كيف نغير علاقتنا بتجارب التنمر ونمضي قدماً نحو المستقبل؟

يعدُّ التنمر تجربة يعرفها الكثير من البالغين مباشرة من طفولتهم، وهي تجربة يواجهها اليوم الكثير من الأطفال؛ إذ تؤكد الإحصاءات أنَّ ما يصل إلى واحد من كل خمسة أطفال في الولايات المتحدة يتعرضون للتنمر، ومع ذلك لا يقتصر التنمر على الملاعب أو الفصول الدراسية فقط؛ بل يحدث التنمر الشرس عبر الإنترنت كل يوم، ويمكن أن يحدث بين الأطفال والبالغين الذين يعيشون في نفس المنزل.



يمكن أن يتخذ التنمر أشكالاً عديدة مثل التنمر الجسدي الذي يتضمن اللكم والركل والدفع والتعثر والبصق أو غير ذلك، وكذلك التنمر النفسي الذي يعد منتشراً أكثر، ويمكن أن يشمل التحرش والإذلال المتعمد والعدوان اللفظي الذي يحط من قدر شخص ما والصفات والشتائم والافتراء؛ أي كل السلوكات غير الجسدية التي يمكن أن تحدث شخصياً أو عبر الإنترنت.

ما هو التنمر؟

يمكن تعريف التنمر على أنَّه شخص أو مجموعة تستفرد وتسيء معاملة فرد يُنظر إليه على أنَّه أصغر أو أضعف أو مختلف بطريقة ما وأقل قدرة على الدفاع عن نفسه، وخلال حياتنا واجه الكثير منا - إن لم نقل جميعنا - شكلاً من أشكال التنمر الذي يمكن أن يحدث في أي عمر تختلف شدته ودرجته وطريقة التأثر به بين شخص وآخر، وكل منا يعيش مع هذه التجارب بطرائق مختلفة.

أمثلة عن التنمر في الطفولة وكيفية تأثيره في حياة البالغ:

الأكثر من ذلك أنَّ التنمر لا يُنسى بالضرورة ولا يُشفى منه الإنسان إذا غادر المتنمر حياته، فدعنا نفكر في بعض الأمثلة الخيالية الموجزة لتوضيح التأثير الذي يمكن أن يحدثه التنمر:

بوصفها واحدة من عدد قليل جداً من الطلاب متعددي الأعراق في المدينة التي انتقلت إليها عائلتها في الثمانينيات، وجدت "هانا" نفسها مستهدفة بشكل متكرر بسبب سماتها الجسدية، وأطلق عليها اسم "حمار وحشي".

عندما بدأت أول وظيفة مكتبية لها بعد الكلية لاحظت "هانا" أنَّ مديرتها - وهي امرأة بيضاء - كانت سريعة الغضب بحقها وتحط من قيمة عملها علانية، وحتى مع تقدمها في حياتها المهنية والأسرية، ما تزال "هانا" تجد نفسها في حالة تأهب في المواقف مع أشخاص يبدو أنَّهم يشبهون أولئك الأشخاص الذين تنمروا عليها.

انفصل والدا "مروان" عندما كان في الرابعة من عمره، وتزوجت والدته مرة أخرى في عائلة لها ولدان أكبر منه، وبوصفه طفلاً مبدعاً كان يستمتع بالخربشة والرسم، وقد تعرَّض "مروان" للتخويف من قِبل أشقائه الذين كسروا أقلام التلوين ومزقوا الرسومات التي رسمها، ثم أخبر زوج والدته، فأجابه أنَّ إخوته كانوا يساعدونه ليصبح رجلاً، وفي مرحلة البلوغ يجد "مروان" نفسه أحياناً في حالة هياج، حتى إنَّه يتجمد من الخوف عندما يواجه سلوكاً عدوانياً، وخاصة من قِبل الرجال الذين يراهم أكثر قوة أو تهديداً.

إقرأ أيضاً: تعريف التنمر الاجتماعي وأشكاله وطرق علاجه

يمكن أن يكون للتنمر مجموعة من التأثيرات المستمرة:

قد يشعر الإنسان بآثار التنمر في بعض الأحيان لفترة طويلة بعد انتهائه، وفي إحدى الدراسات في عام 2013م التي أُجريت على مئات الأشخاص الذين لديهم تاريخ طفولي من التنمر، حدد المشرفون على الدراسة رهاب الخلاء واضطراب الهلع واضطراب القلق العام والاكتئاب بوصفها مخاطر مرتفعة في مرحلة البلوغ.

بينما وجدت أبحاث أخرى أنَّ الناجين يميلون إلى الإبلاغ عن شعور متزايد بالرفض وتدني احترام الذات وتكرار أعلى للأفكار الانتحارية السابقة أكثر من غيرهم، فإذا كنت قد تعرضت للتنمر في شبابك أو في مرحلة البلوغ سابقاً، فربما لم يكن لديك العديد من الأدوات المتاحة للتعامل معه في ذلك الوقت، لكن يمكنك مع ذلك الانخراط في عملية الشفاء العميق الآن.

ربما تشعر بالخوف الغريزي أو عدم الارتياح تجاه الأشخاص الذين يشبه سلوكهم بطريقة ما التجارب السابقة للتنمر، فأولئك الذين تعرضوا للتنمر منا قد لا يمتلكون البصيرة - خاصة إذا تعرضنا للتنمر بصفتنا أطفالاً - للتعرف إلى سبب تعاملنا مع الضيق في المواقف الحالية؛ إذ تتفحص موقفاً وتتوقف بعض الوقت لتسأل نفسك متى شعرت برد الفعل تجاه شخص ما في الماضي؟ يمكن لهذا أن يوضح كيف يمكن أن يؤثر فيك تاريخ التنمر القديم.

شاهد بالفيديو: أعراض التنمر المدرسي وعلاجه

السلوك التعويضي الناجم عن تجارب التنمر:

في كثير من الأحيان يمكن التعرف إلى تأثير التنمر من خلال شعور متضائل بتقدير الذات يؤدي إلى العزلة، فقد تدور الأفكار في رأسك لتخبرك أنَّك غير مرغوب أو أنَّ الناس يختارون قضاء الوقت معك فقط بدافع الشفقة، وقد تجد نفسك تعوض هذا النقص بطرائق أخرى مثل العمل بجهد مضاعف في شيء ما لمحاولة استعادة الشعور بالقيمة؛ التظاهر بأنَّ أحوالك على ما يرام حتى وأنت تعاني بشدة؛ أو إنكار ألمك حتى مع استمرار الشعور بالنقص.

قد تدفعك تجارب التنمر السابقة إلى التعويض عن الأذى الحاصل عن طريق الانخراط في سلوكات معينة يمكن أن يكون بعضها مفيداً مثل الرياضة والقراءة والبستنة واليوغا، وبعضها ليس كذلك مثل الإدمان أو التسوق القهري أو المقامرة أو السلوك العدواني أو حتى المسيء تجاه الآخرين.

كيف يمكنني عزل تجارب التنمر عن شخصيتي الحالية؟

يمكن أن تتراوح حالات التنمر التي قد تكون مررت بها من حوادث الطفولة البعيدة إلى الأحداث الأخيرة في مكان العمل أو في المنزل أو في أي مكان آخر، فضع قائمة بالتجارب التي تتبادر إلى ذهنك دون طرح الكثير من الأسئلة مثل "هل كان هذا تنمراً حقيقياً؟" أو تبرير سلوك الشخص المتسلط "حسناً، لقد كانوا تحت ضغط كبير في ذلك الوقت"، فإذا كانت تجربة ما تطفو على وعيك، فما عليك سوى سردها "هذا الوقت الغريب مع مدرس الرياضيات في الصف التاسع"، "نائب رئيس التسويق لدينا يزعجني بشأن المبيعات".

بمجرد الانتهاء راجع مخزونك لتحديد التجارب الأكثر إزعاجاً لتذكرها، فقد يثير ذلك مجموعة من المشاعر؛ إعادة تجربة الخوف أو الإذلال الذي شعرت به في ذلك الوقت والغضب أو الحزن لأنَّك سمحت بحدوثه والاستياء من المتنمر وربما حتى على المتفرجين الذين لم يفعلوا شيئاً لوقف التنمر، وقد تعيد تجربة المشاعر السلبية التي كنت تشعر بها حيال نفسك، وربما تشعر بنقص تقدير الذات إذا اعتقدت خطأ أنَّك تسببت في التنمر أو أنَّك تستحق التنمر، فكل ما تلاحظه هو الجزء المركزي من التجربة التي تسعى الآن إلى معالجتها.

بينما تفكر في هذه التجارب الآن، فكر فيما إذا كانت قد وجَّهتك إلى مسار معين على مدار الأشهر أو السنوات التي تلت ذلك، فهل طورت تقديراً متدنياً لذاتك وتعلمت إسكات صوتك الداخلي أو التقليل من بعض جوانب شخصيتك مثل إبداعك؟ وهل اتجهت نحو سلوكات إدمانية أو قهرية أو وجدت نفسك في دوامة اكتئابية أو بدأت بتجربة نوبات هلع في مواقف معينة؟

بمجرد أن تفكر في المسار الذي قد يقودك التنمر إليه، قد يكون من المفيد أن تعطيه اسماً مثل (Depression Alley) أو "حليف الاكتئاب" أو أي شيء يبدو حقيقياً بالنسبة إليك، فيمكن أن يساعدك القيام بذلك على تأطيرها في فهمك ووعيك على أنَّها مرتبطة بالوقت والموقف وليس في صلب شخصيتك.

ظاهرة التنمر

كيف يمكننا تغيير علاقتنا بذكريات وتجارب التنمر؟

غالباً ما يؤدي التفكير في ذكريات التنمر إلى الشعور بالخزي والشعور غير العقلاني بالملكية للأحداث التي لا تتحكم فيها كثيراً أو لا تتحكم فيها على الإطلاق، لذلك في حين أنَّك قد تشعر بالخجل لأنَّك لم تقاوم المتنمر في ملعب المدرسة أو رئيسك المتسلط أو حتى شخصاً ما في حياتك الحالية، فمن الهام أن تعلم جيداً أنَّ الإدراك المتأخر غالباً ما يهمل الغرائز التي تتحكم بك خلال تلك التجربة.

على سبيل المثال عندما كنت طفلاً وهربت من شخص كنت تعتقد أنَّه أكبر منك أو أقوى منك، فمن المحتمل أن تكون غريزة البقاء لديك هي التي تتحكم بسلوكك؛ أي إنَّها محاولة للابتعاد عن موقف مرهق للغاية؛ إذ تخشى حدوث أذى جسدي أو عاطفي، وربما لم يكن لديك الوقت للتفكير في الأمر بعقلانية، وإذا كانت لديك مواجهات أخرى مع التنمر في حياتك الحالية، فمن المحتمل أنَّ نفس الغريزة بدأت بالظهور مرة أخرى، وربما تكون قد تحكمت بسلوكك بطريقة تندم عليها الآن؛ إذ يمتلك الدماغ طريقة خارقة لإعادتنا إلى استراتيجيات البقاء القديمة.

مع وضع ذلك في الحسبان احترم استراتيجيات البقاء التي استخدمتها في الماضي حتى لو كنت ترغب الآن في عدم القيام بهذا أو ذاك، واعلم أنَّك كنت تبذل قصارى جهدك لمواصلة العمل في لحظة صعبة، وبهذه الطريقة عملت ردود أفعالك تجاه الظروف الصعبة مثل ردود أفعال أي شخص آخر، فنحن جميعاً نحاول البقاء على قيد الحياة، والماضي نفسه غير قابل للتغيير، ومع ذلك يمكننا تغيير علاقتنا به.

إقرأ أيضاً: ظاهرة التنمّر: أنواعها، أسبابها، وطرق علاجها

استغلال مشاعر التنمر السلبية في أشياء إيجابية:

إذا وجدت أنَّك تشعر بحزن عميق في أثناء التفكير في تجارب التنمر السابقة التي شعرت بها، فقد يشير ذلك إلى أنَّك بحاجة إلى الحزن على ما عشته والوقت الذي فقدته بسبب العزلة والأذى نتيجة لذلك، وهذا جزء من الشفاء لكثير منا، فعندما تستذكر ذكريات التنمر أدعوك للسماح لنفسك بتجربة هذه المشاعر دون خجل، وبعد ذلك ضع في حسبانك هذه الأسئلة "ما الذي يوحي إليَّ حزني أنَّني قد أحتاجه الآن؟ وهل هناك أي شيء يمكنني القيام به لاستعادة الإحساس بالعدالة مثل مساعدة شخص آخر يعاني من التنمر؟".

في الختام:

قد تشعر بالغضب الشديد عندما تتذكَّر تعرُّضك للتنمر، فالغضب مثل كل المشاعر يمكن أن ينير الطريق إلى الأمام، وإذا كنت ترى الغضب استجابة طبيعية لتجربتك مع الظلم، فما الذي يمكن فعله الآن للمساعدة على تحقيق عدالة أكبر في العالم بطريقة لا تعرض نفسك أو الآخرين للخطر؟ وهل يوجد برنامج لمكافحة التنمر أو أي نشاط يمكنك منحه الوقت أو المال؟ أو ربما تحتاج إلى دراسة تجارب الأطفال أو زملاء العمل في حياتك الذين قد يواجهون التنمر من أجل التقليل من معاناتهم؟ فكر بشكل نقدي فيما تحاول طاقتك العاطفية إخبارك به.




مقالات مرتبطة