السعي لإرضاء الآخرين: تعريفه، وأسبابه، وأضراره، وطرق التخلص منه

هل تشعر أنَّ الدَّافع الحقيقي وراء كل تصرفاتك وسلوكاتك هو الرغبة في كسب رضا الآخرين؟ وهل تجد أنَّه من الصعب عليك قول "لا" في وجه الآخرين؟، وهل تخاف من خسارة الآخرين؟ وهل تطمح بأن تكون الشَّخص الآسِر القادر على إرضاء جميع البشر؟



يلهث كثيرٌ من الأشخاص إلى الفوز برضا الآخرين، متوقِّعين أنَّهم بذلك قد ضَمِنوا علاقات طيبة وخالية من المشكلات معهم، ويغيب عن أذهانهم حقيقة أنَّهم كلَّما قدَّموا إلى الآخرين بدون حساب؛ ازداد إنكار الآخرين لهم ولحقوقهم ووجودهم.

يميل كثيرٌ من الأشخاص إلى تعليق قيمتهم الذَّاتية على الآخرين، فيتذبذب إحساسهم بذواتهم بفعل تذبذب آراء الآخرين عنهم، فتجدهم تارة منطلقين على الحياة، وتارة يائسين وتعيسين.

إن كنتَ شخصاً ساعياً إلى إرضاء الآخرين وذلك على حساب راحة بالك وجهدك ووقتك؛ فأنت شخص بعيد كل البعد عن السعادة الحقيقية، وعن ذاتك الصرفة. وإن رغبتَ في لمس حقيقتك؛ فابق معنا في هذا المقال.

ما هو السَّعي إلى إرضاء الآخرين؟

يشعر الإنسان بالسَّعادة عند حصوله على ثناء الآخرين وقبولهم، ويُعدُّ هذا الشعور طبيعيَّاً للغاية، إلَّا أنَّه قد يتحوَّل إلى إدمان حقيقي ومرض خطير في حال تخلِّي الإنسان عن قيمه وأولوياته ورغباته في سبيل كسب رضا الآخرين. على سبيل المثال: "يطلب منك صديقك الذَّهاب معه للتبضع، فتوافق على الذَّهاب معه بالرُّغم من أنَّك متعب للغاية؛ وذلك لأنَّك لا تقوى على رفض طلبه وتخاف من خسارته، فتُضحِّي بصحتك وراحتك في سبيل كسب رضاه".

شاهد بالفيديو: 10 طرق تشعرك بطعم السعادة الحقيقية

لماذا نسعى إلى إرضاء الآخرين؟

1. التربية:

تعود الجذور الأساسيَّة لهذا الأمر إلى نمط التربية المتَّبع في الطُّفولة؛ حيث يميل معظم الآباء إلى تصدير "الحب المشروط" إلى أبناءهم، كأن تقول الأم لابنها: "ادرس وكن لطيفاً وإلَّا لن تنال حبِّي"، "كن مهذَّباً مع الآخرين لكي أحبُّك"، الأمر الَّذي يَخلُق لدى الطِّفل معتَقَداً راسخاً بأنَّ عليه العمل بجدٍّ لكي يحصل على رضا أبويه عنه، فلا يهم ما يشعر به كإنسان أو ما يرغب به، بل كل ما يهم هو حصوله على رضا الأبوين. تتضخَّم الحالة لدى الطِّفل وصولاً إلى سعيه لكسب رضا الآخرين عنه.

2. المفاهيم المشوَّهة:

يتربَّى أغلب الأطفال على عدِّ حب الذَّات وتفضيلها ضرب من ضروب الأنانيَّة، وأنَّ الإنسان الحقيقي هو ذاك الَّذي يفضِّل الآخرين عليه، ويُقدِّم احتياجاتهم على احتياجاته. في حين أنَّ محبة الذات هي الخطوة الأولى لمحبة الآخر.

3. اختلاط الحقائق:

لا يعتمد أغلب البشر على المبادئ الثابتة؛ بل يستقون أفكارهم وآراءهم بناء على الموروثات المجتمعيَّة، وعلى مفهوم الصح والخطأ الشَّائعين، الأمر الَّذي يجعل بوصلتهم خارجيَّة، عوضاً عن كونها داخليَّة؛ فيتحوَّلون إلى أتباع بدلاً من كونهم أسياد حياتهم.

4. الخوف من الرَّفض:

يعيش كثيرٌ من الأشخاص في حالة من الهشاشة النَّفسيَّة؛ إذ يسلِّمون مفاتيحهم إلى النَّاس، ويبقون في حالة من الاستجداء؛ إذ يُعلِّقون احترامهم الذَّاتي على مقدار قبول الآخرين لهم، وبالتالي يرتفع وينخفض احترامهم لذاتهم بناءً على نظرة الآخرين لهم. يتملَّك الكثيرون الخوف من رفض الآخرين لهم، فيتنازلون عن قيمهم واحتياجاتهم لكسب رضا الآخرين دون أن يعلموا أنَّهم المصدر الأساسي للقوة والعظمة.

5. الكمال الوهمي:

يتبنَّى كثيرٌ من الأشخاص قضية الكمال كوسيلة لتعويض نقصهم الذَّاتي وعدم إحساسهم بالاستحقاق؛ فيسعون إلى إرضاء الآخرين لكي يحصلوا على عبارات الشُّكر والعرفان منهم. تساعد فكرة الكمال هؤلاء على بناء ترسانة متينة لتأكيد فكرة أنَّهم أقوياء وقادرون على الفوز بقبول الآخرين.

6. تشوُّه اللطافة:

يعتقد كثيرون ممَّن يعشقون "اللَّطافة" أنَّ كلمة "لا" غير مؤدَّبة وغير لطيفة، ولا يجوز التعامل بها مع الآخرين. لا يعلم أولئك أنَّ كلمة "لا" أساسيَّة ولابُدَّ من استخدامها لحماية حدودنا الشَّخصيَّة، وأهدافنا، وأولويَّاتنا، وذواتنا.

7. التعليق الخاطئ للقيمة:

عندما تغيب الرِّسالة والهدف عن حياة الإنسان، فإنَّه يلجأ إلى تعليق قيمته على البشر من حوله؛ فيسعد حين يمدحونه، ويحزن حين ينتقدونه، الأمر الَّذي يجعله في حالة من المزاجية المفرِطة. كم نشاهد اليوم أشخاصاً قد أدمنوا البحث عن قبول النَّاس واستحسانهم، فيقضون يومهم يتابعون منشورات التواصل الاجتماعي خاصَّتهم لكي يحصدوا عدد المعجبين بهم، ويحزنون بشدَّة في حال انخفاض عدد متابعيهم.

8. تجنب النَّقد:

ينتاب كثيرٌ من النَّاس الخوف الشديد من نقد الآخر لهم؛ وذلك لعدم إحساسهم بالثَّقة ولِقلَّة تصالحهم مع الذَّات، فهم لا يعترفون بحقيقة أنَّ الإنسان خليط من نقاط القوة والضَّعف، فيميلون إلى الرُّضوخ للآخر بأي ثمن لكي لا يوجِّه لهم أيَّة ملاحظة أو تعليق سلبي.

9. الإلزاميَّة:

يُحمِّل كثيرٌ من النَّاس أنفسهم أعباءً إضافيَّة؛ فيشعرون أنَّهم مُلزَمون بنيل رضا الآخرين عنهم، ومسؤولون عن إسعاد الآخرين من حولهم، لذلك يبذلون كل ما في وسعهم لتحقيق هذا الالتزام، دون الاكتراث بأولوياتهم الشَّخصية أو رغباتهم وتخطيطاتهم.

10. المكافأة العشوائية:

يعتاد العقل البشري على المكافأة في حال كونها متكرِّرة ومستمرة، ويُدمِنها في حال كونها متقطِّعة، يعتاد الطفل -على سبيل المثال- على المكافأة التي يقدِّمها له أبواه باستمرار بعد حصوله على درجة عالية، وينخفض بالتالي حماسه للإنجاز.

في حين يُدمِن مستخدم الفيسبوك حصد مكافآت البشر وذلك لأنَّهم يُقدِّمونها بطريقة عشوائيَّة، فقد يُعجبَون بمنشوراته اليوم، ولا يُعجَبون بها غداً، فيبقى الإنسان في حالة سعي للحصول على المكافأة المتوقَّعة، إلى أن يُدمِن إرضاء الآخرين.

يقع كثيرٌ من النَّاس ضحية التوقعات العالية؛ فيرسمون حياتهم مُتمنِّين تحقيق الآخرين لتوقعاتهم، وينصدمون نفسيَّاً في حال عدم تلبية الآخرين لتوقُّعاتهم.

إقرأ أيضاً: 6 طرق تُمكنك من قول 'لا' لطلبات الآخرين

ما الذي أخسره إن كنتُ أسعى إلى إرضاء الآخرين؟

1. الاستغلال:

إن كنتَ ممَّن يسعون إلى إرضاء الآخرين على حساب راحتهم الشَّخصيَّة؛ فستكون ضحيَّة للاستغلال؛ حيث سيميل معظم المحيطون بك إلى استخدامك كوسيلة للوصول إلى طموحاتهم وأهدافهم.

2. قلة الثقة بالنفس:

إن كنتَ ممَّن يعيش لإرضاء الآخرين؛ فستخسر نفسك في النهاية، وتتشوَّه لديك الثِّقة والتوازن النَّفسي. عندما تتجاهل في كل مرَّة صوتك الدَّاخلي الرَّافض وتقبل العرض المقدَّم إليك من الآخر على الرُّغم من عدم ملاءمته لك؛ فأنتَ تُرسِّخ في عقلك فكرة أنَّ احتياجاتك ورغباتك غير هامَّة، وأنَّ كل ما يهم هو احتياجات ومتطلَّبات الآخر، الأمر الَّذي ينعكس سلباً على ثقتك بنفسك وصورتك الذِّهنيَّة عن ذاتك.

3. استهلاك الطاقة والوقت:

عندما تُدمِن السعي إلى إرضاء الآخرين؛ ستقع في دوامة لوم الذَّات والإحساس الدائم بالذنب، وستشعر أنَّك غير كافٍ في كل مرَّة لا تحصل فيها على توقعاتك من الطَّرف الآخر، إلى أن يصل بك الأمر إلى استهلاك ذاتك، وطاقتك، وجهدك في سبيل كسب رضا الآخر بهدف الحصول على قيمة الاحترام الذاتي المفقودة لديك.

تدور في هذه الحلقة المفرَغة من المشاعر السلبية، دون أن تعلم أنَّك كلَّما تنازلتَ عن ذاتك ورفعتَ من الطَّرف الآخر؛ همَّشك الآخر وقلَّل من قيمتك. فكيف تنتظر من الآخر أن يحترمك إن كنتَ لا تحترم ذاتك.

4. خسارة الآخرين:

إن كنتَ تعتقد أنَّك ستكسب الآخرين بطريقتك هذه؛ فأنت محطئ تماماً. حيث يعشق النَّاس الشَّخص القوي صاحب المواقف الثابتة، القادر على الدفاع عن مبادئه وقناعاته، والمُتمسِّك بأولوياته وأهدافه، ويميلون إلى استشارته في أمورهم الشخصيَّة، في حين أنَّهم لا يبالون بذلك المُتلوِّن عديم الشخصية والهوية، الساعي إلى إرضاء الآخر، والمُتخلِّي عن قيمه واحتياجاته في سبيل كسب الآخرين.

5. البعد عن الرسالة والهدف:

ستبتعد عن ذاتك الحقيقيَّة وأهدافك في كل مرة تُدمِن فيها السعي لإرضاء الآخر؛ وذلك لأنَّك تُقدِّم احتياجات الآخرين على احتياجاتك، وأهدافهم على أهدافك، الأمر الذي يصيبك بالاضطراب والحزن، فلا يمكن أن تشعر بالأمان والسَّلام بعيداً عن قيمك الأصلية ورسالتك الحقيقيَّة.

إقرأ أيضاً: 5 خطوات لوضع حدود شخصية لنفسك

كيف أتخلَّص من داء إرضاء الآخرين؟

1. تحرَّر من عبودية المجتمع:

اعلم أنَّ ما يقبع خلف سعيك لإرضاء الآخرين هو خوفك من نظرة المجتمع نحوك ورغبتك الملحَّة والشَّديدة في الحصول على قبول النَّاس لك لكي تتنفَّس وتنتعش في حياتك، فالحقيقة أنَّك تعطي الآخرين حجماً كبيراً وتمنحهم الصلاحية التامة لصنع حياتك بعيداً عن هويَّتك وقيمك الذَّاتية، لذلك عليك أن تتحرَّر من كل ما هو خارجي، وتتصل مع ذاتك الحقيقيَّة، صانعاً بوصلتك الدَّاخليَّة، ومُركِّزاً على ما تريده بالفعل وما يشبهك حقَّاً، مع مراعاة القيم والمبادئ العامة والأساسيَّة، وبغضِّ النَّظر عن قبول المجتمع لما تريد أو رفضه له.

اكسر خوفك، وافعل ما تريده بمنتهى الثِّقة، فبما أنَّ ما تريد فعله لا يخالف المبادئ العامة ولا يسبِّب الأذية لأحد ويستند على الحلال والحرام، فافعله ولا تكترث بأحد. فعلى سبيل المثال، إن كنتَ راغباً في جعل حفل زفافك في المنزل بدلاً من المطعم وبحضور عدد قليل من الأشخاص، فافعله ولا تكترث لرأي أيَّاً كان. بل افعل ما تريده حقَّاً، واسمح لصوتك الدَّاخلي بالانطلاق.

2. تعلَّم أن تحبَّ ذاتك:

تقبَّل ذلك الجزء الخائف في داخلك، وأعطِه حبَّاً واعترافاً، وقُل لذاتك: "أنتِ مُهمَّة جداً، ولك الأولوية القصوى، ولن أفعل إلَّا ما يتناسب مع قيمكِ واحتياجاتك". عاهِد ذاتك بأنَّها ستكون في مكان آمن وقريبة من كل شيء تحبُّه ويُشبِهها.

3. استثمِر في ذاتك:

استثمِر في هواياتك، وطوِّر من مهاراتك وقدراتك، فمن شأن ذلك أن يقوِّي ثقتك بنفسك، ويعزِّز من صورتك الذِّهنيَّة الإيجابيَّة عن ذاتك، ويُبعِدك عن استجداء ثقتك من الآخرين.

4. قوِّ إيمانك بالله:

اعلم أنَّك مكرَّم وغني وثري، وتذكَّر أنَّ مصدر طاقتك الحقيقي هو اللَّٰه وليس النَّاس، لذلك اربط قيمتك مع اللَّٰه، وافعل الأشياء الَّتي يرضى اللَّٰه عنها، ولا تكترث بالنَّاس ورأيهم عنك. عندما تُشحَن طاقتك وثقتك من اللَّٰه؛ تصبح أقوى وأنضج وأرقى، ولن تبالي بكل ما يقوله النَّاس عنك.

إقرأ أيضاً: كيف يُثري حب الله حياتنا؟

5. احترِم ذاتك:

لا تنتظر من الآخرين أن يحترموك إن كنتَ لا تحترم ذاتك بالشَّكل الكافي. ابنِ حديثاً داخلياً راقياً مع ذاتك، وادعمها بكل أشكال الدَّعم، وتقبَّل نقاط ضعفها، ولا تطلب منها الكمال بل اطلب منها التطوُّر المستمر والسَّعي الدَّائم. فعلى سبيل المثال، لا تُوبِّخ ذاتك إن قمتَ بتصرف خاطئ ما؛ بل حافِظ على احترامك لها، وقل لها: "أنا أحبّكِ وأعرف أنَّ تصرُّفكِ لم يكن لائقاً لكنَّني واثق من مرونتكِ وقدرتكِ على الاستفادة من الأخطاء".

6. تدرَّب على العلاج:

لكي تُشفَى من هذا الدَّاء عليك أن تكون صبوراً وأن تتدرَّب تدريجيَّاً على العلاج، وأن تتحمَّل مسؤولية الأمر، فأنتَ القادر على إعادة كل الأمور إلى نصابها الحقيقي. تقبَّل نقد الآخرين لك فهو فرصتك للتطور، وإيَّاك أن تهرب منه.

يعاني كثيرٌ من الأشخاص ممَّن هم مصابون بداء إرضاء الآخرين من الاستجابة السريعة لطلبات الآخرين؛ بحيث يتسرَّعون بقول "نعم" بدلاً من قول "لا"، لذلك إن كنتَ غير قادرعلى قول "لا" فتستطيع اعتماد سياسة التأجيل بداية في حال طُلب منك أمرٌ ما وذلك لكي تكسب الوقت للتفكير وإعطاء القرار، وغلِّف بعد ذلك قرارك بطريقة ايجابية وذكيَّة، فعلى سبيل المثال: إن طَلب منك صديقك تقديم خدمة له، فتستطيع أن ترفض طلبه بذكاء، كأن تقول له: "أنت تعلم كم أحبك، ولكن لديَّ كثيرٌ من الواجبات غداً ولا أستطيع تأجيل أيَّاً منها، لذلك أنا غير قادر على مساعدتك غداً، ولكنَّني مستعد لتقديم الخدمة لك في اليوم الفلاني إن كنتَ راغباً بذلك".

7. اكسر تعلُّقك بالأمور:

كن حيادياً، ولا تتعلَّق بأيِّ أمر، ولا تبنِ آمالاً وتطلعات على الآخرين؛ بل ابنِ توقعاتك على ذاتك فحسب، ولا تنتظر من الآخرين شيئاً، وقدِّم كل ما تقتنع به، وما هو متناسب مع قيمك ومبادئك واربطه مع اللَّٰه؛ حينها لن تأبه بنظرة النَّاس عنك.

الخلاصة:

أنتَ قوي بخالقك، وبتميُّزك، وبذاتك، وبقيمك، وبأهدافك، ورسالتك. ساعِد الآخرين وقدِّم لهم يد العون ولكن ليس على حساب أولوياتك وتوازنك النفسي والروحي. اعلم أنَّك الأصل في كل شيء، لذلك غذِّ ذاتك أولاً واجعلها ممتلئة وعندها ستتخلَّص من تعلُّقك بالآخرين، وستنطلق حراً، وغنياً، وجميلاً، فالحرية تجعلك أجمل بكثير.

 

المصادر: 1، 2، 3، 4، 5




مقالات مرتبطة