كيف تحافظ على الثقافة التنظيمية في ظل نموذج العمل الهجين؟

نتيجة الوقت الطويل الذي يقضيه الناس في العمل من المنزل، اعتاد الكثير منهم على المرونة والرضا عن طبيعة الحياة المهنية التي يوفرها هذا النمط.



والجيد في الموضوع أنَّ كلاً من الموظفين والشركات الآخذين في النمو، يأملون بتطبيق طرائق عمل أكثر مرونة؛ ولكنَّ السؤال الذي يطرح نفسه، هو كيف يمكن للقادة والشركات تنمية ثقافة تنظيمية بناءة عندما لا يعمل الموظفون ضمن المؤسسة معاً.

الثقافة التنظيمية أساسية لنجاح الشركة، ويوضح البحث الكلاسيكي الذي أجراه جون كوتر (John Kotter) - الأستاذ في إدارة الأعمال في جامعة هارفارد (Harvard) - أنَّه عندما تكون الثقافات أكثر فاعلية، تعود بالفائدة على المؤسسات في نمو الإيرادات والاحتفاظ بالموظفين وسعر الأسهم وصافي الدخل. ويوضح البحث الإضافي الذي أجراه دان دينيسون (Dan Denison) - أستاذ التنظيم والإدارة في المعهد الدولي للتنمية الإدارية في سويسرا (IMD Business School) - وجود ارتباطات إيجابية مع العائد على الاستثمار والعائد على المبيعات.

تعرضت الثقافة التنظيمية لانتكاسة منذ جائحة كورونا (COVID-19)، وزاد قادة الأعمال من تركيزهم على الثقافة التنظيمية واهتماماتهم بها، والتي يبدو أنَّها تدهورت، نتيجة ابتعاد الموظفين عن شركاتهم. فكيف لك أن تطبق ثقافتك التنظيمية إن كنت بعيداً عن الشركة؟

وفقاً لدراسة أجرتها جمعية إدارة الموارد البشرية (Society for Human Resource Management)، تبيَّن أنَّ ثلثي أرباب الأعمال، يواجهون مشقة في الحفاظ على معنويات الموظفين، ويواجه أكثر من ثلثهم تحديات في الحفاظ على الثقافة التنظيمية. ليس فقط قادة الأعمال هم من يعانون، فوفقاً لبحث أجرته شركة الأثاث المكتبي ستيل كيس (Steelcase)، يرغب الأشخاص في العودة إلى العمل ضمن شركاتهم، لأنَّهم يرغبون بالتلاحم مع هدف الشركة والشعور بالمجتمع ودعم إنتاجيتهم.

شاهد بالفيديو: الطريقة الصحيحة لإبقاء فريق العمل عن بعد على قدر عال من المسؤولية

مستقبل الأعمال ذات النموذج الهجين:

وجدت الدراسة التي أجرتها جمعية إدارة الموارد البشرية (Society for Human Resource Management) أيضاً أنَّ 87% من قادة الأعمال، يتوقعون وجود مزيد من المرونة في العمل. إضافة إلى ذلك، بينما يتوقع 23% أن يعملوا ضمن الشركة بصورة أساسية، يتوقع 72% منهم نموذجاً هجيناً للعمل.

كما يرغب الموظفون في مواصلة إنجاز بعض مهام العمل عن بُعد، بحيث يأمل 54% منهم أن يعملوا من المنزل يوماً واحداً في الأسبوع أو أقل، ويأمل 26% أن يعملوا من المنزل يومين إلى ثلاثة أيام في الأسبوع. أظهرت دراسة حديثة أجرتها جامعة شيكاغو (The University of Chicago) أنَّه سيتاح للموظفين العمل ليوم من المنزل بمجرد استئنافهم العمل.

يعني هذا أنَّه سوف يتحتَّم على القادة إرساء ثقافة تنظيمية وتعزيزها ورعايتها، عندما يعمل الموظفون في كل من الشركة والمنزل. سوف تصبح المسؤولية المعقدة والحساسة لإرساء ثقافات بناءة أكثر تعقيداً، بسبب عمل الناس في كل من منازلهم وشركاتهم؛ لكنَّ الناس قادرون على التكيف، والشركات مرنة، وستستمر الثقافات التنظيمية عند التركيز على ما يهم. 

إقرأ أيضاً: هل العمل عن بعد هو طريق النجاح في المستقبل؟

إيجاد ثقافة مناسبة للعاملين من المنزل والشركة:

القرب هو أحد أهم العناصر التي تحدد العلاقة، والأشخاص الذين نراهم ونتفاعل معهم كثيراً هم الأشخاص الذين نميل إلى الاقتراب منهم، لأنَّنا نختبر تقلباتهم، ونعلم ما يجري في حياتهم، ويمكننا فَهم وجهات نظرهم. تؤدي جميع هذه الأمور إلى بناء التعاطف والترابط. ومع ذلك، فإنَّ الإدراك هو أساس القرب، فأشد أنواع القرب فاعلية هو القرب الحقيقي، أي رؤية الأشخاص والتحدث إليهم وجهاً لوجه. ولكن يمكن أيضاً إدراكه، كالشعور بالتقارب حتى عندما لا نرى بعضنا بعضاً باستمرار، ويمكن تعزيزه عن طريق التواصل الافتراضي.

تتعلق الاستراتيجيات أدناه أساساً بإيجاد تقارب حقيقي ومتصوَّر. وستكون الفاعلية مدفوعة بالأشخاص الذين يشعرون بأنَّهم قريبون ومتواصلون ومتفاعلون مع نجاح بعضهم بعضاً ونجاح المؤسسة:

1. الهدف المشترك:

كان الهدف دائماً هو مفتاح الأداء التنظيمي، ولكن مع العمل الهجين سيكون بالغ الأهمية. عندما يكون الأشخاص في المكتب، يمكنهم الشعور بطاقة التواجد معاً وتجربة الالتحام بالهدف المشترك، من خلال الالتقاء بالزملاء والدردشة حول استراتيجية العمل أو العملاء أو المستجدات في الشركة. وعندما ينفصل زملاء العمل عن بعضهم بعضاً، قد يستمر هذا الانفصال افتراضياً أيضاً؛ ولكنَّه سوف يتراجع بصورة كبيرة. 

يجب على القادة التأكيد على توضيح الهدف، ومناقشة الصورة الشاملة للأهداف العامة، والتأكد من إحساس الموظفين بأنَّ عملهم مرتبط بصورة فريدة وضرورية لنجاح المؤسسة. سيكون على المديرين أيضاً ضمان تلاحم الموظفين بالفائدة المشتركة، وليس فقط كيفية ارتباط عمل أحد أعضاء الفريق بالنتائج الإجمالية، إنَّما في أهمية عمل الفريق ككل. يجب على الفِرق إدراك كيف يتصل عملهم ويتقاطع، ويجب تذكيرهم دائماً بالاعتماد المتبادل، لكونه سيكون أقل وضوحاً إذا لم يعمل الموظفون ضمن مكاتب الشركة معاً.

2. المساءلة:

يمكن للقادة الذين يريدون أن يستشعروا احتياجات الموظفين، أو الصعوبات التي يواجهونها أن يولوا عناية أكبر لتوفير حيز لهم لحل القضايا. صحيح أنَّ الموظفين بحاجة إلى التعاطف والتفاهم؛ إلا أنَّ عليهم أن يكونوا مسؤولين عن النتائج. المساءلة هي المفتاح لثقافة فعالة، لأنَّها تذكِّر الناس بأهمية عملهم وبمدى أهمية الشركة والفريق. فإذا كان الهدف هو إعطاء صورة شاملة عن الأمور الهامة، فإنَّ المساءلة هي الآلية التي تضع العمل في حيز التنفيذ. يجب أن تضمن ثقافات نموذج العمل الهجين الفعال، الأداء لمصلحة الأفراد والفِرق وكذلك المؤسسة ككل.

3. العدالة:

يرتبط موضوع العدالة ارتباطاً وثيقاً بالمساءلة، فإن لم يكن لدى الناس حسٌّ بالإنصاف والعدالة، فسوف يفقدون الحافز بسهولة. تُعدُّ هذه الاستراتيجية هامةً أيضاً وخاصة عند تبنِّي نموذج عمل هجين. وعندما لا يعمل الموظفون ضمن الشركات، فقد لا تتاح لهم فرص كثيرة للتعرف على عمل الشركة، والاطلاع على جميع الأسباب التي تخولهم للحصول على المكافآت أو تعرِّضهم للمساءلة.

قد يتطلب بناء ثقافة تنظيمية في نموذج عمل هجين، مزيداً من التواصل حول كيفية تحقيق العمل عوائدَ عادلة ومتساوية. سيكون من المهم أيضاً التأكد من أنَّك لا تُنشِئ بيئة يحصل فيها بعض الموظفين على مزايا أكثر من غيرهم، فمثلاً: إذا عمل بعض أعضاء الفريق ساعات أكثر من غيرهم، فاحرص على ألا يظنَّ أقرانهم أنَّك تفضلهم، أو إنْ عمل بعض الموظفين عن بعد لفترات أطول، فاحرص على ألا يعتقد أقرانهم بأنَّك منحتهم ميزات تكنولوجية أكثر، لتساعدهم على التواصل.

يجب عليك أيضاً الانتباه إلى العبارات التي تستخدمها، ففي حين أنَّ "العمل عن بُعد" قد يكون وصفاً دقيقاً للمكان الذي يعمل فيه شخص ما، فيجب ألا توسم أعضاء الفريق العاملين عن بُعد بهذا الوصف، أو تقول أنَّ الفريق ليس متحداً. حاول أن تكون مراعياً للغير وشاملاً، خاصة حول كيفية الإشارة إلى أعضاء الفريق ومعاملتهم.

4. الصراع:

حتى الثقافات التنظيمية الناجحة لا تخلو من الصراع، ففي نهاية المطاف، سينظر الأشخاص إلى الأمور بصورة مختلفة دائماً، لذا من المهم إتاحة الفرصة لطرح  وجهات النظر المختلفة ومناقشتها؛ ومع ذلك، تدير الثقافات الفعالة الصراع ببراعة.

نتيجة للبعد الحاصل بين الموظفين الآن، تواجه الثقافات خطر أن يصبح الصراع بنَّاءً بصورة أقل. فقد تُطوى القضايا، لأنَّ الناس يختارون تجنُّبها، مما يؤدي إلى مشكلات أكبر على الأمد البعيد، أو قد تُضخَّم القضايا بصورة مبالغ فيها، نتيجة لوضع الأشخاص افتراضاتٍ من دون الاستناد إلى معلومات كافية، وذلك نتيجة لبعدهم عن بعضهم بعضاً.

من خلال تطبيق نموذج العمل الهجين، سوف يتحتَّم على القادة وأعضاء الفريق أن يكونوا منسجمين مع الاختلافات المحتملة، وأن يعززوا الحاجة إلى الخلاف الصحي، وهو أمر حضاري وجدير بالاحترام، ويمكنه دفع التفكير قدماً. يُعدُّ وضع ضوابط للخلاف وإفساح المجال للاختلاف في الرأي قاعدة جيدة للبدء.

إقرأ أيضاً: 11 نصيحة حول كيفية حل أي خلاف يحدث في مكان العمل

5. الإتاحة وسهولة الوصول:

أحد أهم عناصر القيادة الفعالة هو أنَّه عندما يُنظر إلى القادة على أنَّهم حاضرون ويمكن الوصول إليهم، يصعب تحقيق ذلك افتراضياً، ولكنَّه أكثر أهمية في نموذج العمل الهجين. ويُعدُّ التواجد أيضاً أمراً أساسياً، سواء من حيث ظهور القادة أم من حيث كيفية الحفاظ على إدارة أعضاء الفريق.

يعترف القادة بخجل أنَّهم عندما لا يرون الموظفين، ينسون أمرهم، بل ويفقدون الاهتمام بهم أيضاً! اعترفت إحدى القائدات بأنَّها كانت تواجه مثل هذه المشكلة في تذكُّر الموظفين، لذا أعدَّت قائمة بأعضاء الفريق الذين احتفظت بأسمائهم على حاسوبها، وكانت تذكِّر نفسها باستمرار بالاجتماع بكل واحد منهم، وفي النتيجة لم تغفل بدون قصد عن الموظفين الذين لم ترهم في الشركة.

العبرة هنا هي الحرص دائماً على إتاحة نفسك لموظفيك، والاطمئنان على أعضاء الفريق بانتظام، وتشجيعهم على بناء علاقات وثيقة مع بعضهم بعضاً، من خلال إشراكهم معاً في المهام وإيكال مهمة القيام بمشروعات تعاونية إليهم.

6. الشفافية:

الحاجة إلى الكثير من التواصل الصريح والشفافية، هما أمران يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالتواجد وإمكانية الوصول. فعندما لا يعمل الموظفون ضمن الشركة، فلن تتاح لهم الفرص لاستيعاب ما يحدث عن طريق الإصغاء إلى محادثات الزملاء في الردهة، أو الالتقاء بهم في استراحة العمل. يجب أن تحرص بصفتك قائداً على إبقاء مرؤوسيك على اطلاع، والمشاركة الدائمة والتأكد من أنَّ أعضاء فريقك على دراية بأكبر قدر ممكن من الأمور السلبية والسيئة الحاصلة، فهذه الصراحة عنصر أساسي للثقة، وأمر جوهري في الثقافات البنَّاءة.

7. رصيد العلاقات الاجتماعية:

كان رصيد العلاقات الاجتماعية أحد الأمور التي أضرت بها الجائحة، ويواجه الموظفون صعوبة في بنائه عندما يكونون جدداً في شركة أو منصب ما، ويواجهون صعوبة في الحفاظ عليه عندما لا يقابلون زملاءَهم شخصياً. تتمتع الثقافات التنظيمية القوية أيضاً بشبكة معقدة من رصيد العلاقات الاجتماعية، والتي تضم الأشخاص العاملين في المؤسسة وتساعدهم، كونها تغذي العلاقات المفعمة بالعاطفة والأفكار الجديدة والنصائح، حول كيفية إنجاز المهام داخل المؤسسة.

يُعدُّ رصيد العلاقات الاجتماعية مفيداً أيضاً للشركات، لأنَّه من خلال إعطاء معلومات للموظفين، والتماس آرائهم، وتقديم المشورة لهم، فستتحسن عملية صنع القرار والكفاءة والفاعلية. وللحفاظ على ثقافات تنظيمية إيجابية في نموذج العمل الهجين، يجب على القادة أن يحرصوا على تشجيع الموظفين على بناء شبكاتهم الاجتماعية.

ويمكنهم القيام بذلك عن طريق إنشاء روابط اجتماعية ضمن الأقسام، وتوفير فرص التعلم متعدد الوظائف، وإيجاد الوقت للأشخاص للقاءات الافتراضية، أو إنشاء شبكات المناقشات مع الزملاء في جميع أنحاء الشركة.

8. المكان:

يُعدُّ التواصل وجهاً لوجه أكثر فائدة، ويوفر مكان العمل تأثيرات إيجابية لا حصر لها بدءاً بالإنتاجية والابتكار، ووصولاً إلى الانتماء والنمو الوظيفي. وبما أنَّ نموذج العمل الهجين سيستمر على الأرجح، يمكن للقادة أيضاً بناء ثقافات تنظيمية فعالة، وذلك من خلال تشييد أماكن يرغب الموظفون بالتواجد ضمنها، وهذا يعني التأثير على الشركات التي تساعد الأشخاص على تقديم أفضل ما لديهم، من خلال إيجاد مجال للتعاون والتركيز والتعلم والتواصل الاجتماعي وتجديد النشاط.

وكذلك المطالبة بإحداث مكاتب مجهزة بوسائل الراحة، ومنح الموظفين إحساساً بالسيطرة على بعض ما يحيط بهم، بالإضافة إلى التحفيز والإلهام. من الحكمة أيضاً أن يضع القادة ضوابط وأنماط عمل، لكي يتمكن أعضاء الفريق من التواصل بكفاءة أكبر.

إنَّ تحديد ساعات العمل الأساسية - الأوقات الأساسية عندما يكون الجميع في الشركة معاً - أو تنفيذ العمليات، حيث يمكن للأشخاص تبادل معلومات التنظيم لتحسين نوعية الأوقات التي يقضونها في المكتب معاً، هي أمثلة يمكنها مساعدة الفريق على الازدهار. فعندما يعمل الموظفون ضمن الشركة معاً، سوف تتأثر الثقافة التنظيمية تأثراً إيجابياً.

الخلاصة:

إنَّ الرغبة والجهد اللازمَين للحفاظ على الثقافة التنظيمية، هما أهم أمرين يجب إدراكهما في نموذج العمل الهجين. لن يحدث أيُّ شيء آلياً، وسيكون من المستحيل تقريباً إيجاد ثقافة إيجابية بصورة أساسية. لطالما مثَّلت الثقافة تحدياً لتعزيزها واستدامتها، ولكن مع نموذج العمل الهجين، سوف يزداد مستوى الصعوبة عدة مرات. صحيح أنَّ الأمر لن يكون سهلاً، لكنَّه يستحق العناء.

المصدر




مقالات مرتبطة