الراحة النفسية وكيفية الوصول لها

لطالما كانت الحالة النفسية محركاً أساسياً لكل سلوكاتنا وقراراتنا؛ فكم من مرة قررنا فيها قراراتٍ بناءً على مشاعرنا وأحاسيسنا، وكم آمنا أنَّ العقلانية هامة جداً للحياة ومساراتها؛ لِنفاجأ بعدها بسيطرة مشاعرنا على تفاصيل حياتنا؛ إذ تقل إنتاجيَّاتنا ومستويات أدائنا في الفترة التي تطغى فيها المشاعر السلبية على حياتنا.



وبالمقابل؛ نصبح في منتهى الشغف وتصل معدلات إنجازنا إلى مراتب عالية في الفترة التي تطغى فيها المشاعر الإيجابية على حياتنا، ويكمن هنا السؤال الأكثر أهمية: "كيف لنا أن نحافظ على المشاعر الإيجابية في حياتنا؛ لكي نحافظ على جودة عيشنا؟"

لطالما اعتقدنا أنَّ المال هو ما يصنع الراحة النفسية للإنسان، ولكن يَسقُط هذا الاعتقاد عندما نشاهد الكثير من الأثرياء الحزينين والبعيدين كل البعد عن التوازن النفسي، وهنا يأتي السؤال الأكثر جدية: "ما هو سبيل الوصول إلى الراحة النفسية؟"

يقبع الخوف في دواخلنا ويسيطر على مفاصل حيواتنا، فلا نبقى قادرين على اتخاذ قرارات صائبة ونفقد الإحساس بمتعة اللحظة، ونُدمِن التفكير الزائد في المستقبل، ونبقى هكذا إلى أن تغدو حياتنا مبنيةً على أسس من الخوف وليس على أسس من الحب؛ فنقرر الزواج خوفاً من العنوسة، وليس حباً في المشاركة وبناء العائلة، ونذهب إلى عملنا خوفاً من الفقر، وليس حباً في تحقيق الفائدة والأثر.

إنَّنا نعيش حيواتنا في صراعات وتناقضات، وتبقى القدرة على مراقبة التفاصيل الصغيرة في الحياة واستنتاج الدروس الكبيرة منها؛ من أعظم النعم وأكثرها أهمية، فدائماً ما نستمر في محاولات الابتعاد عن القلق والتوتر على أمل الوصول إلى حياة مريحة نفسياً.

يبقى الإنسان المسؤول الأول والأخير عن تحقيق راحته النفسية، وذلك من خلال مستوى وعيه ونضجه، فكلما سعى الإنسان إلى التحسُّن النفسي؛ زادت قدرته على رؤية تفاصيل الحياة بعمق، وترسخ لديه الاعتقاد بأنَّ كل شيء في الكون يحدث لمصلحته ولخدمته مهما بدا ظاهره سلبياً، ما يجعله أكثر هدوءاً، فيلجأ إلى تسليم كامل شؤونه إلى الله عز وجل.

الراحة النفسية وكيفية الوصول إليها؛ هذا ما سنناقشه من خلال هذا المقال:

ما هي الراحة النفسية؟

هي حالة من الهدوء والسلام الداخلي، بطريقةٍ يكون الشخص فيها أكثر تقبلاً اختلافَ الآخر، ويكون فيها قادراً على استبطان الرسائل الإيجابية من كل الأحداث السلبية التي يتعرض إليها، فهو إنسان غنيٌّ من الداخل وواع مسؤوليته ومُقدِّرٌ النعم التي حباه بها الله تعالى، ومتحررٌ من وعي الضحية.

وتُعدُّ الراحة النفسية المطلب المنشود من قبل جميع البشر، والأساس الصحيح الذي يُبنَى عليه كل إنجاز في الحياة.

شاهد بالفيديو: 9 إرشادات تساعدك على الإحساس بالسلام الداخلي

كيف أصل إلى الراحة النفسية؟

يتطلَّب هدف الوصول إلى الراحة النفسية الكثير من التدريب والسعي فهو اجتهاد شخصي بامتياز، وإليكم بعض الخطوات لتحقيقه:

1. التفسير الصحيح للمواقف:

لكي يشعر الإنسان بمشاعر إيجابية عليه أن يكون واعياً أنَّ تفسيره الأمور هو ما يُكوِّن حالته النفسية؛ إذ يبني الإنسان فكرة ما عندما يتعرض إلى موقف ما، ومن ثم تتشكل لديه مشاعر إيجابية أو سلبية بناء على طريقة تفكيره، لينتهي الأمر بسلوك سلبي أو إيجابي يُحاكِي تلك المشاعر.

2. كسر الخوف:

يسيطر الخوف على معظم تفاصيل حيواتنا، إذ نتحرك بدافع الخوف وليس بدافع الحب، الأمر الذي يصيبنا بالكثير من المشكلات النفسية والجسدية؛ مثل: نوبات الهلع، وعدم السلام وعدم الأمان، والقلق الدائم، والتوتر الدائم، والقولون العصبي، والمشكلات المعدية، والنوبات القلبية، وأمراض الضغط والسكري.

تأتي معظم مخاوفنا من أوهام، إذ نبقى أيامنا ونحن في خوف شديد من المستقبل، وعوضاً عن توقع السيناريوهات الأكثر إيجابية؛ نميل إلى توقع السيناريوهات الأكثر سلبية.

لكي نكسر الخوف علينا بداية أن نسأل أنفسنا عن الدافع وراء قيامنا بأي شيء، والدافع وراء رغبتنا في أي هدف، فإن كان دافعنا الخوف، عندها يجب توجيه دوافعنا بطريقة تكون فيها مبنية على الحب؛ على سبيل المثال: إذا كنتِ ترغبين في الزواج خوفاً من العنوسة، فهذا مؤشر خطير؛ لأنَّ طاقة الخوف طاقة قاتلة ولن تجذب إلا الأحداث السلبية إلى حياتك؛ إذ يَبث الخوف طاقة فقر إلى الحاجات التي نريدها في حيواتنا؛ لذا عليكِ البحث عن دوافع إيجابية وغنية وقوية لهدفك من أجل أن تجذبي الأمور الإيجابية إلى حياتك، كأن تفكري بالزواج حباً بالمشاركة والاستقرار والأولاد، وعليكِ أيضاً أن تواجهي الخوف لا أن تهربي منه؛ فكلما واجهتِه بنيتِ في عقلك الباطن إدراكاً بأنَّكِ أقوى من مخاوفكِ وأنَّكِ مسيطرة على الحالة.

3. التفريغ والدروس المستفادة:

نمضي في حياتنا حاملين كل مشاعر الماضي القاسية في قلوبنا، مستسلمين لكل تجاربنا السلبية الماضية، سامحين لها أن تشوه لحظاتنا وتمنعنا من الاستمتاع بحاضرنا؛ وسبب ذلك أنَّنا لم نعِ أهمية مصارحة الذات، وتفريغ المشاعر السلبية؛ وذلك من خلال تقبلها والسماح لها بالعبور وإيقاف رفضها وإيقاف كبتها في الداخل، ومن ثم محاولة استخلاص الدروس المستفادة من الماضي.

4. التقبل:

تبدأ الراحة النفسية من تقبل الذات بطريقةٍ يعيش الإنسان فيها ذاتَه الحقيقية بلا تصنُّع ولا تجميل، وبحيث يقبل كلا جانبيه الإيجابي والسلبي، ويسعى إلى تحسين الجانب الإيجابي؛ ولكن دون أن يرفض الجانب السلبي؛ إذ لا تُولِّد حالة الرفض إلا الصراعات والمشاعر السلبية؛ وخير مثال على التقبُّل قول شيخ الإسلام ابن تيمية عندما سُجن: "ما يفعل أعدائي بي؟ إنَّ جنتي وبستاني في صدري؛ فإنَّ قتلي شهادة، وسَجني خَلوة، ونفيي سياحة".

ويشمل التقبُّل أيضاً تقبُّلك الآخر، والابتعاد عن الأحكام السلبية في حق الآخرين والتي تؤدي إلى ابتعاد الإنسان عن النهج الإسلامي الذي يأمر بحسن الظن، إذ يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [ سورة الحجرات: الآية (12)].

وعن أبي هُرَيرةَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ" (البخاري:6064) فسوء الظنِّ يسبب للإنسان مشاعر الوحدة والضيق النفسي، كما يُقفل الحُكمُ المسبقُ كلَّ أبواب الفوائد التي قد تأتي للإنسان من خلال ذلك الشخص، وبالإضافة إلى ذلك فهو يظلم ذلك الشخص، فما من إنسان يعلم ميزان الحسنات والسيئات الموجود لدى إنسان آخر؛ لذلك فليسقط أي حكم مسبق نطلقه على الآخر وذلك لعدم دقته.

إقرأ أيضاً: تقبّل أخطاء الآخرين ومسامحتهم

5. نسف الموروثات المعرقلة والشغف والمسؤولية التامة:

تتحكم الكثير من الأفكار المجتمعية بطريقة حيواتنا، دون أن نعي أنها مدمرة تماماً؛ كفكرة أنَّ الأغنياء جميعهم أشخاص لا يملكون أية مبادئ أو أخلاق، أو كفكرة أنَّ الدنيا دار شقاء، أو كفكرة أنَّ الفقير قدره الفقر ولا نفع من محاولاته، وغيرها من الأفكار التي تعزز وعي الضحية في المجتمعات.

في حين أنَّ الإنسان هو المسؤول عن كل ما يحدث في حياته، إذن باستطاعة هذا الإنسان إنشاء ظروفه الخاصة أياً كانت الظروف الخارجية المحيطة به، فهو متحرر من وعي الضحية، ويعلم أنَّ لديه القدرة على الوصول إلى ما يريد، وذلك من خلال تحديد شغفه ورسالته في الحياة وأهدافه، ومن ثم البدء بالمتاح لديه حالياً بوصفه خطوةً أولى، ثم محاولة تحسينه يومياً، والتأكد من أنَّ النجاح حالة تراكمية تتطلب الصبر، والإيمان أنَّ خلف كل مطب يتعرض له؛ درساً إيجابياً يجب عليه اكتشافه والتعلم منه.

6. التحكم بالأفكار:

على الإنسان أن يملك مهارة التحكم بالأفكار، وتوجيهها إلى الاتجاه الصحيح، فعندما يشعر أنَّه آخذ بالتفكير السلبي والتذمر والشكوى والغضب؛ عليه أن يُعِيد توجيه البوصلة إلى الاتجاه الصحيح، فيركز على النعم الموجودة في حياته، ويستثمرها، ويشكر الخالق عليها.

ومن جهة أخرى، على الإنسان أن يسأل السؤال الصحيح في الوضع السلبي الذي يمر به؛ فإن كان يمر بحالة غاضبة ومتوترة، فلا يجب عليه الاستمرار في الكلام عن مشاعره السلبية ووصف وضعه المأساوي؛ بل عليه تحويل الوضع من خلال طرح السؤال التالي: "كيف لي أن أصل إلى حالة الهدوء؟" من شأن سؤال كهذا أن يُولِّد الكثير من الاحتمالات الإيجابية بهدف الوصول إلى الهدوء النفسي؛ كأن يستنتج الإنسان أنَّ الحركة والرياضة مفيدة من أجل منحه حالة من الراحة النفسية.

7. عيش اللحظة:

لا يعيش أغلب الناس لحظاتهم، بل يقضون أيامهم بالتفكير في الماضي والمستقبل، وينسون اللحظة، الأمر الذي يجعلهم أسرى القلق والتوتر؛ ولكي تعيش الراحة النفسية؛ عليك بعيش اللحظة، والاستمتاع بها، وهذا لا يمنع وضعَ أهداف مستقبلية ومحاولة تحقيقها؛ ولكن دون أن تنسى عيش لحظتك.

إقرأ أيضاً: 5 أسباب كي تعيش اللحظة الحالية وتتوقف عن المبالغة في التخطيط

8. الإنفاق والأخذ:

الأصل في الحياة أن تُعطِي وتأخذ، فإن تبنيتَ ثقافة الأخذ فقط، أو ثقافة العطاء فقط؛ فكلاهما لن ينفعاك؛ بل سيضعانك في حالة نفسية قاسية، فالأجدر بك أن تتعلم العطاء بحب وسخاء، ومن ثم تتلقى المقابل بمرونة ورضا.

9. الأمان والتعلق:

لا تجعل المال أو شريك الحياة أو الوظيفة مصدر أمانك؛ لأنَّك ستصبح معرضاً للانهيار في حال اختفائهم من حياتك، فالتعلق من أشد المشاعر السلبية قسوة على الإطلاق؛ لذا عوِّل على رب العالمين فحسب، فهو مصدر الأمان الوحيد، وتعامل مع باقي العناصر الموجودة في حياتك على أنها إضافات جميلة وهامة في حياتك ولا تتعامل معها على أنها الحياة بأسرها.

10. الرقص والبكاء:

يُعدُّ الرقص والبكاء؛ من أكثر الوسائل النافعة في تفريغ الطاقة السلبية؛ لذلك عبر عن مكنوناتك بالطريقة التي تشبهك ولا تكبتها، فالكبت من أسوأ الأمور والسبب الأساسي للكثير من الأمراض العضوية والنفسية.

الخلاصة:

لكي تصل إلى أعلى درجات الراحة النفسية، كن أنت، واستفتِ قلبك، فمشاعرك هي المعيار الحقيقي الذي يُرشدك للقيام بأي أمر في الحياة، وكن موضوعياً في محبتك الأشياء والأشخاص، واجعل مصدر أمانك هو الله عز وجل -وحده لا غير- وانظر إلى الرسائل الكامنة خلف المواقف السلبية، وعش مع رسالتك بصدق وأمانة والتزام.

 

المصادر: 1، 2، 3، 4، 5، 6




مقالات مرتبطة