كيف تكون أكثر مصداقية في العمل؟

عندما عملتُ في مصرف، مررت بالكثير من الضغط لكي أتأقلم؛ وللمضي قدماً والحصول على الاستحسان، بذل العديد من الموظفين قصارى جهدهم ليعكسوا القيم السائدة داخل مؤسستهم؛ فسواء كانت بيئة العمل تنافسية بشدة أم تشجِّع على العمل الجماعي، فإنَّ نجاح الأشخاص يعتمد على الامتثال من حيث الملابس الرسمية وأسلوب التعامل؛ وذلك لإثبات أنَّهم مناسبون، وقد خلق ذلك كله قدراً كبيراً من الضغط على الموظفين الذين لم تكن خلفياتهم وقيمهم ووجهات نظرهم تتناسب بسهولة مع أنموذج النجاح في بيئات عملهم.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الأستاذة في الإدارة باتريشيا هيولين (Patricia Hewlin)، والتي تُحدِّثنا فيه عن كيفية التحلي بمصداقية أكبر في العمل.

لذلك، منذ حوالي 20 عاماً، بدأتُ بإجراء بعض الأبحاث المتعلقة بالأمور التي تعزز الامتثال، والتعمق أكثر في تجربة تجنُّب المصداقية في العمل.

وفقاً لهذا البحث، يشعر حوالي ثلث الموظفين في أمريكا الشمالية بأنَّهم مجبرون على قمع قيمهم الشخصية والتظاهر بالتوافق مع قيم مؤسساتهم؛ حيث يقلقون من ألا يحصلوا على ترقية إذا أظهروا مدى أهمية الأبوة بالنسبة إليهم، أو من أن يُنظر إليهم على أنَّهم متطرفون إذا ارتدوا ملابس تعكس أديانهم، أو من أن يتحدثوا علانية ضد التعليمات التنظيمية التي تتعارض مع وجهات نظرهم حول العدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية، أو من أن يساء فهمهم ويُنبذون إذا كشفوا عن تجارب شخصية ترتبط بظلم واعتداءات تعرَّضوا لها في مكان العمل.

في هذه المواقف، غالباً ما ندرك أنَّه من الأكثر أماناً أن نصطنع لنتأقلم، بحيث نُخفي وجهات نظرنا المتباينة؛ فنبتسم ونتجهم ونومِئ برؤوسنا عندما تستدعي الحاجة إلى ذلك.

لسوء الحظ، عندما نتصنَّع هذه الأمور، فإنَّنا نشعر بالنفور، ونُصاب بأعراض اكتئاب أكبر، مما يؤدي إلى انخفاض نسبة مشاركتنا والتزامنا في العمل، وتزيد رغبتنا في المغادرة، وهذه هي المفارقة التي تظهر: لأنَّنا نتظاهر بالامتثال، نقرر في النهاية أنَّنا لا نريد الاستمرار في ذلك.

نقيض تصنُّع هذه المشاعر هو المصداقية والمواءمة بين إحساسنا الداخلي بالذات وسلوكنا الخارجي؛ حيث تشير الأبحاث إلى أنَّه عندما نشعر أنَّنا نعيش وفقاً لقيمنا ووجهات نظرنا الشخصية، فيعزز ذلك من سلامتنا، وينخفض مستوى اكتئابنا، ونميل إلى أن نكون أكثر رضا عن الحياة، ونشارك مشاركة كبيرة في وظائفنا، ومع أخذ ذلك بالحسبان، كرَّستُ بحثي الأخير للكشف عن طبيعة المصداقية في العمل، وكيف يمكننا تنمية المزيد منها حتى عندما نشعر بالمخاطر.

ما هي الأمور التي تدفعنا للامتثال؟

وفقاً لبحثي، تميل بعض المواقف والبيئات إلى تعزيز المصداقية؛ ففي المؤسسات التي لا تتم دعوة الموظفين فيها للمشاركة في صنع القرار، نميل إلى الشعور بمزيد من الحاجة إلى التصنع، فنحن نعتقد أنَّه إذا لم نتمكن حتى من إبداء رأينا بخصوص مكان وضع آلة تحضير القهوة، فبالتأكيد لن نتحدث عما فعلناه خلال عطلة نهاية الأسبوع؛ وذلك لأنَّ لا أحد سيفهمنا على أي حال".

تتطلَّب المصداقية الأمان النفسي؛ أي بيئة يمكن للناس فيها أن يخاطروا في مشاركة مخاوفهم الحقيقية واكتشاف الأخطاء وإصلاحها، فإذا كانت منظَّمتنا لا تسمح بذلك، فلن نشعر بالتأكيد بالراحة في التعبير عن جوانب من أنفسنا قد تتعارض مع قيم المنظمة، والأهم من ذلك، تتطلب المصداقية إحساساً بالانتماء الناتج عن مساهماتنا في المنظمة، وليس عما إذا كنا نحتفظ بوجهات نظر "مقبولة" أو "منسجمة مع آراء الآخرين"، وإذا شعرت بعدم الارتياح في بيئة العمل هذه، فسوف تميل إلى الامتثال من أجل تحقيق الشعور بالأمان.

يمكن لبعض أساليب القيادة أن تعزز الامتثال أيضاً؛ فإذا تحدَّث شخص ذو منصب أعلى بطريقة تفترض أن كل شخص لديه القيم السياسية أو تجارب الطفولة ذاتها، فقد نُرغم على أن نبقى صامتين.

حتى القيادة الجيدة يمكن أن تقود إلى الامتثال؛ ففي البحث الذي أجريته مع الأستاذتين في الإدارة، تريسي دوماس (Tracy Dumas) وميريديث برنيت (Meredith Burnett)، وجدنا أن الموظفين الذين يحملون قيماً لا تتماشى تماماً مع القيم التنظيمية يميلون إلى الامتثال أكثر عندما يرون أنَّ قائدهم يتمتع بدرجة عالية من النزاهة، كما يقدر الناس بشدة القادة النزيهين، لدرجة أنَّهم قد يكونون مستعدين لإخفاء وجهات نظرهم مقابل الحصول على فوائد القيادة الجيدة.

يمكن أن تشجعنا تجاربنا الخاصة أيضاً على الامتثال، بما في ذلك وضع الأقلية؛ حيث سألت الناس في استطلاعاتي عن مدى شعورهم بأنَّهم أقلية وفي أي فئات، مثل العمر والتوجه السياسي والعِرق، فكلما زادت النواحي التي نُعدُّ فيها أقلية، ازداد احتمال شعورنا بالحاجة إلى تصنُّع الامتثال.

نحن نحصل في بعض الأحيان على نصائح من أشخاص نثق بهم تشجِّعنا على الامتثال، ولقد كان كبار السن في حياتي ينصحونني قائلين: "كوني حذرة واحتفظي بأفكارك لنفسك، فليس من الضروري أن يعرف الجميع ما يحدث في حياتك"، فقد كانوا قلقين من فكرة أنَّني امرأة أمريكية من أصل أفريقي في عالم الأعمال.

إقرأ أيضاً: 8 نصائح لتصبح أكثر مهنية في عملك

ما هي المصداقية في العمل؟

عندما كنا أطفالاً، قيل للكثير منا أن نتصرف على سجيتنا، لكن لم يخبرنا أحد عن كيفية القيام بذلك؛ وذلك لأنَّ الناس لا يعرفون بالأصل كيف نفعل ذلك؛ حيث يتطلب الأمر بعض التحليل الذاتي، وفهماً أعمق لمعنى أن تكون صادقاً.

1. المصداقية في العلاقات:

نحن نعيش في عالم قائم على إنشاء العلاقات؛ لهذا السبب، يجب الجمع بين المصداقية والذكاء العاطفي والاحترام والإصغاء والفهم، وتتطلب المصداقية تبنِّي وجهات نظرنا، ووجهات نظر الآخرين أيضاً؛ فإذا كنت تريد أن تكون صادقاً، فيتطلب ذلك منك أن تتقبَّل مصداقية الآخرين".

هذا لا يعني أن نقولب مصداقيتنا لنكون محبوبين؛ إذ من الجيد أن تتحدى مصداقيتنا بعض الناس أحياناً؛ ولكن إذا كانت مصداقيتنا تهدف إلى إيذاء شخص ما أو عدم احترامه، فإنَّ دوافعنا ستكون مشكوكاً فيها.

إقرأ أيضاً: فن صناعة العلاقات المميزة !!!

2. المصداقية بوصفها رحلة شخصية:

تتوافق قيم بعضنا مع قيم بيئتنا؛ لذا سيكون إظهار المصداقية بذلك موضع ترحيب، لكن في كثير من الحالات، يكون اختيار أن تكون صادقاً محفوفاً بالمخاطر بعض الشيء.

قد يساعدك العثور على أناس يعيشون بمصداقية على التعلم منهم، لكن يجب أن تكون المصداقية دائماً وفقاً لشروطك الخاصة، وقد تختلف الطريقة التي تختار بها أن تكون صادقاً تماماً عن الطريقة التي يختارها زميلك أو أخوك أو صديقك للقيام بذلك؛ فقد تجد أنَّ مظهرك - ملابسك وتصفيفة شعرك - ضروري ليعكس مصداقيتك، بينما قد يرغب شخص آخر في دمج الحياة الأسرية بالعمل، على سبيل المثال، إحضار أطفالهم أحياناً إلى مكان عملهم.

3. المصداقية القائمة على القيم الجوهرية:

لا تتعلق المصداقية بمكان وضع آلة صنع القهوة؛ بل تتعلق بالجوانب الجوهرية عن أنفسنا، كهويتنا ومعتقداتنا ووجهات نظرنا حول ما هو صواب.

في حين أنَّ بعض قيمنا مرنة ويمكن أن تتغير بمرور الوقت، فإنَّ بعضها الآخر جوهري بالنسبة إلينا ويصعب للغاية التخلص منها؛ حيث لن نشعر بالرضا إذا تنازلنا عنها، ويمكن أن يكون لدينا قيم أساسية تتعلق بالسياسة أو الدين أو الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي، كما قد يكون لدينا أيضاً قيم جوهرية تتعلق بالحياة الأسرية والثقافة ومظهرنا الجسدي.

شاهد بالفيديو: 5 نصائح بسيطة لتحقيق التطور المهني

كيف تكون أكثر مصداقية؟

لم يسبق أن شرح لك أحد على الإطلاق تفاصيل كيفية أن تكون صادقاً؛ فمن الأسئلة التي يجب أن تطرحها عن قيمك الجوهرية: ما إذا كانت عملية أم لا، وهل من الممكن أن يفسدوا علاقاتك؟ وهل هناك أي تحيز مرتبط بهم؟ فإذا كانت غير فعالة، فقد حان الوقت لإعادة تقييمها وتطوير قيم جوهرية جديدة، مع العلم أنَّ الأمر قد يتطلب بعض العمل، فالقيم الجوهرية هي أساس عاداتنا؛ لذلك يصعب تغييرها، لكنَّها ضرورية إذا كانت هذه العادات على الرغم من صحَّتها تعمل ضدك.

في أثناء تقييم قيمك الجوهرية، يمكنك طرح هذه الأسئلة على نفسك: ما هي القيم القابلة وغير القابلة للتفاوض؟ ما الذي يجعل بيئة عملي أكثر جاذبية بالنسبة إلي؟ ما الذي يجعلني أشعر بمزيد من المصداقية؟ عندما لا أستطيع أن أكون على طبيعتي عندما يتعلق الأمر بقيمي، فكيف أشعر؟

الفكرة هي أنَّه عندما تتنازل عن قيمك الجوهرية، فإنَّك تُعرِّض سلامتك للخطر.

عندما تفكر في هذه الأسئلة، من المفيد التفكير في حدود مصداقيتك، وهي مستوى المشاركة الحقيقية التي تجلب الفوائد لصحتك، وتمدُّك بالرضا عن الصدق مع نفسك؛ لذا فكر في الأوقات التي كنت منسجماً فيها تماماً في العمل، وفكَّرت: "هذه هي اللحظة التي أشعر بها بالمصداقية"، مع من كنت حينها؟ وماذا كنتم تفعلون؟ وكيف يمكنك تكرار ذلك أكثر؟ من أجل تحقيق ذلك، قد يتطلب الأمر إجراء محادثات تعبِّر فيها عن ضعفك، أو تشارك المزيد عن شخصك مع الآخرين.

ليس عليك أن تعبِّر عن كل شيء في العمل، ربما توجد أماكن أخرى حيث يمكنك التعبير عن قيمك السياسية، على سبيل المثال، وفي الحقيقة لا تتعلق المصداقية بالإفصاح عن كل ما يدور في خلدك طوال الوقت؛ بل بتحديد ما هو مهم بالنسبة إليك وإلى أي مدى يمكنك دمج هذه القيم في حياتك العملية أو المجالات الأخرى من حياتك، بحيث يمكنك الشعور بالرضا عن الحياة وتعزيز المشاركة وتقديم إسهامات إيجابية في العمل والمجتمع.

التحدي الذي تواجهه المؤسسات اليوم هو كيفية إدارة مكان عمل يشجِّع على المصداقية، وبصفتك قائداً، ماذا تفعل عندما يطرح الجميع وجهات نظر متنوعة؟ يجب عليك إدارة وجهات النظر هذه إدارةً تسمح للمؤسسة بأن تكون فعَّالة وتزدهر، وسوف يتطلَّب الأمر شجاعة أكثر من أي وقت مضى.

سيستفيد هؤلاء القادة المستعدون لتولِّي هذا الأمر من المزيد من المحادثات الهادفة والتعلم في المنظمة، وسيشعر الموظفون بالثقة والمشاركة؛ وذلك لأنَّهم يعبِّرون عن ذواتهم الحقيقية في مكان العمل.

يبدأ الأمر بالمجازفة لخوض تلك المخاطر، وفقاً لمستوى راحتك، واتخاذ المزيد من الخطوات للوصول إلى حدود مصداقيتك؛ حيث يمكنك أنت ومَن حولك تجربة فوائدها؛ لذا تذكَّر، المصداقية هي رحلة، ولا يمكن لأحد أن يخبرك إلى أين يجب أن تقودك؛ وبالنسبة إلى بعض الأشخاص، قد تكون المصداقية هي أكثر أمر شجاع قمت به على الإطلاق.

المصدر




مقالات مرتبطة