تعريف الأصالة في مجال القيادة

انتشر استخدام كلمة "الأصالة" في وسائل الإعلام التابعة للشركات في العناوين الرئيسة أو في الفقرات الرئيسة خلال العقد الماضي أو نحو ذلك، وإذا زرت موقع أمازون، فسوف تعثر على أكثر من 40.000 كتاب عن كيف تكون أكثر أصالةً.



من الواضح أنَّه من غير المنطقي إنفاق الكثير من المال لمجرد تعلُّم أن نكون على سجيتنا، لكنَّ التكلفة، كما أراها، لن تنال من أموالنا فقط، فقد توصلتُ إلى استنتاج مفاده أنَّ الطريقة التي نفكر بها في الأصالة تشكل خطراً حقيقياً على قدرتنا على النمو والتعلم.

واسمح لي أن أوضح ذلك؛ أنا أُدرِّس في "كلية لندن لإدارة الأعمال"، وقد درستُ الأشخاص الذين يتوصلون إلى ما أسميه "لحظة إدراك أنَّ ما أوصَلهم إلى هنا لن يأخذهم أبعد من ذلك"، تدرك في هذه اللحظات أنَّ كل ما جعلك ناجحاً في الماضي لن يجعلك ناجحاً في التقدم؛ بل وقد يعترض طريقك أيضاً.

على سبيل المثال: لنفترض أنَّك بارع في تحقيق النتائج اعتماداً على جهودك الخاصة، ولكن عليك الآن تحقيق النتائج من خلال أشخاص آخرين، أو ربما كنتَ محللاً رائعاً تلقَّى ترقيةً، ولكنَّ ذكاءك التقني يعوق قدرتك على التواصل ببساطة مع الأشخاص الذين ليس لديهم التدريب التقني نفسه الذي تتمتع به.

الأمر الذي يصعِّب الانتقال هذا ليس صعوبة تعلُّم المهارات الجديدة؛ بل إنَّ المهارات القديمة أصبحَت هويتنا وجوهر إحساسنا؛ ونتيجة لذلك، فإنَّ عدم التمسك بها يُشعرنا وكأنَّنا غير صادقين بطريقة ما؛ لذلك نتمسك بها ونشعر بالعجز.

إليك مثال عن ذلك: كانت "آنا" من الأشخاص الذين تحدثتُ إليهم في أثناء بحثي، وهي الرئيسة التنفيذية لشركة نقل، وُظِّفَت من خارج الشركة لتغيير مسارها، وقد فعلَت ذلك؛ إذ كانت النتائج رائعة، وحققَت الشركة أرباحاً مرة أخرى، فقد رفعَت "آنا" الإيرادات وأصلحَت سير العمليات، لكنَّها كانت تجد نفسها دائماً على خلاف مع رئيس الشركة؛ مما انعكس على اجتماعات مجلس الإدارة حيث كانا يتشابكان، وأراد كل منهما أن يتواصل بطريقة ملهمة وشخصية مع الموظفين، فكان هذا هو أسلوبه، بينما كانت هي مهندسة نموذجية ومن النوع العملي.

عندما استمعتُ لحديثها عن إحباطها، قلتُ: "يبدو لي أنَّه يريدك في المرة القادمة التي تعقدين فيها اجتماعاً رئيساً أن تفكري في سرد قصة شخصية أو حكاية عن شيء هام علَّمك الطريقة التي تفكرين بها بدلاً من تقديم جداول البيانات كما تفعلين عادةً".

نظرَت إليَّ ببرود وقالت: "نحن اليوم معرضون لخطر الافتتان بالناس الذين يتلاعبون بنا، وبالنسبة إليَّ، هذا تلاعب، ويمكنني سرد قصة بالطبع، ولكن إذا كانت القصة شديدة الوضوح، فلا يمكنني حمل نفسي على سردها".

كانت "آنا" صادقة ولكنَّها في الوقت نفسه جامدة، فما الفرق بين الأمرين؟ وما الذي يجب أن تفعله؟ ألا يجب أن تكون صادقة مع نفسها؟ ألا يريد الناس أن يكون قادتهم صادقين؟

فلنلقي نظرة على بعض الأساليب التي نحدِّد من خلالها الأصالة ونرى ما إذا كان في إمكانها مساعدتنا على الإجابة عن بعض هذه الأسئلة.

الطريقة الأكثر شيوعاً لتعريف الأصالة هي أن تكون صادقاً مع ذاتك، لكنَّ هذا يثير السؤال: صادقاً مع أي ذات؛ ذاتك القديمة أم ذاتك الحالية أم ذاتك المستقبلية؟ وإذا كان الجواب هو ذاتك القديمة أو ذاتك الحالية، فهل يعني ذلك أنَّ الصدق يُحتِّم عليك أن تكون كما كنت دائماً؟

إقرأ أيضاً: 7 نصائح لتدعيم قوتك الشخصية

بالتأكيد لا، ففي الكثير من الأحيان، سنكون صادقين مع الذات التي نريدها ونطمح إليها، هذا ما نتحدث عنه عندما نقول "زَيِّف الأمر حتى تحققه"، لكنَّ "آنا" لا تطمح لأن تكون راوية قصص تحفيزية، ولا تريد أن تكون واحدة من هؤلاء الأشخاص الذين يشبهون السنابل الشامخة التي لا تحمل القمح في لُبِّها.

الطريقة الثانية التي نحدد بها الأصالة هي أن نكون مخلصين؛ بمعنى آخر، أن نقول ما نقصده ونعني ما نقوله، وكما اتضح، فإنَّ كلمة "مخلص" لها أصل مثير للاهتمام حقاً، فقد كان تجار اليونان يكتبونها على واجهات محلاتهم للإشارة إلى أنَّهم لا يغشون.

بالنسبة إلى "آنا"، الأرقام وحدها هي الصادقة، وتقديم أي شيء آخر هو تلاعب، لكنَّنا نعلم جميعاً أنَّ المبدأ الأول للتواصل الفعال هو جعله ملائماً لجمهورك، فعندما تكون جديداً على ذلك أو عندما لا تشعر بالرضا تجاه ذلك، فإنَّك تصر - كما فعلَت "آنا" - على أنَّ الأرقام يجب أن تكون واضحةً وحدها.

التعريف الثالث للأصالة هو أن تكون صادقاً مع قيمك، وبالنسبة إلى "آنا"، كانت قيمة تفضيل الجوهر على الأسلوب مغروسةً فيها، ويعود ذلك إلى دراستها في كلية الهندسة؛ حيث من المؤكد أنَّها لم تتلقَّ دورات في فن سرد القصة الجيدة، لكن عندما التقيتُها، لم تكن تعمل مهندسة؛ بل كانت مديرة تنفيذية، وكانت بحاجة إلى إمكاناتٍ أكبر.

كانت "آنا" مثالاً كلاسيكياً لما أسميه "مفارقة الأصالة"، وتحدُث هذه المفارقة عندما تجد نفسك بين خيارين، بين أن تكون على طبيعتك أو أن تفعل ما يلزم لتكون فعالاً، وعليك الاختيار لا محالة.

تريد أن تتقدم أو أن تكون ناجحاً وأن يكون لديك تأثير أكبر، ولكن مثل "آنا"، مشاعرك نحو هذا التغيير متضاربة وأنت خائف قليلاً؛ لذا سيتعين عليك التضحية بقيمك ونزاهتك، وفي هذه الحالة يجب عليك ألَّا تفعل كما فعل كل الذين سبقوك والذين كانوا أقل صدقاً أو أكثر حكمة.

يستحضر الموقف برمته جزءً أكثر تحفظاً وحذراً من ذاتك، وهذه الذات ليست صادقة ولا تحقق أكثر ما تريد تحقيقه، لكنَّك تتمسك بها؛ وذلك لأنَّك تشعر بأنَّ صدقك يبرر لك أخلاقياً تمسُّكك، فكيف يمكنك حل هذه المعضلة إذاً؟ لقد وجدتُ أنَّه لا يمكنك التفكير في طريقة للخروج من مفارقة الأصالة؛ بل عليك أن تتصرف تصرفاً جديداً لتغيِّر طريقة التفكير في نفسك.

إليك مثال آخر من تجربتي: عندما بدأتُ مسيرتي المهنية بصفتي أستاذة في كلية إدارة الأعمال منذ أشهر عدة، كنتُ محبطةً بصفتي مدرسة، وكنتُ في القعر عندما يتعلق الأمر بتقييم الطلاب لي، وعلاوة على ذلك، لم أكن أستمتع أيضاً بالتدريس في الفصل الدراسي.

حاول الكثير من الأشخاص مساعدتي، وقدموا لي دائماً النصيحة نفسها التي نحصل عليها جميعاً عندما نواجه صعوبة: "كوني على طبيعتك وحسب"، ولكنَّ طبيعتي هي المشكلة كما وجدتُ؛ إذ كنتُ أتصرف على طبيعتي أكثر من اللازم، فكنتُ منطوية جداً وأكاديمية ونظرية وعديمة الخبرة وخائفة إلى أبعد الحدود.

جاء ذات يوم أحد الزملاء لمساعدتي وقدَّم لي نصيحة مختلفة نوعاً ما، حيث قال: "عندما تدخلين تلك الغرفة، عليك أن تدركي أنَّها حلبة قتال وأنَّه عليك السيطرة عليها، فأنت تدخلينها الآن كما لو كان الأمر كله يتعلق بمحتوى ما عليك تقديمه فقط؛ أي بالمعرفة والبحث والأفكار، ولا علاقة للأمر بذلك، فهذا كله يتعلق بإضفاء حضورك على المكان.

الطريقة الوحيدة التي ستوضحين بها لكل طالب جالس هناك أنَّ هذه الحلبة لك وليس له هي عن طريق تحديد منطقتك في كل ركن من الزوايا الأربع لهذا المدرج؛ لذا اذهبي إلى الصف الخلفي من المقاعد، هناك يجلس مثيرو الشغب، ويعتقدون أنَّهم آمنون وأنَّك لن تري ما يخططون له، اذهبي إلى هناك مباشرة، وانظري إلى ما يفعلونه، هل يسجلون الملاحظات؟ وهل يركزون على الدرس؟ وهل هم مستعدون؟ وهل يفعلون شيئاً آخر؟ تعرَّفي إليهم واحداً تلو الآخر، حتى لو كانوا يجلسون في المقاعد الوسطى في الصف، واذهبي إلى هناك وتحدثي معهم، وأظهِري لهم أنَّك تعلمين أنَّها غرفتك، وليست غرفتهم".

لم أرغب في العمل بنصيحته، وفضَّلتُ التمسك بأسلوبي غير الفعال، الذي تضمَّن البقاء مستيقظةً طوال الليل للتحضير، ومع ذلك، في مرحلة ما، شعرتُ باليأس الكافي لتجربتها، فلم ينجح الأمر على الفور، ولم يحب بعض الطلاب أن أكون قريبةً منهم، لكنَّني لفتُّ انتباههم، وبدأتُ بالتعرف إليهم بشكل أفضل قليلاً، وتعلمتُ المزيد عما يهتمون به، وعما كانوا يبحثون عنه من الفصل.

انتهى الأمر بتجربتي الصغيرة إلى تغيير شيئين هامين: كيف رأيتُ وظيفتي وكيف رأيتُ نفسي، فمن قبل، كنتُ أرى أنَّ وظيفتي تتمثل في تقديم ما يحتاجون إلى معرفته، لكنَّ تجربتي أرشدَتني إلى التفكير في كيفية تهيئة الظروف التي تزيد من المشاركة والتعلم.

كما أنَّها حرَّرَتني، فقبل ذلك، كنتُ أرى نفسي أكاديميةً انطوائيةً وجادةً، مثل "آنا"، لم أكن من هؤلاء الأشخاص الذين يهتمون بدمج المعلومات بالترفيه وبالمسرحيات السخيفة، ومع ذلك، عندما بدأتُ أرى قوة التدريس بهذه الطريقة الجديدة والمختلفة، رأيتُ قيمتها، وبدأتُ أشعر أنَّني جيدة فيها وأنَّها يمكن أن تساعدني على تحقيق ما أردتُ تحقيقه.

بعد سنوات، رأيتُ المزيد والمزيد من الناس يعتمدون منهج التجربة والتعلم بنجاح، وبدأتُ بالبحث عن تعريف أكثر شمولاً للأصالة، واتضح أنَّ كلمة "أصالة" باللغة الإنجليزية مشتقة من الكلمة اليونانية "Authenteos" التي تعني في الأصل "ما تفعله بيديك".

وتطوَّر هذا المصطلح من هناك ليعني أن تكون مُجدِّداً، وتتصرف وفقاً لسلطتك الخاصة، وفي النهاية أن تمارس التجديد بنفسك، وهذا هو التعريف الذي بنى عليه علماء النفس المهتمون بتحقيق الذات دراساتهم؛ حيث وجدوا أنَّ الأصالة ليست صفة، ولا شيئاً تتمتع أو لا تتمتع به؛ بل هي نتيجة عمليةٍ تحوِّلُكَ إلى ما تريده، عمليةٌ تعلِّمك عن نفسك طوال الحياة.

إقرأ أيضاً: كيف توائم بين حياتك المهنية ومفهومك الشخصي للنجاح؟

تذكَّر: التعلم يعني القيام بأشياء لا تشعرك بالراحة؛ وذلك لأنَّك لا تعرف كيف تفعلها حتى الآن، فقد يعني ذلك أن تكون انتهازياً تفرض حضورك على الزوايا الأربع للغرفة عندما تكون أكاديمياً انطوائياً، أو أن تقصَّ قصة عاطفية بسيطة عندما تكون شخصاً يعتمد على الأرقام.

لهذا السبب من المفيد أن تكون مرحاً وألَّا تكون جاداً دائماً كما يفعل معظمنا عندما يكون في عمله وعندما لا يحيدون عن الأساليب المباشرة والضيقة، وعندما يَنصَبُّ اهتمامهم على الهدف فقط.

لكن عندما تلعب، تكون مرحاً، تكون حراً في تجربة الأشياء واختبارها، وإذا لم ينجح الأمر، فجرب شيئاً آخر بدلاً من ذلك؛ إذ ليس عليك الالتزام بأن تكون شخصاً واحداً، وفكِّر في الأمر على أنَّه نماذج أولية تجريبية سريعة، ولكنَّها نماذج تجسِّد ذاتك.

في المرة القادمة التي تواجه فيها لحظة من هذه اللحظات التي تشعر بها أنَّ الأمور التي أوصلَتك إلى هذه النقطة لم تعد مفيدةً بعد الآن، حدِّد تعريف الأصالة الذي ستتمسك به، هل تفضِّل الذات القديمة المحافِظة وغير الواثقة؟ أم ستختار أن تتعلم وتتصرف بطريقتك لتصبح أصيلاً حقاً؟

المصدر




مقالات مرتبطة