سيكولوجيا الاستياء والشكوى: كيف تعبر عن تذمرك بفاعلية؟

صحيح أنَّ الأطفال يكونون في مرحلة تطورية مبكرة بالنسبة إلى البالغين، لكن يمكننا تعلُّم الكثير من الأشياء منهم؛ حيث تتجلى الفطرة أو الغريزة أو الطبيعة الإنسانية لديهم تجلياً نقياً وصافياً جداً، فلا تكون البيئة والتربية والوسط الاجتماعي والعائلي والمدرسي، قد أثروا فيهم بعد.



إنَّ أهم ما يمكن أن نتعلمه منهم هو مهارة الاستياء أو التذمر لأجل الحصول على ما نريد، فهم عباقرة فيما يتعلق بالحصول على الأشياء التي يحبونها؛ وهذا لا يعني أبداً حصولنا على كل الأشياء التي نريدها، بطريقة التذمر، ولكن سنحاول في هذا المقال، أن نشرح الاستياء من منظور علم النفس، والطرائق المتاحة لجعل هذا الاستياء مدروساً وفعالاً.

ما هو التذمر؟

إنَّ التذمر وسيلة فعالة للتخفيف من الغضب المتراكم في داخل الإنسان، كما أنَّه يمثل وسيلة تعبير قوية، عن عدم الرضا تجاه واقع أو تصرُّف ما، ويساهم الاستياء في تشكيل انطباع معين عن ذاتك في عيون الناس، ومن الممكن أن يكون الاستياء رسالة لأحد الأشخاص بأنَّ عليه أن يراجع تصرفاته أو سلوكاته.
عموماً، وكما نعلم جميعاً، فإنَّه لا يوجد يوم يمرُّ في حياتنا، دون أن نعبر فيه عن تذمرنا أو شكوانا تجاه شيء معين، فالتذمر هو أمر يومي روتيني تجاه الزحام المروري أو انقطاع المياه أو حالة الطقس السيئة أو ضغط العمل وغيرها، ويمكننا القول إنَّه ضروري شرط ألَّا يصبح مصدر إزعاج لمَن حولنا، وألا نفرط في استخدامه؛ لأنَّه بذلك يلهينا عن العمل على إيجاد حلول لهذه المشكلات، ويجعلنا نكتفي بالتذمر.

إقرأ أيضاً: الشكوى، أسبابها، بدائلها وطرق علاجها

لماذا نعبِّر عن استيائنا وتذمرنا؟

  • يُعَدُّ التذمر أمراً شخصياً بحتاً، فهنالك أمور يعدُّها بعض الأشخاص صغيرة لا تستدعي الاهتمام، بينما يعدُّها آخرون أشياء لا يجب أن تحدث، أو أنَّه لا يجب أن تحدث بهذه الطريقة.
  • تحدث الشكوى عند تفاقُم الأمور السيئة إلى حد غير متوقع، على سبيل المثال: عندما تظن أنَّك حللتَ جميع الأسئلة في الامتحان، ولكنَّك تتفاجأ بعلامتك المتدنية، أو عندما يكون الازدحام المروري خانقاً أكثر من العادة، ومن ثمَّ، إنَّ شخصية الإنسان هي التي تحدد المواقف التي تثير استياءه، ومن جهة أخرى، هناك أشخاص يفضلون أن يحتفظوا بتذمرهم لأنفسهم.
  • درس خبراء علم النفس الاستياء والتذمر، ووجدوا فروقات هامة بين الشكاوى التي يعبِّر عنها الناس، كما وجدوا أنَّ أكثر الشكاوى فاعلية تلك التي تجعلهم يتعاملون مع مشكلاتهم تعاملاً أفضل وأكثر إنتاجية، واستنتجوا في نهاية المطاف أنَّ الاستياء الفعال هو الاستياء الذي يحصل حين يعتقد أصحابه أنَّهم سيصلون إلى نتيجة، تجعل عملهم أكثر راحة وإنتاجية، وليس شكوى لمجرد الشكوى فقط.
  • وقد نوَّه الباحثون في دراستهم، على ضرورة أن يكون التذمر معتدلاً دون مبالغة أو إطالة فارغة أو مملة، والأهم من ذلك هو اختيار التوقيت الملائم للشكوى، وكذلك يجب اختيار الجمهور المناسب؛ وذلك لأنَّ التذمر أمام أشخاص لا يودُّون سماعك هو أمر لن يساعدك في شيء، سواء كان هدفك أن تفرِّغ انفعالاتك وغضبك أم أن تحاول تحسين ظروف عملك أو حياتك، فعليك بانتقاء أصدقائك الذين هم على استعداد دائم للإصغاء إليك.
  • ومن جهة أخرى، يرى المعالجون النفسيون، أنَّ التذمر من أهم الآليات التي يستطيع الإنسان من خلالها مواجهة الصدمات أو الكروب التي يتعرض لها.

بالتذمر نعبِّر عن أنفسنا، ونرسم حدود تعاملنا مع الآخرين:

التعبير عن الاستياء هو خير وسيلة للتعبير عن الذات، وكل ما يخالجها من قلق أو إحباط أو توتر؛ فعندما نتكلم أو نستاء من الأمور التي تزعجنا، فإنَّنا ندفعها نحو مكب النفايات، ونلغي تأثيرها فينا أو على الأقل نخفف منه.
ويمكن أن يقوم الشخص باستخدام التذمر، لتعديل سلوك بعض الأشخاص تجاهه، أو كي يوصِلَ رسالة عن كيفية التعامل معه، ويمكنه أن يتلاعب بمَن حوله عبر تطوير أساليبه في الاستياء؛ وهو ما يسميه خبراء علم النفس تحويل الانطباع.
على سبيل المثال: تكون جالساً مع مجموعة من الأصدقاء على مائدة العشاء، فيقول أحد الحاضرين: "لم يُحضَّر هذا الصنف من الطعام تحضيراً صحيحاً"، ففي هذا الاستياء الضمني من الطعام، هو لا يعبِّر عن عدم إعجابه بالوجبة؛ وإنَّما يقوم بتوجيه رسالة بأنَّه على دراية واسعة في عالم الطبخ، ولديه ذوق مرتفع فيما يتعلق بالطعام، فرسم معالم شخصيته من خلال هذا الاستياء البسيط.

إقرأ أيضاً: كيف تتعلم التخلي عمَّا لا يمكنك التحكم به؟

هل المتذمرون أكثر نجاحاً من غيرهم؟

من المعروف عن عادة التذمر والشكوى، أنَّها عادة غير محبذة من قِبل الناس، وربما ينفر الناس من الإنسان المتذمر ويُتَّهم بالسلبية أو بإفساد لحظات السعادة، فوجد خبراء وباحثون في "جامعة نيو ساوث ويلز الأسترالية"، أنَّ المتذمرين هم أكثر الأشخاص مقدرةً على اتخاذ القرارات الحاسمة.
ويشير الباحثون المشرفون على هذه الدراسة إلى أنَّ هذا التشاؤم الذي يميز المتذمرين يمكن أن يُترجَم على أرض الواقع إلى طاقة من النشاط والدقة؛ حيث وجدت الدراسة أنَّ الأشخاص دائمي الاستياء يستطيعون رؤية بوادر المشكلات التي يمكن أن تحدث؛ وذلك لأنَّهم أكثر قدرة على التدقيق في تفاصيل الأمور، ورؤية سلبياتها، ومن ثمَّ فهم يستبقون المشكلة بالقرارات أو الإجراءات المناسبة، ومن ثمَّ يكون قرارهم صائباً أكثر من المتفائل دائماً، فلا ينتبه للسلبيات.

المتذمرون، حياة طويلة وصحية:

توصَّل الباحثون إلى أنَّ الأشخاص المتذمرين يعيشون أطول؛ حيث إنَّهم في تفريغ مستمر لكل المشاعر السيئة والعواطف والانفعالات السلبية، التي يؤدي تراكمها في اللاوعي إلى تأثيرات سلبية في نفسية الإنسان، وقد تسبب له أمراضاً نفسية في المستقبل.
ولا شك في أنَّ الحالة النفسية السيئة الناتجة عن عدم التفريغ ستجعل صاحبها عرضة للإصابة بالكثير من الجراثيم والفيروسات؛ وذلك بسبب ضعف الجهاز المناعي لديه، وأيضاً للإصابة بالذبحة القلبية والجلطات، وتفاقُم الأمراض الموجودة لديه مسبقاً.
كل هذا وأكثر تستطيع تجنُّبه، عبر التذمر والتفريغ المتكرر لكل مشاعرك السلبية؛ لذا أدِر ظهرك لكل مَن لا يعجبه تذمرك.

شاهد بالفديو: نصائح كي تصبح ملك التذمر في العالم

ماذا يحدث عندما نمتنع عن الشكوى؟

بعد كل هذه الفوائد التي يعود بها الاستياء أو التذمر على الصحة والحالة النفسية والمهنية، فإنَّ ذلك يطرح سؤالاً هاماً عن الأشخاص الذي لا يعبِّرون عن تذمرهم واستيائهم ويفضلون الاحتفاظ به لأنفسهم، فهم إما لديهم طرائق خاصة بهم لتفريغ هذه المشاعر مثل ممارسة النشاطات الرياضية أو الانخراط في أعمال مجهدة أو غيرها، أو أنَّ كبتهم لها سيقودهم إلى تبنِّي نمط سلوكي عدواني.
يقوم الشخص بالتعبير عن مشاعره السلبية عبر الاعتداء على الآخرين أو الحيوانات أو الممتلكات، أو حتى إيذاء نفسه من خلال اللامبالاة وتجاهل الأمور التي تفيده والفشل في العمل.
على سبيل المثال: عندما يطلب رئيسك في العمل الالتفات إلى مهمة أخرى، في الوقت الذي تكون فيه منغمساً في حل مشكلة هامة تؤثر في سير العمل في كل أقسام الشركة؛ فإنَّ امتناعك هنا عن التذمر والاعتراض على طلب مديرك، سيقودك بشكل غير واعٍ إلى إهمال أحد الأمرين، أو أن تقوم بهما على نحو سيئ أو تؤجِّل طلبه حتى نهاية الدوام أو إلى يوم آخر، ظناً منك أنَّك تنتقم منه، ولكنَّك في الحقيقة تكون قد قصَّرت في عملك، وعرَّضت نفسك للعقوبة في العمل أو ربما فقدانه.

لماذا يمتنع بعض الأشخاص عن التذمر؟

إنَّ أسباب امتناع بعض الأشخاص عن الاستياء لها علاقة بالبيئة التي نشؤوا وترعرعوا فيها، وتؤدي الثقافة الشعبية الدور الأكبر في ذلك؛ حيث ينظر المجتمع إلى الشخص الذي يشكو على أنَّه ليس أهلاً للعمل، أو أنَّ الشكوى تنتقص من رجولته.
ويمكن أن يكون السبب متعلقاً بمراحل الطفولة؛ حيث من الممكن أن يكون هؤلاء الأشخاص قد عاشوا في جوٍّ أسري يمنع التعبير عن الرأي أو المشاعر أو الأفكار، وهناك أسباب متعلقة بالأفكار والقناعات الخاصة بكل شخص؛ حيث إنَّ الشخصية الكسولة، تميل إلى تجنُّب الاستياء والتذمر، وتتَّبع طرائق بديلة تقوم من خلالها بإيجاد الحلول، دون مواجهة المصادر المسببة للإحباط أو القلق.
في جميع الأحوال، يؤكد علم النفس ضرورة التعبير عن التذمر والاستياء، تأكيداً لا لبس فيه؛ وذلك لأنَّ كبتها سيؤدي إلى تفريغها بطرائق عدوانية أو سلبية يضر بها الإنسان نفسه ومَن حوله.

اشتكِ لتربح لا لتشعر بالسوء:

من المفضل أن يكون التذمر في أوقات ملائمة؛ حيث يجب تجنُّب التعبير عن الاستياء حين يكون مَن حولك يناقشون قضايا أكثر أهمية، أو عندما تكون محطَّ انتباه أو اهتمام الآخرين، كما أنَّه من غير المناسب، أن يكون التذمر متكرراً حول المشكلة نفسها؛ لأنَّ ذلك سيؤدي إلى نفور الناس منك.

في الختام:

ربما تكون الكلمات المنسوبة إلى أحد الرهبان البوذيين، بمنزلة ملخَّص ممتاز للفائدة المتوقعة من الشكوى: "إذا كنت تستطيع تغيير شيء ما، فاعمل على تغييره، وإذا لم تقدر على ذلك، فلماذا تتوتر أو تغضب أو تشكو؟".

المصادر: 1، 2، 3، 4




مقالات مرتبطة