماضٍ، يمكن أن نقوم بصنعه كما نشاء؛ فنحن القادة والمسؤولون عن كل ما يحدث في حياتنا.

المصدر: الطبيب النفسي د. باسم محسن يوسف، اختصاصي في علاج الأمراض النفسية عند الأطفال والبالغين، وعلاج الإدمان من فرنسا




مقالات مرتبطة