كيف ننسى الذكريات السيئة؟

تميل الذكريات السيئة إلى البقاء معنا طويلاً، وقد يكون ذلك صحيحاً إذا كنت تعاني من اضطراب القلق الاجتماعي (أو ما يُسمَّى بالرهاب الاجتماعي SAD)؛ وإن لم تكن كذلك، فهناك احتمال كبير أن تتعامل مع الذكريات السيئة المتعلقة بمرحلة ما من حياتك، فقد تجد نفسك -مثلاً- تسترجع حدثاً حصل منذ أسابيع أو أشهر أو حتى سنوات كما لو أنَّك ما زلت تواجه الموقف الآن وتشعر بالخزي منه.



في الواقع، أظهرت دراسة أجرتها مجلة العلاج السلوكي والطب النفسي التجريبي (the Journal of Behavioral Therapy and Experimental Psychiatry) في عام 2016 أنَّ الأشخاص الذين يعانون من الرهاب الاجتماعي يميلون إلى اعتبار الذكريات الاجتماعية السيئة عنصراً أساسياً في شخصيتهم.

الذكريات الاجتماعية السلبية:

قد تجد صعوبة في محاولة نسيان الذكريات السيئة، سواءً كنت مصاباً بالرهاب الاجتماعي أم لا؛ وقد تشعر أنَّك تمتلك مخزون ذاكرة ممتلئاً بجميع المواقف المخجلة والمحرجة.

تختلف الذكريات المحددة التي ترافق الناس من شخصٍ إلى آخر؛ فقد ترى جانباً سلبياً في موقف ما وتعتبره صادماً، في حين يعتبره الآخرون موقفاً اعتيادياً؛ ومن الأمثلة على ذلك:

  • ارتكاب خطأ في موقف اجتماعي، كمناداة شخص باسم آخر.
  • عدم القدرة على التصرف عند تقديم عرض ما.
  • رفضك من قبل شخص ما، لاسيما في العلاقات العاطفية.
  • الاعتقاد بأنَّ الآخرين يلاحظون أعراض التوتر لديك مثل رعشة اليدين أو الاحمرار والخجل.
  • التعرض إلى التنمر والسخرية من زملائك.

عندما تتذكر تلك المواقف بعد تعرضك إليها، تخبر نفسك بـ:

  • لماذا قلت/ فعلت ذلك؟
  • أنا مُحرَج جداً.
  • لماذا لا أستطيع التفاعل بسهولة مع الآخرين؟

وتستمر في استعادة تلك الذكريات المحرجة، وتشعر أنَّك غير قادر على إيقاف عقلك عن التفكير فيها.

إقرأ أيضاً: 8 نصائح فعّالة لنسيان الذكريات الحزينة

الأوكسيتوسين والذكريات السيئة:

في الوقت الذي أُعلِنَ فيه أنَّ هرمون الأوكسيتوسين يحمل تأثيراً إيجابياً في المواقف الاجتماعية، فقد أشارت الأبحاث الحديثة إلى قدرته على ترسيخ الذكريات الاجتماعية السلبية لدى الأشخاص الذين يعانون من الرهاب الاجتماعي؛ إذ قد يسبب هذا الهرمون ألماً عاطفياً ينتج عنه بقاء المواقف الاجتماعية المرهقة معنا لفترة طويلة بعد حدوثها، وقد يثير ذلك القلق والخوف من المستقبل.

أبحاث على الفئران:

بحسب دراسة نُشِرت في مجلة علم الأعصاب الطبيعي (Nature Neuroscience) في عام 2013، جرت دراسة مجموعة من الفئران ذات مستويات مختلفة من مستقبلات الأوكسيتوسين في الدماغ وفق الآلية الآتية: دون مستقبلات، ومستقبلات متزايدة، ومستويات طبيعية من المستقبلات؛ وذلك لفحص آثار الخوف والقلق.

في التجربة الأولى، وُضِعت الفئران مع فئران عدوانية، وتعرضت إلى هزيمة اجتماعية، ونتج عن ذلك وضع اجتماعي مرهق؛ ثمَّ أعاد الباحثون بعد ست ساعات وضع الفئران مع الفئران العدوانية، حيث وجدوا أنَّ الفئران التي لا تمتلك مستقبلات لم تظهر عليها علامات الخوف، بينما أظهرت الفئران ذات المستقبلات الإضافية مستويات متزايدة من الخوف، في حين أظهرت الفئران ذات الكميات الطبيعية من المستقبلات مستوى مثالياً من الخوف.

في تجربة ثانية، تمكَّن الباحثون من إظهار أنَّ الأوكسيتوسين في المواقف الاجتماعية المرهقة يمكن أن ينقل الخوف إلى المواقف التي تليها، فمثلاً: في حالة الفئران، استُخدِمت الصدمة الكهربائية، ولم تُظهِر الفئران التي ليس لديها مستقبلات أي علامات تدل على خوفها منها.

أبحاث على الإنسان:

في المقابل، عمدت دراسة في المجلة العلمية الأمريكية (Scientific American) إلى إعطاء الأوكسيتوسين للرجال عن طريق الاستنشاق؛ ثمَّ عُرِضَ على هؤلاء محفز محايد (صور وجوه ومنازل)، ثمَّ قُرِنَ بصدمة كهربائية، ومن ثمَّ تلقوا بعد ذلك جرعة واحدة من الأوكسيتوسين أو دواءً وهمياً، وخضعوا بعده إلى تجربة "الخوف الشرطي" في أثناء إجراء التصوير بالرنين المغناطيسي.

بعد ذلك، عُرِضت عليهم الصور مرة أخرى دون الصدمة الكهربائية، حيث وجدوا أنَّ الأشخاص الذين تلقوا الأوكسيتوسين زاد نشاط قشرة الفص الجبهي لديهم للسيطرة على الخوف، وانخفضت الاستجابة في اللوزة الدماغية (amygdala) عند عرض الصور.

يشير ذلك إذاً إلى أنَّ جرعة واحدة من الأوكسيتوسين كانت فعالة في التخلص من الخوف والقلق.

في حين أنَّ نتائج هذه الأبحاث لكلٍّ من الفئران والرجال قد تبدو متناقضة، إلَّا أنَّ هذا قد يتعلق بتوقيت جرعة الأوكسيتوسين؛ فهل تلقى الرجال الأوكسيتوسين في وقت الصدمة الكهربائية نفسه؟ وهل كانت ذاكرة الصدمة عالقةً معهم لفترة أطول؟ الجواب عن هذه المسألة غير واضح تماماً.

الأوكسيتوسين والمخاوف الاجتماعية:

ماذا يخبرنا هذا البحث عن مخاوفنا وقلقنا وعلاقتها بالذكريات السيئة؟

يبدو أنَّ الأوكسيتوسين يقوي الذكريات الاجتماعية في الدماغ، أو أنَّ له تأثيراً في التكثيف أو التضخيم؛ ويعدُّ هذا الأمر هاماً لأنَّ التوتر الاجتماعي المزمن يسبب القلق والاكتئاب، ويستمر تأثيره لفترة طويلة.

يشير هذا النوع من الأبحاث إلى أنَّ للقلق الاجتماعي مكون وراثي أيضاً، ويعني هذا أنَّ قدرة عقلك على الحصول على الأوكسيتوسين قد ترتبط بمدى تحليلك للذكريات السيئة في المواقف الاجتماعية، بحيث تُشعِرك بالخوف في المستقبل.

إقرأ أيضاً: 6 حقائق غريبة عن الشعور بالخوف

التأقلم:

إذا لعبت الأحداث الاجتماعية السلبية السابقة دوراً أساسياً في اضطراب القلق الاجتماعي، فمن المنطقي أنَّ التخلص من ذكريات هذه الأحداث سيساعد في تقليل قلقك.

  • إذا كنت تميل إلى العودة إلى ذكريات الماضي أو "الهجمات المحرجة" حول المواقف المخزية التي حصلت معك مسبقاً، فمن المفيد الاحتفاظ بمذكرة تسجِّل فيها الأحداث السعيدة أو الإيجابية أيضاً، وتحاول أن تُتبِع كل ذكرى سلبية بأخرى إيجابية في أي وقت تراودك فيه.
  • رداً على ذكريات الماضي، يمكن أن يكون لديك أيضاً بعض العبارات التي تكررها لنفسك، مثل "هذا الحدث لا يمثلني".
  • يمكنك أيضاً ممارسة بعض التمرينات الذهنية عندما تراودك الذكريات؛ فبدلاً من السماح لنفسك بالانغماس فيها، حاول أن تشغل انتباهك بشيء آخر يحيط بك كمنظر أو رائحة.
  • إذا كنت لا تزال تعاني من هذه الذكريات، فحاول استخدام نهج سلوكي معرفي، واسأل نفسك: "هل يتذكرالآخرون هذا الموقف حقاً أو يفكرون فيه؟".
  • وأخيراً، إذا وجدت نفسك ضحية السعي إلى الكمال، وتتمحور ذكرياتك حول الأوقات التي ارتكبت فيها أخطاء؛ فحاول ارتكاب الأخطاء وفعل الأشياء بشكل خاطئ عن عمد، وأخبر نفسك أنَّك تستحق القبول الاجتماعي الآن وليس في المستقبل عندما تصبح الشخص "المثالي".

الأهم هنا ألَّا تستخدم الاستراتيجيات السلبية لنسيان الذكريات السيئة، مثل تعاطي المخدرات أو الكحول.

الاختلافات الجينية والذكريات السيئة:

ألن يكون من الرائع إزالة كل ذكرياتك السلبية؟

بينما يبدو ذلك أقرب إلى الخيال، إلا أنَّ الطب الحديث قادر على تحقيق ذلك أكثر ممَّا تتخيل؛ فقد أظهر أحد الأبحاث أنَّ العامل التغذوي العصبي المشتق من الدماغ (BDNF) يرتبط بتوليد الخوف؛ ويمكن بهذا استخدام العلاج الجيني لهذا العامل (BDNF) في المستقبل عن طريق تغيير الجينات التي تساهم في الخوف والقلق.

بالطريقة نفسها، تبين أنَّ مسار المورثة (الجين Tac2) يقلل من تخزين الذكريات المؤلمة؛ ونتيجة لذلك، يمكن للدواء الذي يمنع نشاط هذا المسار أن يمنع تخزين الذكريات المؤلمة في الأساس.

لكن في حين أنَّ هذا سيكون مفيداً للغاية في حالات اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، إلَّا أنَّ هذا النوع من الأبحاث قد ينبه الذكريات السلبية في اضطراب القلق الاجتماعي.

لا تقلق بشأن ذلك، حيث لا تُمحَى الذكريات السيئة إلى الأبد، وإنَّما تبقى مخزنة في مكان ما، ولكن يصبح من الصعب الوصول إليها.

شاهد بالفيديو: كيف تنسى الذكريات المؤلمة نهائياً؟

كلمة أخيرة:

في حين يعدُّ التفكير في أخطاء الماضي أمراً طبيعياً، إلَّا أنَّ التركيز عليها لدرجة تسبب الخوف الشديد والقلق ليس بالأمر العادي أبداً.

إذا كنت تعاني من اضطراب القلق الاجتماعي أو تعتقد أنَّ لديك أعراض هذه المشكلة، فمن الضروري استشارة الطبيب؛ كما قد تكون مراجعة معالج متخصص في الاضطراب العاطفي الموسمي أمراً مفيداً في وضع استراتيجيات للتعامل بشكل أفضل مع هذه الذكريات السلبية.

 

المصدر




مقالات مرتبطة