التوحد الإلكتروني عند الأطفال: أسبابه، وسلبياته، وطرق التعامل معه

الثورة المعلوماتية والتكنولوجية الهائلة التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة، فسحت المجال للأجهزة الرقمية والهواتف الذكية لاكتساح حياتنا، فأصبح الكثير من الأعمال والمهام مرتبط ومتوقف عليها، فضلاً عن غزوها عالم الترفيه والألعاب، فأصبح أطفالنا اليوم يقضون أوقاتاً طويلةً على الشاشات وبصحبة هذه الأجهزة، لتصبح حياتهم متمحورةً حولها فحسب، منعزلين بذلك عن المجتمع والأصدقاء وحتى الأهل، وهذا ما جعل الأمر خطيراً ومثيراً للقلق فعلاً.



حان الوقت إذاً لنسأل أنفسنا، هل من الطبيعي كل ما يحدث؟ وما التأثيرات النفسية والسلوكية والجسدية التي يتركها قضاء أوقات طويلة بصحبة هذه الأجهزة الإلكترونية؟ ما التوحد الإلكتروني، وما سلبياته على الأطفال؟

التوحد الإلكتروني وأسبابه:

استخدام الأطفال المتزايد لوسائل التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية، وانغماسهم في عالم افتراضي يمتزج فيه الواقع بالخيال، هو ما سمَّاه مختصون أوروبيون التوحد الإلكتروني أو التوحد الافتراضي؛ أي ضعف صلة الأطفال والمراهقين بواقعية التفاعل الاجتماعي، وضعف تعلُّم المهارات التواصلية والاجتماعية الأساسية.

علاقة التوحد الإلكتروني بطيف التوحد:

معدلات الإصابة أو التشخيص باضطرابات طيف التوحد، تزايد بشكل كبير في العقود الأخيرة؛ إذ تشير الدراسات في الولايات المتحدة الأمريكية، وفقاً لما نُشر في مراكز (CDC) لمراقبة الأمراض والوقاية منها، إلى أنَّ معدل الإصابة باضطرابات طيف التوحد كان طفلاً واحداً من كل 5000 طفل في عام 1975، وقد ارتفعت المعدلات في عام 2005 لتصبح حالة واحدة من كل 500 طفل، وفي عام 2014 ارتفعت المعدلات أكثر لتصبح حالة واحدة من بين 68 طفلاً، فضلاً عن أنَّ الدراسات والإحصائيات الحديثة أشارت إلى ارتفاع خطير في معدل الإصابة حالياً، حيث وصل إلى حالة واحدة من كل 45 طفل. وهنا بدأ التساؤل المهم يحوم في الأفق، هل هناك علاقة بين العصر الإلكتروني وبين ارتفاع معدلات التشخيص والإصابة؟ وهل قضاء الساعات الطوال برفقة الأجهزة الإلكترونية سبب في ذلك؟

أثبتت الدراسات الحديثة أنَّ هذه الممارسات ليست مسبباً رئيساً في ظهور أعراض طيف التوحد، بل تُعدُّ عاملاً مساعداً فحسب في حال وجود الأعراض التشخيصية، أو وجود استعداد لظهورها عند الطفل.

ما يحاول البعض الترويج له، من أنَّ الأجهزة الإلكترونية وإدمانها هي السبب الرئيس في اضطرابات طيف التوحد، ليس صحيحاً. ولكن في الوقت نفسه، لا يمكن إغفال أنَّ التخفيض من استخدامها، أو إيقافها بشكل كامل، سيساعد في تخفيف بعض الأنماط السلوكية التي يظهرونها، ويزيد من ساعات تواصلهم مع المحيط، ويُخفف من انشغالهم، وهذا ما يترك تأثيراً إيجابياً فيهم.

خلاصة القول، إنَّ استخدام الأجهزة الإلكترونية والهواتف الذكية بشكل كبير من قبل الأطفال لساعات طويلة (التوحد الإلكتروني)، يُسبب أعراضاً وأنماطاً سلوكية تشبه إلى حد كبير الأعراض التي يُظهرها الأطفال المصابون بطيف التوحد، وهذا التوحد يُعالَج وتختفي كل أعراضه بمجرد إيقاف استخدامها. أمَّا في حالة طيف التوحد، فإنَّ إيقافها ليس حلاً أو علاجاً للحالة.

إقرأ أيضاً: مرض التوحد، أسبابه، أعراضه، تشخيصه، وطرق العلاج

أسباب التوحد الإلكتروني:

التطور المتسارع في عالم التطبيقات الحاسوبية، خلق عالماً جديداً للأطفال، يقضون فيه ساعات طويلة بعيداً عن العالم الحقيقي؛ لذلك كان من المهم أن نعرف الأسباب التي تجعل الأطفال يفضِّلون هذا العالم الافتراضي على عالمهم الواقعي، حيث يمكن تلخيص هذه الأسباب بالآتي:

  • قلَّة التواصل بين الأبوين والأطفال، والعزلة والبعد عنهما، إضافةً إلى انشغال الأهل عن أطفالهم، ممَّا يدفعهم إلى إعطاء أطفالهم هذه الأجهزة لإلهائهم بها.
  • الفراغ الكبير الذي يعيش فيه الأطفال، وعدم ملء أوقاتهم بأشياء مفيدة ونشاطات هادفة.
  • الاعتياد النفسي الذي يشعر به الطفل بعد جلوسه فترات طويلة على مواقع التواصل الاجتماعي، وبين الألعاب الإلكترونية، إضافةً إلى إدمان مشاعر السعادة التي تحققها له.
  • هروب الطفل من عالمه الواقعي والحقيقي إلى عالم افتراضي يستطيع فيه تحقيق الإنجازات، وإقامة علاقات لم يستطع تحقيقها في الواقع.
  • تقليد الطفل لأحد الأبوين؛ لذلك كان من الضروري جداً أن يكون سلوك الأهل مدروساً أمام أطفالهم، وعدم مطالبتهم بأشياء هم لا يقومون بها، وفي حال اضطر الأهل إلى استخدام هذه الأجهزة فترة طويلة بسبب العمل، عليهم تبرير سلوكهم أمام الأطفال.

الآثار السلبية للتوحد الإلكتروني على الأطفال:

  • أثبتت الدراسات أنَّ قضاء الطفل ساعات طويلة على مواقع التواصل الاجتماعي، أو في ممارسة الألعاب الإلكترونية، تؤدي إلى ضعف قدرتهم على قراءة المشاعر وفهمها، مثل عدم قدرتهم على إدراك الكذب في أثناء حديث ما، إضافةً إلى عدم قدرتهم على التعبير عن مشاعرهم بشكل صحيح، فيعبِّرون عن رأيهم بكلمات غير لائقة.
  • إعاقة نمو دماغ الطفل على النحو الصحيح والسليم؛ إذ بالرغم من أنَّ الطفل قد يحصل على بعض المعلومات في أثناء جلوسه إلى الشاشات، إلا أنَّ حصوله على هذه المعلومات، وحفظه للكلمات، نتيجةً لتكررها أمامه، لن يكون بذي أهمية من دون فهمها ومعرفة معناها، فمن الممكن أن يتعلم العدَّ لكنَّه لن يدرك معنى الأرقام، ومثال على ذلك: إذا طلبت منه العدَّ حتى عشرة فسيتمكن من ذلك، لكن إذا طلبت منه إعطاءك 5 تفاحات، فإنَّه لن يستطيع فهم ما تريد. ويؤثر التوحد الإلكتروني أيضاً في وظائف الدماغ فيجعلها خاملة، ممَّا يؤثر في الذاكرة طويلة الأمد، ويُسبب كثيراً من صعوبات التعلم.
  • تظهر على الأطفال المصابين بالتوحد الإلكتروني، أعراض الطفل المصاب بطيف التوحد نفسها، ويُظهرون الأنماط السلوكية نفسها تقريباً، وقد يُعتقد أحياناً أنَّ الطفل مُصاب بالتوحد، ممَّا يُوقع الأسرة في الحيرة، ويجعلهم يعانون أياماً صعبة حتى يتم تشخيص المشكلة بالشكل الصحيح من قبل المختصين.
  • يعاني الطفل بسبب قضائه أوقات طويلة بعيداً عن العلاقات الحقيقية، من انخفاض قدرته على التسامح، وضعف الروح الرياضية لديه، وعدم جاهزيته لتقبُّل الخسارة، فضلاً عن الشعور بالإجهاد والتعب طوال اليوم، ومعاناته من مشاكل وصعوبات في النوم، وأرق وتقلبات حادة في المزاج، وغيرها الكثير من الأنماط السلوكية المزعجة وغير المناسبة للحياة الحقيقية.
  • لا يعيش الأطفال الذين يعانون من التوحد الافتراضي حياةً اجتماعية طبيعيةً كغيرهم من الأطفال؛ إذ أنَّهم لا يلعبون مع الأطفال في أعمارهم، لا يشعرون بالسعادة عند الخروج والقيام برحلات خارجية. وعلى العكس تماماً، تجدهم قد جلسوا في زاويةٍ ما برفقة هاتفهم الذكي، وانغمسوا في حياتهم التي بنوها هناك في داخل هذا الجهاز؛ لذلك هم غير قادرين على تكوين صداقات، ولا يتقبلون الاختلاف، وينزعجون من أي وجهة نظر قد تختلف معهم ومع أفكارهم. ثم إنَّ هؤلاء الأطفال غالباً ما تجدهم مفتقرين إلى مظاهر الحياة الاجتماعية الطبيعية جداً، كالمصافحة وإلقاء التحية وغيرها.
  • فقدان الطفل كثيراً من الملكات والمواهب التي كان يمتلكها، فما أكثرهم أولئك الأطفال الذين كانوا يتمتعون بالذكاء والتجاوب حتى عامهم الثاني، حينما كان الأهل في انتظار التحاقهم بالمدارس ليظهر هذا التميز والذكاء للعالم، ولكن نتيجةً للحصة الكبيرة التي أخذوها من الأجهزة الإلكترونية لم يحدث هذا، بل على العكس تماماً، تبدأ كثير من هذه الملكات بالاختفاء، وما أن يصبح الطفل أكبر بقليل حتى تراه التصق أكثر بجهازه الذكي، جاعلاً منه عالمه الخاص والوحيد، فيصير الطفل مُغيَّباً عن العالم ولا يعنيه كل ما يجري حوله.

الآثار الجسدية للتوحد الإلكتروني:

  • الوقوف عقبة في وجه التطور المعرفي للطفل: دماغ الطفل ينمو بوتيرة سريعة، والتعرض المفرط للأجهزة الإلكترونية سيؤدي إلى بطء في هذا التطور، وقصور في الانتباه، وقد يؤدي في بعض الحالات إلى ضعف السمع. فأغاني الأطفال، والألعاب، ونطق الكلمات بشكل صحيح، أعمال عليك أنت وحدك القيام بها، وليس شخصيات خيالية في التلفاز أو الهاتف الذكي.
  • الإصابة بمرض السمنة بسبب قلَّة النشاط البدني، وزيادة تناول الوجبات السريعة، وعادات الأكل غير الصحي، وما يتبع ذلك من مضاعفات صحية؛ إذ بدلاً من التجوال والركض واللعب بالمكعبات، تجدهم ملتصقين بأجهزتهم الإلكترونية طوال الوقت.
  • الإصابة بالصداع وآلام الرأس، فضلاً عن التعب والإجهاد والجفاف الذي سيصيب العين، إضافة إلى أنَّ التحديق بالشاشات فترات طويلة يؤثر في الرؤية نفسها، والضوء الأزرق المنبعث من الشاشات، يمنع إفراز هرمون الميلاتونين المهم والمحفز للنوم، ممَّا يسبب قلة النوم عند الأطفال.

شاهد بالفيديو: 6 آثار سلبية للتكنولوجيا على الأطفال

نصائح من أجل استخدام الألعاب الإلكترونية بشكل صحيح:

  • حدوث التشنجات والآلام في العنق والظهر: إنَّ ظهور مثل هذه الآلام في سن مبكرة ضار جداً، ويؤثر في وضعية الطفل وطريقة جلوسه مدى الحياة، إضافةً إلى الأخطار على الأعضاء التناسلية والكلى والبشرة.
  • لا يجب على الأطفال تحت سن السنتين إطلاقاً استخدام الأجهزة الإلكترونية، سواءً كانت هواتف ذكية أم لوحات رقمية أم حتى مشاهدة التلفاز، فذلك له آثاره السلبية على الأطفال من جميع النواحي اللغوية والاجتماعية والسلوكية.
  • الأطفال من عمر السنتين وحتى الخمس سنوات، يمكنهم استخدام الأجهزة الإلكترونية ومشاهدة التلفاز مدة ساعة واحدة فقط يومياً.
  • الأطفال فوق ست سنوات، يصبح استخدام الأجهزة الإلكترونية ومشاهدة التلفاز أقل ضرراً، وهنا يُترك للأهل حرية تقدير الوقت المسموح لهم، ولكن تجدر الإشارة إلى ضرورة انتباه الأهل للمحتوى المقدِّم إلى الأطفال، وضرورة مراقبتهم للألعاب التي يلعب أطفالهم بها، ومواقع الإنترنت التي يزورونها، تجنباً لوقوعهم في المشاكل.
  • ممارسة الحياة الطبيعية من لعبٍ مع الأصدقاء، والقيام بالنشاطات، والذهاب في رحلات، وممارسة الرياضة في الهواء الطلق؛ لأن هذا ما يُكسبهم مهارات التواصل الحقيقية، ويزيد من ثروتهم اللغوية، ويهذب سلوكهم، وينمِّي مشاعرهم بعيداً عن العالم الافتراضي الذي تُقدِّمه إليهم الشاشات، والذي يبعدهم أكثر وأكثر عن عالمهم الحقيقي.

في الختام "التكنولوجيا سلاح في يدنا، لا يجب أن نقلبه ضدنا":

صحيحٌ أنَّنا نربي جيلاً تعتمد حياته بأكملها على الأجهزة الإلكترونية، وصحيحٌ أيضا أنَّ اقتناءها لم يعد الآن من الكماليات، بل أصبح من الضروريات لممارسة مختلف الأعمال وعلى جميع الأصعدة، ولكن على الرغم من كل هذا، علينا أن ننتبه جيداً إلى مضار وسلبيات هذه الأجهزة على أطفالنا، وعلينا أن نعرف أيضاً كيف نستخدمها بالطريقة الصحيحة، وكيف نوظفها في خدمتنا وفائدتنا بدلاً من تحويلها إلى سلاح يُشهَر في وجهنا ووجه أطفالنا.

يُعدُّ فهم أسباب المشكلة الخطوة الأولى في طريق حلها، فأن نعرف لماذا يلجأ أطفالنا إلى هذه الأجهزة ويتوحدون معها، هو الخطوة الأولى في إبعادهم عنها. مهما أصبحت ظروف الحياة صعبة، ومهما زادت أوقات انشغالنا، علينا ألَّا ننسى أنَّ أطفالنا بحاجة إلى مشاعرنا نحن، واهتمامنا نحن، وليس إلى مشاعر افتراضية ونجاحات وهمية تقدمها إليهم أجهزتهم الإلكترونية.

المصادر: 1، 2، 3، 4




مقالات مرتبطة