كيف تعيد اكتشاف المتعة في العمل؟

قالت "سوزان" في أول جلسة تدريبية لنا: "أريد فقط أن أشعر بالسعادة في العمل مرة أخرى؛ حيث اعتدتُ أن أكون نشيطة إلى حد ما، ويعجبني عملي، لكنَّني الآن في نهاية عطلة الأسبوع أشعر بالضيق والقلق من أيام الدوام المقبلة".



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الطبيبة النفسية "ريبيكا نيوتن" (Rebecca Newton)، والذي تُحدِّثنا فيه عن تجربتها في محاولة إعادة الشعور بالمتعة في العمل مع زبائنها.

"سوزان" ليست الوحيدة التي تشعر بذلك؛ حيث يخبرني زبائني من مختلف المواقع والصناعات والأدوار، والمحترفين الذين أحبُّوا مهنتهم دائماً أنَّهم يريدون فقط الشعور بالسعادة في العمل مرة أخرى، وهذه ليست مجرد حاجة تافهة؛ حيث أظهرت الأبحاث أنَّ الفرح هو استجابة عاطفية ونظرة مستقبلية ضرورية لعافيتنا ووظيفتنا المعرفية وأدائنا في العمل، ولإعادة هذه الإيجابية إلى حياتك، من المفيد أن تفهم سبب اختفائها.

والإجابة الواضحة هي "الجائحة"، لكنَّ الأمر يستحق إلقاء نظرة عميقة على ما هو خطأ على وجه التحديد، وبصفتي طبيبة نفسية تدرِّس كيفية ازدهار حياة المهنيين الطموحين في المنظمات، فقد لاحظتُ بعص الأسباب الجذرية لهذا الشعور بالضيق الحالي.

أولها، لقد أنهكنا التوتر والحزن المستمر، وحتى في المنظمات التي نجحت في تجاوز الجائحة، أدَّت التغييرات الضرورية إلى زيادة الضغط، فلقد واجهنا حالة من عدم اليقين المستمر واتبعنا سياسة الصمود لمواجهة ذلك، وعلى الرغم من أنَّنا عانينا جميعاً من الجائحة بشكل مختلف، فقد تأثَّرنا جميعاً بالخسائر والحزن.

لقد عانى الكثير منا أيضاً من الشعور بالخداع في بعض الأحيان؛ وذلك لأنَّنا كنا بحاجة إلى الظهور وكأنَّنا بخير حتى عندما لا نكون كذلك، وهذا صحيح خاصةً للقادة الذين شجعوا أنفسهم مدركين أنَّ شعبهم يعتمد عليهم.

يمكن للفصل المستمر بين مشاعرنا الحقيقية والسلوكات التي نُظهرها للآخرين أن يؤثر سلباً في صحتنا النفسية، فلم نكن أيضاً قادرين دائماً على الاستفادة من نقاط قوَّتنا، فلقد تعرضنا لضغوطات للقيام بما يجب القيام به والاستمرار فيه بأكبر قدر ممكن من الكفاءة، ولقد فصلنا هذا عن البهجة التي وجدناها بشكل طبيعي في دعواتنا.

وتشير الأبحاث إلى أنَّ العزلة الاجتماعية قد تساهم في ضعف الأداء المعرفي والأداء التنفيذي، بما في ذلك انخفاض المرونة المعرفية والقدرة على الابتكار، ويمكن أن يزيد ذلك من السلبية، ويجعلك تشعر بالسوء حيال أدائك وقدرتك المنخفضة وبدء دوامة سلبية قد تمنعك من المتعة التي شعرتَ بها ذات مرة عند القيام بالعمل نفسه.

الجائحة وآثارها مستمرة، وقد يبدو أنَّ المتعة في العمل غير ممكنة عندما نشعر بالألم أو التحدي، فلماذا نتكبَّد عناء إعادة المتعة إلى عملنا الآن؟ لكنَّ الشيء الغريب في المتعة، كما يقول علماء النفس، هو أنَّه لا يتطلب غياب المعاناة، وفي الواقع، قد تكون المعاناة طريقاً نسلكه لتحقيق الإنجاز؛ إذ يُمكِّننا ذلك من ملاحظة الأشياء الهامة في الظروف الصعبة.

إذاً كيف نبدأ باستعادة سعادتنا؟ لا يتعلق الأمر بالسعي إلى تحقيق الكمال، وبدلاً من ذلك، يخبرنا البحث، وعملي مع العملاء كطبيبة نفسية وكوتش، أنَّ السعادة تكمن في الاستفادة من نقاط قوَّتنا، والتحلي بالشجاعة والمصداقية والامتنان والتواصل، وفيما يأتي أربع طرائق أوصي بها لاستعادة سعادتك في العمل بدءاً من الآن:

1. الاستفادة من نقاط القوة:

يفترض بعض علماء النفس الإيجابي أنَّ قوَّتنا يمكن أن تكون محفزات لتنمية المتعة، ونقاط القوة هذه هي المنشطات الطبيعية، ويمكن أن يمنحك استخدامها في يوم عملك دعماً كبيراً، فالخطوة الأولى هي تحديد ما هي هذه النقاط بالنسبة إليك، وما يُنشِّط شخصاً ما يختلف عما يُنشِّط الآخر، فاسأل نفسك: "ما هي الأوقات التي شعرتُ فيها مؤخراً بالنشاط في العمل؟ وفي هذه المواقف، ماذا كنتُ أفعل؟".

بعد أن تحدد نقاط قوَّتك بوضوح، فكر في كيفية الاستفادة منها في يومك، فعلى سبيل المثال: قد تكون متحمساً لابتكار أفكار جديدة، إذاً كيف يمكنك خلق المزيد من الفرص لذلك؟ أو قد تشعر بالنشاط عندما تكون قادراً على التعمق في التفاصيل وإنجاز بعض المشاريع الهامة، فكيف يمكنك تخصيص وقت في برنامجك لا يقاطعك أحد فيه؟ حتى نصف ساعة من توظيف نقاط قوَّتك والاستفادة منها يمكن أن تُحدث فارقاً لبقية اليوم.

أدركَت إحدى عميلاتي، على سبيل المثال، أنَّ التفكير الاستراتيجي كان أحد نقاط قوَّتها الأساسية: فهي تحب التفكير في المستقبل والفرص طويلة الأمد، ولكن مع استمرار انتشار الجائحة، كانت قلقة من أنَّ الضغوطات اليومية لن تترك مساحة صغيرة لهذا النوع من التفكير، وشعرَت أنَّها تتعامل مع مهام صغيرة ومُلِحَّة فقط؛ لذا خصَّصت ساعتين للتخطيط الاستراتيجي في برنامجها الأسبوعي تقضي بعضها وحدها وبعضها الآخر مع فريقها.

وفقط هذه الساعات القليلة كانت السبب في استعادة نشاطها؛ حيث أبلغت عن زيادة في المتعة في العمل ليس فقط في جلسات التخطيط الاستراتيجي هذه ولكن عموماً خلال أسبوعها.

إقرأ أيضاً: اعتماد منظور جديد للتطوير المهني

2. التركيز على النمو المهني:

بعد موسم من بذل الكثير من جهدك للدفاع عن عملك ودعم الآخرين، فمن المحتمل أنَّ تطوُّرك الشخصي قد تراجع، ولكن أحد أفضل الأشياء التي يمكنك القيام بها لقيادة الآخرين قيادة جيدة هو قضاء الوقت في تطوير نفسك.

يُظهر البحث الإثنوغرافي عن كيفية تعلُّم الأطفال أنَّ متعة التعلم تنجم عن الجهد المبذول، من العمل المستمر في أثناء الصعوبات التي تؤدي إلى النجاح في تحقيق أهداف ذات مغزى، فلقد رأيتُ التأثير نفسه في البالغين الذين أعمل معهم: العمل الجاد نحو أهداف هامة، والتغلب بشجاعة على العوائق يمكن أن يلبي حاجتك في التعلم ضمن مجال عملك وتجديد شغفك بالوظيفة.

عندما أسأل عملائي عن اللحظات التي يشعرون فيها بالبهجة في عملهم، يخبرونني عن مجموعة من خبرات التعلم، من الدورات التدريبية القصيرة والمكثفة عبر الإنترنت إلى تحسين المهارات التقنية، أو كونهم جزءاً من مجموعات التطوير الإداري التي تشارك التحديات والأفكار، أو دورات القيادة الافتراضية لمدة ثلاثة أشهر والتي تتطلب عملاً جاداً على طريق تحقيق أهداف قيادية هادفة.

3. مشاركة معاناتك مع الآخرين:

تشير الأبحاث إلى أنَّ المصداقية جزء لا يتجزأ من الصحة النفسية، ولكنَّ العيش بشكل صادق لا يقتصر على فهم نفسك فحسب؛ بل يتطلب أيضاً أن تكون في بيئة تشعر فيها بالقدرة على مشاركة ما تفكر فيه وتشعر فيه بأمان، وبالنسبة إلى العديد من الأشخاص، لم يكن مكان العمل يشجع على ذلك في أثناء الجائحة؛ حيث تمَّت دعوتنا مرات عدة لنكون أكثر مرونة مما قد نشعر به حقاً.

حدد عدداً قليلاً من الأشخاص الذين تثق بهم في مكان العمل لمشاركتهم معاناتك لاستعادة بعض من هذا الشعور بالمصداقية، وفكر فيما حدث وكيف عايشتَ العام الماضي، واكشف ما كان يمثِّل تحدياً وأيضاً ما كنتَ ممتناً له - تشير بعض الأدلة إلى أنَّ الامتنان والفرح يرتبطان ببعضهما ويؤدي أحدهما إلى الآخر - وشارك تطلعاتك وآمالك للعام المقبل، مع الإشارة لِما سيساعدك على الاقتراب من تحقيق أهداف ذات مغزى.

كان أحد عملاء الكوتشينغ متردداً في الانفتاح على زملائه ليخبرهم أنَّه يعاني، ولكنَّه وجد الآن الأشخاص المناسبين للتفكير في العام الماضي معهم وطلب دعمهم وهو يمضي قدماً، ولقد ذكر في جلسات التدريب اللاحقة أنَّه يشعر بالمزيد من السعادة مرة أخرى في العمل، كما أنَّه يشعر بأنَّه يقود بشكل أكثر فاعلية ويتلقَّى ردود فعل إيجابية من الآخرين.

إقرأ أيضاً: كيف نشجع على التعاطف مع الآخرين في مكان العمل؟

4. إعادة بناء العلاقات من خلال العمل:

الفرح ليس مجرد ظاهرة فردية؛ حيث إنَّه أيضاً ما يسميه علماء النفس "الانتماء"؛ مما يعني أنَّ الأمر يتعلق بتقوية روابطنا مع الآخرين من خلال السلوكات الإيجابية، مثل أن نكون طيبين وودودين أو نصنع السلام دائماً، وحتى بعض علماء النفس يصورون السعادة على أنَّها استجابتنا لوجودنا في موقف نشعر أنَّه سيقرِّبنا من الأشخاص الهامين بالنسبة إلينا.

لمكافحة العزلة، عندما نعود إلى المكتب، ابحث عن طرائق للمشاركة في تعاون هادف، وجرَّب "المشي والتحدث" مع الزملاء لفهم ما هو الأكثر أهمية بالنسبة إليهم، والفرص والتحديات الكبيرة بالإضافة إلى التحديات الخاصة بك، والمجالات ذات الاهتمام المشترك والقيمة؛ حيث يؤدي هذا التواصل إلى تعزيز إحساسك بالطاقة، ويؤدي أيضاً إلى تحسين نتائج الفريق، فالثقة المبنية من خلال هذا التواصل تعزز ثقافة تعاونية تعزز بدورها إبداع الفريق.

الكوتشينغ هو طريقة أخرى للتواصل الهادف مع الآخرين؛ حيث يقترح الباحثون أنّ متلقِّي الكوتشينغ والكوتش نفسه قد يواجهون تغيرات نفسية؛ فيزيولوجية إيجابية من الكوتشينغ القائم على التعاطف، وقد تخفف هذه التغييرات من الآثار النفسية والفيزيولوجية الناجمة عن ضغوطات الطاقة المزمنة التي يعاني منها القادة.

أخبرَتني إحدى عميلاتي أنَّها شاركَت في العام الماضي في مهام الفريق، لكنَّها على الرغم من ذلك شعرَت بالعزلة المتزايدة عن زملائها في العمل، وبناءً على عملنا معاً، بدأَت في جولات أسبوعية مع زملاء مختلفين، واختارت تخصيص وقت لتقديم الكوتشينغ لأحد أعضاء الفريق كل أسبوع، وسعَت إلى لقاء منتور في الشركة تتبادل معه الحديث عن آخر المستجدات الشهرية، ومنذ ذلك الحين، أبلغَت عن شعورها بنشاط أكبر في العمل عموماً.

كانت الجائحة صعبة بالنسبة إلى معظم الناس، على الصعيدين الشخصي والمهني، وفي بعض الأحيان، تكون المتعة بعيدة المنال والأسباب واضحة، ومع استمرار ظهور العواقب الاقتصادية والتجارية والمجتمعية والشخصية للجائحة، قد تساعدنا الممارسات البسيطة مثل هذه على الشعور بالسعادة والسعي وراءها في موسم العمل المقبل أياً كان ما يخبئه لنا.

المصدر




مقالات مرتبطة