عقد الكثير من الأشخاص صيغة استسلامٍ وخنوعٍ مع الحياة، فتجدهم متشائمين، ومُتخبِّطين بين مشكلةٍ وأخرى، وسامحين لظروف الحياة بالتحكُّم بهم والسيطرة على قراراتهم ومساراتهم؛ بينما تبنَّى بعضهم الآخر ثقافة التفكُّر والتَّأمُّل والتعقُّل، سائلين أنفسهم أسئلةً وجوديَّةً تُحفِّزهم على السعي والاكتشاف وتحقيق الغايات، مثل: "ما سبب التخبُّطات التي تحصل في حياتي"، أو "هل لي دورٌ في عرقلة وصولي إلى حالة السلام الداخلي؟ أم أنَّ الموضوع خارجٌ عن سيطرتي؟".
نوجِّه هذا المقال إلى الفريق الإيجابي الناضج من هؤلاء، باحثين في الأفكار المُعرقِلة للوصول إلى حالة التوازن النفسي.
ماذا عن الجهد والسعي؟
يميل الكثير من الأشخاص إلى عيش الحياة بكسل، فتجدهم يميلون إلى التأفُّف من أيِّ عملٍ يتطلَّب بعض التفكير أو السعي، فهم محكومون بثقافة "الجاهز" و"التسليم بالموروث"؛ ممَّا يُبعِدهم عن إعمال العقل أو محاولة نسف التراكمات المجتمعية الخاطئة، غير مُدرِكين أنَّنا خُلِقنا من أجل السعي وتسلُّق هرم الوعي مرحلةً بعد مرحلة، ويتطلَّب هذا الأمر الكثير من السعي والجهد والطاقة، فمواجهة الأفكار المُتأصِّلة في عقلنا الواعي وإعادة النظر في صحتها ومنطقيَّتها؛ من أصعب التحديات وأكثرها حاجةً إلى السعي الحقيقي.
ولكن، لعلَّ هذه المواجهة تستحقُّ الجهد المبذول في سبيلها، ولعلَّها ستساعدنا في بلوغ حالة السلام المنشودة.
شاهد بالفيديو: 9 نصائح تساعدك في الوصول إلى السلام الداخلي
مفاهيمٌ بحاجةٍ إلى إعادة النظر:
1. الاستحقاق أقوى من اعتقادك:
يعتقد الكثيرون أنَّ معنى الظنِّ هو الشَّك، في حين أنَّ الظنَّ في المعنى القرآني هو شدَّة الاعتقاد وشدَّة الإيمان، فقد قال تعالى: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ}؛ ولكنَّ الظنَّ لا يطغى على الحق، بل الحقُّ أقوى بكثيرٍ من الظن، فهو قانونٌ كونيٌّ يُنفَّذ لا محالة.
على سبيل المثال: هناك قانونٌ كونيٌّ مختصرٌ في قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}، ويعدُّ هذا القانون "حقَّاً"، أي أنَّ كلَّ شخصٍ يفعل سيئةً يستحقُّ سيِّئةً مثلها أيَّاً كان الظنُّ الذي يتبنَّاه؛ فإن كان الشخص مُلتزماً بحضور دوراتٍ تدريبيَّةٍ عن تطوير الذات ويُطبِّق تمرينات التوكيدات الإيجابيَّة وتدريبات الجذب، لكنَّه يقوم بفعلٍ سلبيٍّ ويُسبِّب الأذية لشخصٍ ما أو يغتاب وينمُّ على الناس؛ لن يُحقِّق ما يسعى نحو جذبه إلى حياته، مهما كان شديد الاعتقاد به؛ لأنَّ قانون الحق سيتحقَّق لا محالة.
لذلك، علينا الانتباه بدقةٍ إلى تصرُّفاتنا وسلوكاتنا التي تُعرِقل وصولنا إلى أهدافنا، وعلينا سؤال أنفسنا باستمرار: "ما الأمور التي أفعلها، والتي تُفعِّل عدم استحقاقي للأشياء التي أرغب بها، وأعمل على جذبها إلى حياتي؟".
2. توخِّي الحذر في التعاملات:
يقع الكثير من الأشخاص في فخ "الإيكو العلمي"، فتجدهم يفتخرون بما توصَّلوا إليه من معلومات، حتَّى دون أن يطبِّقوها على أنفسهم، أي أنَّهم يُصدِّرونها دون اليقين من نتائجها، أو قد يلجأ بعضهم إلى السخرية والاستهزاء من أفكار الآخرين، لمجرَّد أنَّهم قد أتوا بفكرةٍ جديدةٍ غير منسجمةٍ مع الموروث المجتمعي، فيبدؤون إطلاق الأحكام السلبية قبل أن يتبيَّنوا ويفكِّروا بالمعلومات؛ لذلك تراهم يشعرون بضيقٍ وألمٍ نفسيٍّ دون أن يَعوا أنَّ سبب الألم هو قانون "كما تُدِين تُدان"؛ فكلُّ مَن يعطي معلوماتٍ نظريةً لم يختبر صحَّتها على ذاته، وكلُّ مَن يستهزئ ويُقلِّل من شأن الآخرين؛ سيعاني من الألم النفسي لا محالة.
لذلك، على الشخص توخِّي الحذر في تعامله مع الآخرين، والتفكُّر بدلاً من إطلاق الأحكام، فقد تكون المعلومات التي هاجمها ذات مستوى وعيٍ متقدِّمٍ عنه، وتحتاج إلى بحثٍ وسعيٍ كبيرين لإدراكها وفهمها؛ وقد تكون معلوماتٍ خاطئة. لكن في جميع الحالات، عوضاً عن إطلاق الأحكام على الآخرين، يستطيع الشَّخص مناقشة الفكرة بحدِّ ذاتها دون توجيه أيِّ إساءةٍ إلى صاحبها
3. السرُّ في "التَّحكُّم":
أصبحنا نعلم أنَّ ما يوجد في الخارج هو انعكاسٌ لداخلنا، أي نتيجةٌ لأفكارنا؛ لذلك تعدُّ القدرة على التحكُّم بالأفكار وتوجيهها في الاتجاه الصحيح من أقوى التحديات النفسية على الإطلاق، فمعيار نوعية أفكارنا هو مشاعرنا، فعندما تشعر بمشاعر سلبيَّة، لا تنغمس في الحالة وتجعلها تتفاقم، بل اسعَ جاهداً إلى مواجهة أفكارك وتوجيهها إلى مكانٍ يُثرِي تطورك ووعيك.
في الحقيقة، تحتاج هذه المرحلة إلى الكثير من التدريب العقلي على توقيف الأفكارالسلبية، أو ممارسة الرِّياضات الروحية التأملية؛ لكنَّ الأمر يستحقُّ التعب والجد، فما معنى حياتك إن كنتَ شخصاً ضعيف التَّحكم بأفكاره، ويسمح للمشاعر السلبية أن تسيطر على قراراته ومساراته؟ ففي اللحظة التي تصبح فيها متحكِّماً بذاتك وأفكارك ومن ثمَّ مشاعرك، ستُحسِن السيطرة على حياتك، ولن تكون عبداً للظروف بعد اليوم.
4. الحكاية تراكميَّة، والصورة الذهنية مفيدة:
يُكوِّن الكثير من الأشخاص أهدافاً ساميةً رائعة، لكنَّهم يُصابون بالإحباط في أثناء التنفيذ، ويتخذون بعد ذلك قرار الاعتكاف والاستسلام، غير واعين أنَّ كلَّ هدفٍ في هذه الحياة عبارةٌ عن الكثير من الخطوات البسيطة؛ لذلك ابدأ بالمُتاح لديك، ومهما كان هدفك كبيراً ابدأ تقسيمه إلى خطوات، ونفِّذه خطوةً بعد خطوة، واعلم أنَّ عليك السعي فقط، وأنَّ اللَّه سيُبارِك سعيك، وسيفتح أمامك بعد ذلك أبواب الرزق والتيسير من حيث لا تحتسب؛ ذلك لأنَّك أخذت بالأسباب وسعيت وبذلت الجهد، فاستحقَّيت الهدف والتوفيق.
من التدريبات الذهنية التي تدعم وصولك إلى هدفك هي حالة التصور الذهني لهدفك، إذ يكون تخيُّلك للحالة التي تريد أن تكون عليها بمثابة كتابتك لقدرك الخاص بك. سيؤدِّي الجمع بين التصور الذِّهني والسعي النفسي إلى هدفك وتقسيمه إلى خطوات والعمل على تنفيذها؛ إلى بلوغه حتماً.
5. أنتَ مَن تكتب قدرك:
من أكثر الأفكار المُعرقِلة للوصول إلى حالة التوازن النفسي هي فكرة أنَّ "قدر كلِّ إنسانٍ مكتوب؛ ومهما فعل، فلن يُغيِّر شيئاً من قدره"، في حين أنَّ قوله تعالى ينسف هذه الفكرة: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}، أي أنَّ الإنسان فكَّر وأخذ بالأسباب السيئة فاستحقَّ القدر السيء، على سبيل المثال: "شرب شخصٌ ما الكثير من الخمر، فاستحقَّ قدر السُّكر وضياع العقل والوعي، وسيُحاسَب بناءً على ما أخذه من أسباب".
إنَّ قدر الشقاء موجود، وكذلك قدر السعادة، والذي يُحدِّد أيَّ قدرٍ منهما ستعيش هو ما تتخذه من أسباب؛ إذاً فأنتَ المسؤول مسؤوليَّةً كاملةً عن واقعك، وليس ظروف البلد، أو أهلك، أو... الخ.
6. نعمة اللحظة:
يعيش مَن يُتقِن فن عيش اللحظة مرتاحاً وسعيداً وهادئاً، فلا يسمح للحدث السلبي أن يطغى على كلِّ مفاصل حياته، بل يتخطَّاه ويُركِّز على الخطوة التالية التي يريد القيام بها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها"، وهنا تأكيدٌ على أهمية التركيز على اللحظة، والسعي بما هو متاحٌ للإنسان بعيداً عن الظروف الخارجية الحاصلة.
من جهةٍ أخرى، يساعدك العفو والصفح في اكتساب مهارة عيش اللحظة، فلا تملأ قلبك غلَّاً أو حقداً جرَّاء تصرُّفٍ سلبيٍّ من أحدهم، بل سامح واجعل نيَّتك طيبةً تجاه الجميع.
7. الإفادة والاستفادة:
يُبنَى الكون على قانون "الأخذ والعطاء"، والسعادة الحقيقية هي أن تُعطِي أولاً ومن ثمَّ تأخذ، فالإنفاق مُقدَّمٌ على الأخذ، قال تعالى: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}؛ والتعاسة هي أن تُخالِف قانون "الأخذ والعطاء"، كأن تأخذ ولا تُعطِي، أو أن تُعطِي ولا تأخذ شيئاً، حيث تُفعِّل الحالة الثانية حالة "عدم الأخذ العام"، فتشعر أنَّك بحالة فقرٍ للمشاعر أو الراحة أو الاهتمام أو الرزق المادي.
ولا تنسَ أنَّ الإنفاق هامٌّ جداً، فإن طلبتَ التميُّز في مجال عملك، عليكَ بدايةً أن تُنفِق على علمك، وذلك بأن تشتري الكتب، أو تسافر لحضور دوراتٍ تطويريَّة، أو تشترك بدوراتٍ مأجورةٍ على الإنترنت.
الخلاصة:
تأكَّد أنَّ رحلة التوازن النفسي تحتاج إلى سعيٍ نفسيٍّ وعقليٍّ كبير، وإلى الكثير من الوعي والحكمة، وإلى الإيمان والثقة؛ لكنَّ كلَّ أمرٍ في الحياة عبارةٌ عن خطواتٍ صغيرة، لذلك ابدأ تطبيق مفاهيم بسيطةٍ لكن بصورةٍ صادقة، وسترى كيف ستتطور رويداً رويداً، وصولاً إلى مرحلةٍ رائعةٍ من الوعي، وإلى حياةٍ ملؤها السلام والرضا، بحيث يغدو تحقيق الأهداف نتيجةً حتميَّةً فيها.
أضف تعليقاً