تأملي لحظة: كم مرةً شعرتِ أنّ عقلك يعمل 24 ساعة بلا توقف؟ هذا هو الحمل الذهبي غير المرئي الذي يقع على عاتق النساء عامةً وعلى عاتق الأمهات خاصةً.
لم تعودي بحاجة لحمل كل شيء وحدك، فالمرأة قادرة على توزيع مهامها والتخلص من هذا العبء لتتمتع بعقل أخف وحياة أكثر توازناً.
الوهم الذي يهمس: أنا المديرة التنفيذية للبيت، ويجب أن أحمل كل شيء في عقلي
يقول الكاتب والمدرب الأمريكي "ديفيد آلان": "عقلك مصمم للحصول على الأفكار، لا للاحتفاظ بها".
إنّها ليست مجرد فكرة عابرة بل هي اعتقاد راسخ يحمّلك عبئاً غير مرئي عبء ثقيل لا يظهر في يديكِ، لكنّه يستهلك طاقتك، ويضعف تركيزك، ويترككِ متعبةً حتى وأنتِ جالسة بلا حركة، وحتى مع وجود مساعدة منزلية، تبقين أنتِ المديرة التنفيذية للمنزل؛ أنت من يخطط لإعداد الطعام، ويتخذ القرارات المتعلقة بالمنزل، ويراقب الأطفال والمساعدة. وفي حال حدوث أي تقصير، فأنتِ المسؤولة. قد تبدو هذه المهام صغيرة ومنفصلة، ولكنّها تتجمع حتى تصبح حقيبةً ممتلئةً بالهموم لا تفارقكِ أبداً خلال حضورك في المنزل أو العمل.
اسألي نفسك: هل تديرين بيتكِ أم أنّ بيتكِ هو من يديرك؟ هذه الحقيبة الخفية تثقل كاهل الملايين من النساء حول العالم، بغض النظر عن ثقافتهنّ أو عملهنّ أو موقعهنّ الجغرافي.
مشهد من الخليج
أمل، موظفة في إحدى الوزارات وأم لطفلين، تصف تجربتها قائلةً: "أعود من الدوام وجسمي مرتاح، لكنّ عقلي يشتعل. أنظم وجبات الأسبوع مع المساعدة، وأتابع واجبات طفليّ وممارستهما للهوايات والنشاطات الترفيهية، وأفكر في تجهيزات مناسبة آخر الأسبوع من اختيار الهدايا المميزة إلى إعداد وإرسال بطاقات دعوة وتحضير قائمة طعام مميزة. وعلى الرغم من اهتمامي بالتفاصيل كافةً، أشعر أنّي دائماً متأخرة عن شيء وقد أنسى شيئاً".
هل تشبه تجربتها يومكِ أنتِ أيضاً؟
هذه ليست مشكلتك وحدكِ، فقد أظهرت دراسة أجرتها جامعة جنوب كاليفورنيا (USC) أنّ الأعباء المعرفية للمنزل والتي تُعرف باسم "الحمل الذهبي" تقع على عاتق النساء وتحديداً الأمهات، كما وأوضحت أنّ هذا الحمل غير المتوازن له تأثير عميق في الصحة النفسية للأمهات ويزيد من التوتر وضعف الرضا الزوجي.
كما أظهرت دراسة أخرى أجرتها جامعة باث وجامعة ملبورن ونشرت في مجلة (Journal of Marriage & Family) أنّ الأمهات يحملن 71% من مهام "الحمل الذهبي" المنزلية التي تتطلب جهداً ذهنية، وأنّ الأمهات يتحملن 79% من المهام اليومية، مثل التنظيف ورعاية الأطفال مقارنةً بـ 37% للآباء. بينما يركز الآباء أكثر على المهام الواسعة كإصلاحات المنزل والشؤون المالية.
تخيلي… لو وزّع هذا الحمل بذكاء، كم سيتحرر عقلك ويصبح أكثر صفاءً؟
تتحمل النساء، على اختلاف الظروف التي يعشن ضمنها، الجزء الأكبر من الحمل الذهبي الأسري حتى مع وجود مساعدات، مما يزيد التوتر في حياتهن.
شاهد بالفيديو: 4 واجبات على الزوج أن يقوم بها تجاه زوجته
الحمل الذهني يمكن توزيعه بذكاء
يقول "ديفيد آلن": "أنتِ قادرة على فعل أي شيء، لكنكِ لستِ قادرة على فعل كل شيء".
هذا هو المفتاح الحقيقي للتحرر، فالمديرة الحقيقية لا تعمل كل شيء بنفسها، بل تبني منظومة ذكية لتوزيع المهام، هي ليست من تنجز كل التفاصيل إنما من تنشئ نظاماً يعتمد على: التفويض الواضح + الأدوات الصحيحة + الخطط البديلة، والنتيجة: عقل خفيف يطير بدلاً من عقل مثقل يزحف.
تخيلي أنّ عقلكِ أصبح فضاءً واسعاً للإبداع والتخطيط للمستقبل بدلاً من أن يكون سجناً مليئاً بالمهام اليومية التي لا تنتهي، هذه الفكرة ليست حلماً مستحيلاً بل هي واقع تعيشه نساءٌ كثيرات حول العالم تعلّمن كيف يطبّقن هذا المعتقد. ففي فرنسا، مثلاً، أحدث كتاب "اللعب النظيف" (Fair Play)، لكاتبته "إيفلين موريس مانويل" ضجةً كبيرة؛ إذ أثبت أنّ توزيع المهام بعدل وذكاء يقلل من التوتر ويزيد من الرضا الزوجي، وهذا النموذج ليس مجرد نظرية إنما هو نهج عملي يعتمد على إخراج الأعباء الذهنية من رأسكِ وتحويلها إلى مهام واضحة ومسؤوليات محددة.
يتجاوز هذا الأمر مجرد طلب المساعدة، فهو بناء هيكل واضح للمنزل، ففي ألمانيا تستخدم جداول (RACI) (مسؤول – محاسب – مستشار – مطلع) في الشركات الكبرى لتوزيع المسؤوليات بوضوح، فلماذا لا نستخدمها في منازلنا؟ يعلمنا هذا المفهوم كيف نحدد بوضوح من هو المسؤول عن المهمة ومن يراجعها ومن يُستشار فيها، وهو نظام يساعد على تقليل الالتباسات والخلافات تقليلاً كبيراً ويساعدك على تحرير عقلكِ من مهمة التذكير والمتابعة المستمرة.
وفي الدنمارك، التي تُعرف بنظامها الاجتماعي المتقدم، أصبح معيار "الخدمة المقبولة" هو أساس التعامل بين الأفراد فبدلاً من السعي للكمال يتفق الأزواج على مستوى واقعي من النظافة أو التنظيم، مما يخفف الخلافات ويمنحهم مساحة أكبر للراحة والاستمتاع بالحياة، وكما قال الفيلسوف الصيني "لاو تزو": "المهمة التي لم تبدأ هي الأثقل".
تذكري أنّكِ تستحقين أن تعيشي حياتكِ بوعي وحرية، لا أن تكوني أسيرة لقائمة مهام لا تنتهي.
"تبني المعتقد الإيجابي هو قمة الذكاء والإدارة الحقيقية، يتيح لك السيطرة على حياتك وتحويل طاقتكِ الذهنية من القلق إلى الإنتاج والإبداع".
مفاتيح لتخفيف الحمل
الآن، بعد أن أدركتِ أنّ الحل يكمن في توزيع المهام بذكاء، حان الوقت لنتعلم كيف يتم ذلك، ليس باستخدام أدوات سحرية بل بالاعتماد على خطوات عملية تمنحكِ السيطرة على حياتك من جديد، كما تقول الكاتبة جنيفر بلس: "لا يمكننا السيطرة على الرياح، لكن يمكننا تعديل الشراع".
1. مبدأ مالكة المهمة
بدل أن تقولي: "ساعديني بالوجبات"، قولي: "أنتِ مسؤولة كاملة عن غداء المدرسة هذا الأسبوع"، فبهذه الطريقة ينتقل العبء من رأسكِ إلى شخص آخر بوضوح، ويكون لديه الصلاحية الكاملة في اتخاذ القرار، لذلك اجلسي مع زوجك وناقِشا من هو الأنسب ليكون مالك كل مهمة بناءً على المهارات والوقت المتاح، فمثلاً يكون الزوج هو مالك الشؤون المالية بينما أنت مالكة شؤون الأطفال، والمدبرة المنزلية مالكة شؤون المهام اليومية كالترتيب والغسل والطهي.
بعد أسبوع واحد من التجريب، ستلاحظين الفرق. وللقياس، راقبي خلال الأسبوع عدد المرات التي اضطررتِ فيها للتذكير أو التدخل، فإذا انخفضت بنسبة 50%؛ فإنّ هذا يعني أنّ المبدأ بدأ ينجح. وفضلاً عن أهميته لتخفيف العبء الذهبي، فإنّه يحوّل العلاقة الزوجية من علاقة قائمة على مساعدة الزوج لزوجته إلى شراكة حقيقية ومتوازنة يتحمل فيها كل طرف مسؤوليته الكاملة.
2. جدول يوزّع الأدوار
تذكري كيف تستخدم الشركات جداول لتنظيم العمل، يمكنك فعل الشيء ذاته في منزل بأن تكتبي ورقة مهام للمساعدة: ما المطلوب، ومتى الموعد، ومن يراجع.
جربي أسلوب (RACI) "مسؤول – محاسب – مستشار – مطلع". فمثلاً، المهمة هي تحضير وجبة عشاء متكاملة:
- المسؤول: أنتِ أو شريك حياتكِ أو أحد الأبناء، في حال كان قادراً على المساعدة في الطبخ، وهو الشخص المسؤول عن تحضير الوجبة من تقطيع الخضار إلى الطهي.
- المحاسب: غالباً أنتِ؛ لأنّ هذا الدور يقع على عاتق المرأة فهي من يقرر قائمة الطعام ويتأكد من توفر المكونات.
- المستشار: الأبناء أو شريك، هؤلاء هم من تستشيرينهم بشأن الوجبة التي ستأكلونها في المساء.
- المطّلع: طفلك الأصغر غير القادر على المساعدة، أو أحد أفراد العائلة الذي سيعود لاحقاً؛ فهو بحاجة معرفة موعد العشاء فقط دون الاشتراك في التفاصيل.
يزيل هذا الأسلوب الارتباك فكل فرد يعرف مسؤوليته ودوره في المهمة بوضوح، هل تتخيلين كم من النقاشات ستختفي إذا أصبح كل شيء مكتوباً وواضحاً؟
للقياس، احسبي عدد المرات التي سمعتِ فيها عبارة "لم أكن أعلم" قبل اعتماد الجدول وبعده؛ فالهدف أن ينخفض هذا الرقم تدريجياً حتى يختفي.
3. معيار الخدمة المقبول
اتفقي مع شريكك على مستوى "واقعي" من الخدمة لتخفيف الضغط النفسي الذي تشعرين به لتحقيق الكمال. التنسيق مع الزوج يتم بالحوار الصريح حول توقعات كل منكما بما يخص نظافة المنزل وترتيبه والاتفاق على الأكثر الأهمية، فمثلاً يمكن تأجيل ترتيب خزانة الملابس لتصبح مرة واحدة أسبوعياً ولكن يجب ترتيب غرفة المعيشة يومياً، ويكفي تنظيف عميق مرة كل أسبوعين بدل يومي، بالإضافة للاتفاق على تقسيم المهام. فمثلاً، يتولى الزوج مهمة ترتيب منطقة معينة دائماً.
يكون التنسيق مع مدبرة المنزل في حال وجودها حول تحديد مستوى الخدمة المقبول لكل مهمة. فمثلاً، بدلاً من التركيز على تنظيف المطبخ يومياً، أخبريها أنّ عليها غسل الأطباق ومسح الأرضية يومياً، ومن المقبول وجود بعض البقع على الزجاج لكن من غير المقبول وجود قمامة في أي مكان من المنزل.
تذكري: ليس الهدف المثالية، بل راحة بالك. وللقياس، تابعي عدد ساعات الفراغ التي تحصلين عليها في الأسبوع بعد تعديل معيار الخدمة؛ إذ حتى ساعتان إضافيتان كافيتان لتشعري بالفرق.
"يحوّل اتباع الخطوات والمبادئ العملية الثلاث المنزل من سباق نحو الكمال إلى مهمات منظمة وواقعية فيقل التوتر ويمنحكِ القدرة على قيادة حياتكِ بذكاء لا بجهد زائد".
إقرأ أيضاً: تنظيم الوقت اليومي لربة المنزل: الطريقة ونموذج جدول
ختاماً: العقل الخفيف وحده يحلّق نحو الحرية
يشبه الحمل الذهني حقيبة سفر ممتلئة، حتى لو كان معكِ من يساعدكِ، ستبقى ثقيلة إن لم توزعي وزنها بذكاء، وكذلك شؤون المنزل؛ فليست مهمتكِ أن تحلّي كل شيء بنفسك بل أن تكوني مديرةً ماهرةً لمنظومة حياتك. وكما قال الكاتب الأمريكي "وليام آرثر وارد": "القدرة على اتخاذ قرار حاسم في اللحظات الحاسمة، هي القوة الحقيقية التي تزيدكِ ذكاءً وقدرة".
ابدئي اليوم بخطوة صغيرة: اكتبي مهمةً واحدة تنقلينها بالكامل لشخص آخر، جربي أن تفوّضي مسؤوليةً معينة كتنظيم خزانة الألعاب ستشعرين أنّ جناحيكِ أصبحا أخف، ولا تدعي فكرة الكمال تمنعكِ من البدء فأنتِ تستحقين عقلاً خفيفاً قادراً على الطيران، لا عقلاً مثقلاً بالمتاعب.
أضف تعليقاً