صيانة علاقات العمل

العلاقة نِتاج لشكل من أشكال التواصل والتفاعل بين طرفين أو أكثر، وأيَّاً كان شكل العلاقة أو غرضها فإنَّ تنظيمها يتم من خلال القانون والعرف والعادات وغيرها. وعادةً ما تُبنى العلاقات اعتماداً على مبدأ التبادل والتأثير بين الأطراف وتبادل الأفكار والمشاعر والمشاركات والأنشطة والمصالح والمنافع.



في البدايات، قد تجد الفرد أو الكيان عند البحث أو الخوض في أيِّ علاقة، سواءً كانت علاقة اجتماعية أم أسرية أم صداقة أم علاقة العمل، يكون هدفه هو الاستمرارية والوصول بالعلاقة إلى الكمال. لكن بشيء من الواقعية، عليك أن تضع نصب عينيك كل شيء في مكانه؛ حيث إنَّ هناك ظروفاً محيطة بك، فالمؤثرات الخارجية قد تُنتج خلافاتٍ أو تغيُّراً في شكل العلاقة ليس بمقدورك علاجه في المستقبل؛ إذ لربما يجد أحد الأطراف شريكاً أفضل، أو تتغير طريقة تفكيره أو تقييمه للأمور.

صيانة علاقات العمل

لذا سوف نبحر في علاقات العمل والسلوكات المختلفة المؤثرة، بالنظر إلى بعض العوامل المشتركة بين الطرفين (الموظف والمؤسسة)، والتي تتلخص في 6 نقاط هامة قد تختلف درجة أهميتها ورؤيتها من فرد أو مؤسسة إلى أخرى:

1. الأولويات:

تُعدُّ الأولويات أحد أهم محددات مسار العلاقة والطريق إلى الأهداف؛ لذلك إذا كان طرفا العلاقة ذوي أولويات مختلفة أو متناقضة فسوف يكون نتاج العلاقة غير مجدٍ لأحد الأطراف أو لكلا الطرفين معاً. فمثلاً على صعيد العمل، إذا كانت أولوية أحد الأطراف هي الجودة وسرعة التوريد بغضِّ النظر عن التكلفة، في حين أنَّ الطرف الأخر قد يضع التكلفة حجر أساس للعمل بغضِّ النظر عن جودة المنتج؛ فهنا نجد الطرفين متضادين في الأهداف، وبالتالي ستطفو المشكلات على السطح، والتي قد تجد معها حلول الوسط مكاناً لها في بعض الأحيان لحل نقطة الخلاف والمحافظة على أولويات الطرفين. أمَّا في أحيان أخرى، فقد لا تفيد حلول الوسط، ولا بُدَّ عندها من توحيد الأولويات والسير في اتجاه مشترك.

لا تحاول فرض أولوياتك على الطرف الآخر، وكن على ثقة بأنَّ تأخير ترتيب الأولويات أو إعادة صياغتها لكي تتماشى مع الأهداف المشتركة بين طرفي العلاقة، هي كلمة السر لتحقيق نجاح مشترك بين الطرفين وليس نجاح طرف واحد.

2. الاهتمام المتبادل والتحديات:

إذا أحكمت العقل في علاقات العمل، سوف تجد أيضاً أنَّ العلاقة تتشابه في شكلها مع العلاقة الأسرية والعاطفية؛ حيث إنَّ الموظف والمؤسسة كلاً منهما عليه إظهار الاهتمام المتبادل بينهما؛ فالموظف لا بُدَّ أن يُظهر الولاء والانتماء والحرص على مصالح المؤسسة الداخلية والخارجية، وذلك بالطبع حسب موقعه الوظيفي ومسؤولياته. والمؤسسة أيضاً، لا بُدَّ أن تحافظ على الموظف كونه نواة التحسين المستمر والمشاركة في الإنتاج، والتي ستغدو أحد العوامل الفارقة في التمييز بين المؤسسات المختلفة؛ لذا على الطرفين أن يعملا مجتمعين على مواجهة التحديات اليومية حتى يصلوا إلى مرحلة الكسب المشترك لكلٍّ منهما، وليس لأحدهما على حساب الآخر.

شاهد بالفديو: كيف تبني علاقات عمل جيّدة؟

3. تقبُّل العيوب:

في أيِّ علاقة كانت، توجد هناك مزايا ومكاسب كما أنَّ فيها عيوباً وربما خسائر، ومع ذلك، يعمل التطوير والتحسين المستمر على حل المشكلات وتطوير الأداء بكل تأكيد؛ لذا قد يعمد البعض جاهداً في محاولة تغيير الطرف الآخر لكي يتماشى معه كلياً، ونحن ننصحك بتجنب هذا النوع من المحاولات. تذكَّر أنَّك لن تصل إلى الكمال في يوم وليلة، كما أنَّ طلب الكمال يرهق النفس والأطراف جميعاً، فالحياة أقصر بكثير من أن تصمم للوصول بها إلى الكمال؛ لذلك لا تنسَ أنَّ الوصول إلى حد قمة جبل التطوير يتطلب تقبُّل عيوب الطرف الآخر (أقل الخسائر الممكنة والمقبولة).

على سبيل المثال، قد يكون لدى أحد الموظفين طموح أن تكون مؤسسته ذات علامة بارزة في سوق العمل. لكن على الرغم من امتلاك المؤسسة جميع المقومات، فإنَّ إدارتها العليا تعتمد استراتيجية مختلفة يرى فيها ذاك الموظف أحد عيوب المؤسسة، علماً أنَّها قد لا تمثِّل بالنسبة إلى موظف آخر أيَّ وزن في معادلة تفكيره؛ لذلك على الموظف أن يفكِّر في المُقدَّم من المؤسسة بشكل كلِّي وليس جزئياً أو في رغبة محددة، حتى لو كانت مشروعة. ثم إنَّ عليه أن يقيم العلاقة التعاقدية بشكل مكتمل، بإعطاء أوزان نسبية لكل جزء (ميزة أو عيب)، حتى يأخذ القرار المناسب له من دون محاولة التغيير الكلِّي للآخرين، وبالتالي لا يثقل على كاهله أعباء غير مجدية.

وبالمثل، فإنَّ المؤسسة لديها بكل تأكيد موظفون ذوو طباع ومهارات مختلفة، ومزايا وعيوب لكل فرد منهم؛ لذا على المؤسسة التفرقة بين محاولة التطوير والتحسين وبين محاولة التغيير الكلي للفرد. وهنا على المديرين أن يقبلوا عيوب الموظفين غير القابلة للتطوير إن أمكن، بما لا يؤثر في مجريات العمل بشكل كلي، وأيضاً عليهم أن يتذكروا أنَّه ليس من الضروري أن يكون الموظفون شبه المديرين في الطباع والتفكير.

إقرأ أيضاً: تقبّل أخطاء الآخرين ومسامحتهم

4. التدريب والإبداع:

يُعدُّ الموظف مورداً من موارد المؤسسة التي تحتاج إلى تنمية وصيانة، خصوصاً في ظل التطور التكنولوجي والعلمي السريع في البيئة المحيطة، والتي تدعو إلى تعلُّم مهارات وفنيات وعلوم جديدة بشكل مطرد. كما يجب على المؤسسة أن تعي جيداً أنَّ التدريب ليس قاصراً على تعلُّم العلوم والمعارف والتقنيات لمعرفة كيفية أداء المهام أو زيادة السعة الإنتاجية، لكنَّه أيضاً يلعب دوراً هاماً في تنمية نقاط قوة الفرد ومحاولة تقليل وتفادي نقاط الضعف.

وبالرجوع إلى أيام الثورة الصناعية، كان الاهتمام بالفرد بغرض زيادة الإنتاجية فحسب، حتى أنَّ الحافز وقتها كان مرتبطاً بمعيار الإنتاجية وحده. لكن عند ظهور نظرية هوثورن في عام 1924، والتي كان غرضها في البداية دراسة تأثير ظروف العمل المادية (مستوى الإضاءة) في مستوى إنتاجية الموظفين، ظهرت بشيء من الصدفة متغيرات أخرى ذات تأثير قوي في الإنتاجية، وهي أهمية التعاون بين الموظفين والاهتمام بالموظفين.

علاوة على ذلك، يُنظر إلى التدريب على أنَّه إحدى آليات التطوير التي تمكِّن من إعداد أجيال للمستقبل، وتتيح للموظفين تقلد مناصب قيادية. كما يُعدُّ التدريب إحدى أهم أدوات التحفيز وزيادة الولاء والانتماء للمؤسسات، فضلاً عن دوره في تحسين بيئة العمل الداخلية للمؤسسة.

5. القيمة المضافة:

لا بُدَّ من إضافة القيمة إلى جميع أطراف العلاقة حتى تكون العلاقة ناجحة لهم جميعاً، وتدرُّ نوعاً من أنواع العوائد عليهم، شأنها شأن أيِّ نوع من أنواع الاستثمارات (المالية/المعنوية).

يجب على الموظف هنا أن يضيف إلى المؤسسة من خلال الأداء المتميز، والذي بدوره يعود على الإنتاجية وتحسين دورة العمل وآليات تحقيقها. كما أنَّ المؤسسة ملزمة بأن تضيف إلى الموظف ومهاراته وخبراته ومخزونه المعرفي؛ إذ لا تقتصر مكاسب الموظف على راتبه فحسب، وإنَّما هناك مكاسب أخرى تصنع الفارق، سواء مادية كانت أم معنوية، والتي تدفع الموظفين الأكفاء إلى التفكير كثيراً قبل اتخاذ قرار التنقل بين المؤسسات؛ بحيث يتساءل الموظف: "ما الذي ستضيف المؤسسة إلى سيرتي الذاتية من حيث الخبرة والمعرفة؟"؛ لذا يُعدُّ تبادل القيم والمكاسب من أهم نقاط الحفاظ على العلاقات وتحسينها.

إقرأ أيضاً: كيف أنجح في وضع رؤية ملهمة واستراتيجية للفريق؟

6. الصيانة:

أيَّاً كان نوع العلاقات، سواء اجتماعية أم أسرية أم صداقة أم زمالة عمل، وعلى الرغم من أنَّها شيء غير ملموس، وتمرُّ بالكثير من المشاعر والمؤثرات الداخلية والخارجية، وتختلف أطرافها (مثل علاقة الموظف بالمؤسسة)، وتؤثر فيها متطلبات السوق الخارجي وبيئة العمل الداخلي وعلاقة الموظف بفرق العمل الأخرى؛ إلا أنَّها تتشابه في مضمونها، ومثل الآلات، تحتاج إلى صيانة دورية مستمرة بل وإلى قطع غيار، حتى وإن لم يكن الغرض هو التطوير، وإنَّما المحافظة على مجريات الأمور واستمرارية وكفاءة مخرجات العلاقة، والتي نحتاج إليها في الظروف والمواقف الصعبة أكثر وأكثر.

في الختام:

على جميع الأطراف أن تدرك أنَّ علاقة الموظف بالمؤسسة هي علاقة مؤقتة مهما طالت مدتها، سواءً من جانب الموظف الذي قد تنهال عليه عروض خارجية ومغريات تدفعه إلى الانتقال إلى مؤسسة أخرى، أم من طرف المؤسسة التي تتطور وتتوسع في أعمالها ممَّا يتطلب توظيف كفاءات مختلفة، أم حتى مع وصول الموظف إلى عمر التقاعد؛ لذلك بكل تأكيد، فإنَّ محاولة تطوير أيٍّ من الطرفين وتهيئة الجميع لكي يتماشوا مع المتطلبات الجديدة، سوف يكون الأفضل للجميع.

لكن مع ذلك، عليك أن تدرك أنَّ عصر العولمة والرقمنة بات يجبر الجميع على عدم أسر الموظف في حواجز وقوالب ثابتة ومحددة؛ فمثلاً مع مرور الوقت، سوف نجد بعض الوظائف قد اختفت أو قلَّ الطلب عليها، ممَّا يقلل من رواتب موظفيها وعوائدها؛ لذلك كان على الجميع أن يتقبل سياسة التغيير، وألَّا يقاوم هذا التغيير ولا يأخذه على محمل شخصي خاص به.

وفي بعض الحالات، رغم جدارة وحسن العلاقة بين جميع الأطراف (الموظف والمؤسسة)، قد نجد أنَّ القوانين هي من تدفع الجميع إلى التغيير، كما في حالة صدور قانون عدم قبول المدفوعات النقدية في المؤسسات مثلاً، والذي سوف يحد من وجود وظيفة الكاشير (المحصل النقدي) تطبيقاً لجهود الشمول المالي؛ حيث ستجد المؤسسة نفسها ملزمة بالتطبيق كي تتماشى مع القوانين، رغم أنَّ علاقتها التعاقدية مع الموظف جيدة.

وهنا يترتب على المؤسسة دور آخر، ألا وهو محاولة إعادة التدوير الوظيفي لهذا الموظف من خلال التدريب والتطوير، وإعادة تهيئته لكي يشغل وظيفة أخرى تتماشى مع مؤهلاته وقدراته الوظيفية. وأيضاً، يتوجب على الموظف قبول مثل هذا التغيير، وأن يكون مستعداً بكثير من الآليات والتطوير لمواكبة تطوير الذات من دون السكون والوقوف على مهاراته التي قد تضر به في المستقبل؛ لذلك هنا على الطرفين أن يعملا من خلال المفهوم نفسه، وهو "WIN TO WIN" المكاسب المشتركة لجميع الأطراف.

وكما قال د. إبراهيم الفقي: "سر نجاح العلاقات الجيدة، دائماً هناك أشياء لديك يحتاج إليها شخص آخر، وأشياء لدى شخص آخر تحتاج إليها أنت".

الكاتب: د. علي فتحي - مصر




مقالات مرتبطة