الشخصية التبعية: أسبابها وأعراضها وعلاجها

عالم الأمراض النفسية واسع جداً؛ إذ إنَّه يكاد يتفوق بالعدد على عالم الأمراض الجسدية؛ وذلك لأنَّ الأرواح مختلفة جداً والأنفس تكاد لا تتشابه، أمَّا الأجساد فهي متشابهة إلى حد كبير بالتركيبة البنيوية.



وعالم الطب النفسي القائم على تشخيص الأمراض النفسية والاضطرابات السلوكية ذو مجالٍ واسعٍ جداً، ويمكننا أن نقرأ يومياً عن أمراض لم نسمع بها من قبل.

وفي مقالنا هذا سوف نتوسع قدر المستطاع في الشخصية التبعية وأسبابها وأعراضها وعلاجها، ونتحدَّث عن هذا الاضطراب السلوكي، ونحاول سبر أغواره والتكلُّم عن أسبابه ودوافعه وتبيان أعراضه، ومحاولة الإضاءة على طرائق علاجه.

ما هي الشخصية التبعية؟

الشخصية التبعية أو التابعة هي اضطراب سلوكي يصاب به الرجال والنساء، ولكنَّ النساء معرضات إلى الإصابة به بشكل أكبر، ويتميز هذا الاضطراب بالاعتماد المرضي على الآخرين والتعلق بهم، وربط الشخص نفسه بالمحيطين به بطريقة سلبية تفاعلية، وتبدأ هذه الحالة عادة في الصغر، ولكنَّ مشغلاتها الحقيقية ما تزال عصية على الفهم نوعاً ما.

سوف نبحث معاً فيما يأتي عن أسباب اضطراب الشخصية التبعية ونحاول إيجاد أسباب جوهرية يمكننا أن نلقي اللوم عليها في هذا المرض.

أسباب الشخصية التبعية:

في دراسة متعلِّقة بكشف أسباب الشخصية التبعية، اكتشفت دراسة أمريكية أجراها عدة باحثين أنَّ 67% من حالات الشخصية التبعية قائمة على أسباب وراثية، والقسم المتبقي متعلق بأسباب بيئية؛ أي بالبيئة التي نشأ فيها المريض.

ولأنَّ أسباب الشخصية التبعية الجوهرية عصية على الفهم كما أسلفنا، فقد اتفق الباحثون على ربطها بأسباب نفسية اجتماعية، فإذاً هذا الاضطراب ناشئ عن مسببات وراثية واجتماعية وبيولوجية ونفسية في الوقت نفسه، ووجد العلماء أسباباً أخرى متعلقة بطريقة التنشئة والتعليم الاستبدادية، والإفراط في الشدة في أثناء التربية، وسوف نعدد معاً أسباب الشخصية التبعية التي يظن الباحثون في الصحة العقلية أنَّها ذات تأثير مباشر في تشكل هذا النمط من الشخصية.

من هذه الأسباب:

1. الوراثة:

تُعَدُّ الوراثة من أسباب الشخصية التبعية؛ إذ يظن الخبراء أنَّ الشخص الذي يحتوي تاريخ عائلته المرضي على اضطراب الشخصية التبعية أو اضطرابات نفسية أخرى، تكون لديه القابلية للإصابة بهذا النوع من الاضطرابات أكثر من غيره؛ فهو ذو استعداد فطري للإصابة بهذا المرض.

2. العلاقات الخاطئة:

الأفراد الذين مرَّت في حياتهم علاقات خاطئة مع الوسط المحيط؛ لديهم قابلية كبيرة للإصابة باضطراب الشخصية التبعية؛ لذا فإنَّ العلاقات غير المتوازنة على اختلاف الأدوار فيها تُعَدُّ من أهم أسباب الشخصية التبعية.

3. سلوك الأسرة:

تتعزز أسباب الشخصية التبعية واحتمالية إصابة الأشخاص بهذا الاضطراب في حال كونهم ناشئين في أسرة تتبنى السلوك الاعتمادي؛ وهذا ما يمكننا تسميته بالسلوك الثقافي الخاطئ لدى الأهل.

شاهد بالفديو: 10 طرق للتخلّص من الشخصية الضعيفة وتقويتها

4. التشاؤم المفرط:

يظن الباحثون أنَّ الأفراد الذين يمتلكون نزعة تشاؤمية عالية أو الذين نشؤوا في أسرة تنتهج التفكير التشاؤمي يميلون إلى الإصابة باضطراب الشخصية التبعية؛ لذا فإنَّ الميول التشاؤمية تُعَدُّ من أسباب الشخصية التبعية.

5. اضطرابات الطفولة المستمرة:

تلك الاضطرابات تكون سبباً رئيساً من أسباب الشخصية التبعية، والتي يتبنَّاها لاوعي الطفل ويستمر بها مع تقدُّم العمر؛ كالخوف من الانفصال عن الأهل، وعدم الرغبة في الابتعاد عنهم، وربما يؤثر مرض جسمي في الشخصية التبعية؛ إذ يعتاد الأطفال على الاهتمام والرعاية الخاصة بسبب مرضهم، فيصبح التعلق بالاهتمام مرضياً ومسبِّباً في المرض النفسي.

6. غياب الاستقلالية:

إنَّ غياب الاستقلالية هو أيضاً من أسباب الشخصية التبعية؛ إذ اكتشف العلماء أنَّ العائلات التي تحتوي على أفراد مصابين بالشخصية التبعية، يتجهون إلى وضع القيود على الأبناء، ويقللون جداً من الحرية الممنوحة لهم بشكلٍ توتري في كثير من الأحيان، ومن ثم تصبح هذه العائلة منبتاً خصباً لإصابات متلاحقة بهذا المرض.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ معظم المصابين بالشخصية التبعية يرفضون العلاج على الرغم من إمكانيته، أو يستغنون عن العلاج بسبب أشخاص محيطين بهم يشعرونهم بالأمان الزائف والرضى عن النفس ويبعدونهم عن التوتر والانفعال.

إقرأ أيضاً: تنمية تقدير الذات لدى الطفل

أعراض الشخصية التبعية:

يمكننا أن نصنف الأفراد المصابين بهذا الاضطراب عن طريق ملاحظة أعراض الشخصية التبعية، فأغلب المصابين يغلب عليهم كونهم أناساً سلبيين، وغير مُقدمين أبداً على تقرير الأشياء الهامة في حياتهم؛ بل يتكئون بشكل كبير على المحيطين بهم في اتِّخاذ القرارات المصيرية عنهم؛ إذ إنَّهم لا يحبذون أبداً تحمُّل المسؤولية ولو بشكل بسيط في أغلب مناحي حياتهم.

  1. المريض البالغ المصاب بالشخصية التبعية يتَّكل في المجمل على أحد الأبوين، أو إذا كان مرتبطاً، فهو يتكل على الشريك حتى في أسخف الأمور كالثياب ولون الشعر والمكياج المناسب، أمَّا المصابون بالشخصية التبعية الذين ما يزالون في مرحلة المراهقة، فهُم يتكلون على الأبوين اتكالاً مطلقاً وكاملاً وفي جميع مناحي الحياة دون أي استثناء.
  2. ومن أعراض الشخصية التبعية أن يجد المصاب بها صعوبة بالغة في إظهار الأفكار التي تجول في خاطره، ويتجنَّب تماماً الاحتدام في النقاش مع الآخرين، ويخاف من أن يخالفهم في الرأي حتى لو كان الرأي المطروح ضد قناعته الشخصية، وأغلب الذين يخشى أن يخالفهم الرأي هم الأشخاص الذين يُعتَمد عليهم في حياتهم لملء الفراغ النفسي الذي تسببه الإصابة بالشخصية التبعية.
  3. من أعراض الشخصية التبعية أيضاً خوف المصابين بها من ابتكار أفكار جديدة متعلقة بالعمل والإنتاج المادي، ويتهربون دائماً من المواقع القيادية التي تتطلب رأياً حاسماً وتحملاً للمسؤولية.
  4. ويضاف إلى أعراض الشخصية التبعية كذلك أنَّ الأشخاص المصابين بها دائماً ما يتنازلون ويقومون بمهمات خارج نطاق شغفهم وقدرتهم؛ فقط من أجل تلقي المديح والدعم المعنوي من الآخرين، فهُم يعبرون دائماً عن أنَّهم بحاجة إلى الرعاية والحنان والمعاملة الخاصة.
  5. ومن أهم أعراض الشخصية التبعية الشعور بقلة الحيلة والتوتر بسبب التخوف الدائم من عدم قدرتهم على الاهتمام بأنفسهم، ودائماً ما يمرون بشعور القلق والرهبة عندما يكونون قريبين من فقدان علاقة معينة مع أشخاص يوفرون لهم الدعم والرعاية، ويسعون فوراً إلى إنشاء علاقات جديدة وتقويتها من أجل تأمين الرعاية التي يظنون أنَّهم يحتاجون إليها كي لا يهتمون بأنفسهم ويرعونها، فهُم دائماً يسعون إلى ملء الفراغات في حياتهم التي يظنون بأنَّها بيئتهم الآمنة.

علاج الشخصية التبعية:

في علاج الشخصية التبعية وغيرها من الاضطرابات والأمراض النفسية والجسدية؛ تنقسم طرائق التعامل إلى قسمين: طرائق وقائية وطرائق علاجية، وللأسف فإنَّ طرائق الوقاية من الإصابة بالشخصية التبعية تنحصر فقط في دور الأسرة التربوي؛ إذ يكون متوازناً بين تأمين الدعم اللازم للطفل وبين إعطائه حريته ليتعلَّم كيف يعتمد على نفسه.

أمَّا عن علاج الشخصية التبعية بعد التشخيص واكتشاف المرض فينقسم إلى ستة محاور، سنذكرها دون أن يُعَدَّ ترتيب ورودها في المقال تعبيراً عن أهميتها؛ إذ إنَّ لكل محور علاجي أهميته في مرحلة من مراحل العلاج:

1. العلاج الجمعي:

نلاحظ في هذه الطريقة من طرائق علاج الشخصية التبعية الأهمية الكبيرة لمجموعات العلاج، والتي تعتمد على دعم الذات وزيادة الثقة مع مجموعة مرضى آخرين، والتي يتم فيها العلاج خلال فترات زمنية محددة ومدروسة من قبل؛ إذ إنَّ جمع الأشخاص المصابين بالشخصية التبعية مع بعضهم وطرح مشكلاتهم أمام بعضهم بعضاً يساعد كل شخص على التخلُّص من معاناته مع الاتكالية والاعتمادية، وتغيير هذا النمط من الحياة إلى أنماط إيجابية وفعالة.

وتساعد مجموعات العلاج الجمعي على تغلُّب المريض على عزلته، وإخراجه من قوقعته الاتكالية التي وضع نفسه فيها، وتساعد هذه المجموعات المريض على تنمية حس المبادرة لديه وإعطائه الجرأة التي يفقدها في اتِّخاذ القرارات.

2. العلاج الدوائي:

إنَّ علاج الشخصية التبعية يكون عن طريق علاج الأعراض الناجمة عنها، ويُعَدُّ العلاج الدوائي لهذه الأعراض هو العلاج الوحيد الفعال للشخصية التبعية، التي تَعُدُّ نوبات الخوف والهلع والقلق والتوتر والاكتئاب من أبرز آثارها في الشخص المريض، ومن ثم يكون العلاج الدوائي بالعقاقير أمراً لا بد منه من أجل تخفيف حدة هذه النوبات والاختلاجات المرافقة لها.

ومن الواجب الحذر الشديد من إصابة المرضى بالإدمان على هذه العقاقير وترشيد استخدامها؛ إذ إنَّ المصاب بالشخصية التبعية يعتمد على هذه العقاقير كما يعتمد على الأشخاص، فيجب الانتباه من ألَّا يكون العلاج سبباً في تطور المرض.

3. العلاج السلوكي المعرفي:

تُعَدُّ هذه الطريقة من الطرائق النفسية الناجحة جداً في علاج الشخصية التبعية، والغاية من وراء هذه الطريقة هي مساندة الأشخاص المصابين في تخفيض حدة الاتكال على الآخرين في حياتهم اليومية، وزيادة تقدير الذات وحب النفس، وتلقينهم المهارات المطلوبة لحياتهم اليومية، ودعمهم من أجل البدء بالاستقلالية والجرأة على اتخاذ القرارات بمعزل عن تأثير المحيط فيهم ودون طلب مشورتهم.

إقرأ أيضاً: علامات تدني تقدير الذات وأسبابه

4. العلاج النفسي:

هذه الطريقة في علاج الشخصية التبعية يمكن أن نَعُدُّها سلاحاً ذا حدين؛ وذلك لأنَّه يجب على الطبيب النفسي دعم المريض وتقديم المشورة والنصيحة له خلال فترة زمنية طويلة، وضمن هذه الفترة يجب الحذر من أن يتعلَّق به المريض وأن يجعله ملاذه الآمن الوحيد، فالفترة الطويلة للعلاج بهذه الطريقة قد تسبب بعض الأعراض الجانبية، ومع ذلك فإنَّها تُعَدُّ من الطرائق الناجحة في العلاج، وينصح المتخصصون بأن تكون جلسات العلاج متقطِّعة وعلى فترات متباعدة وهذه خطوة هامة في العلاج.

5. العلاج الأسري:

يهدف العلاج بهذه الطريقة من طرائق علاج الشخصية التبعية إلى إزاحة الغطاء عن الرباطات الأسرية وطريقة التعامل، وكشف الأمور الغامضة التي قد تقود إلى الإصابة بالشخصية التبعية؛ إذ إنَّه من المعروف أنَّ أهل المصاب هم من يصطحبونه إلى جلسات العلاج، كما أنَّ لاشتراك الأزواج في هذا العلاج أهمية كبيرة في التخلُّص من اتكالية أحدهما على الآخر، ومساعدة الطرفين على إنشاء علاقة صحية بينهما.

شاهد بالفديو: 12 طريقة لتعزيز التواصل الأسري

6. العلاج الشخصي:

وهو من الطرائق الحديثة المتبعة في علاج الشخصية التبعية؛ إذ يُلقِّن الطبيب النفسي المريض أساليب مديدة الأجل في كيفية التعامل مع الوسط المحيط، فيحث الطبيب المريض على الانتباه إلى أنَّ كيفية التعامل مع هذا الوسط أدت إلى توليد شخصيات تبعية فيما بينهم، فيدرك المريض كيف أنَّ الشخصية التبعية التي يعاني منها لها عدة مضاعفات سلبية، ويدرك كيف يدفع على الدوام فاتورة هذه الشخصية التي يعاني منها.

يعالج الطبيب من خلال هذه الطريقة الشخصية التبعية عن طريق تقديم المساعدة للمريض لاكتشاف طرائق بديلة وفعالة للتعامل مع الوسط المحيط، واستنباط طرائق سلوكية جديدة وفعالة لحياة أكثر إيجابية.

في الختام:

إنََّ اضطراب الشخصية التبعية يظهر دائماً في المراحل العمرية الصغيرة؛ لذا فإنَّ المتابعة الحثيثة والعلاج الناجح سوف يقود إلى جعل الأفراد الذين يعانون من هذا الاضطراب أشخاص طبيعيين وفاعلين في المجتمع.

المصادر: 1، 2، 3، 4، 5




مقالات مرتبطة