وفي الحقيقة فقد سبق الثورة التي شهدتها الاتصالات في العالم مجموعة من المراحل والتطورات التي مرت بها وسائل التواصل بين البشر منذ آلاف السنين في شكلها وطريقة النقل، لتصبح أسرع وأكثر يُسراً.
لماذا سمي البريد بهذا الاسم؟
لقد ظهرت تسمية "البريد" تاريخياً لوصف عملية إرسال رسائل ومراسلات من مكان إلى آخر.
هناك عدة تفسيرات محتملة لأصل هذا المصطلح:
- يقال أن أصل كلمة البريد يعود إلى الفارسية التي تدل على البغل، وأصلها بریده دم (دُم بُریده) أي محذوف الذنب؛ لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب، فعربت الكلمة وخففت اقتضابا.
- يقال من الكلمة اللاتينية "portare" التي تعني "حمل" أو "نقل". هذا يشير إلى عملية حمل الرسائل من مكان إلى آخر.
- أو من الكلمة الفرنسية "la poste" والتي كانت تستخدم للإشارة إلى محطات تغيير الخيول والتي كانت تُستخدم لنقل الرسائل في القرون الوسطى.
- أو من الكلمة الإيطالية "posta" والتي تعني "وضع" أو "مكان" ، مما يشير إلى المكان الذي يتم فيه تجميع الرسائل ونقلها.
كيف بدأ البريد؟
دفعت حاجة الإنسان لنقل كلامه عبر المسافات البعيدة إلى اختراع الكتابة، واستدل الباحثون على ذلك من خلال الآثار التي وصلت من حضارة أوغاريت (صاحبة أول أبجدية مسمارية)، والتي تضمنت رسائلاً ملكية.
تاريخ البريد:
وفي الحقيقة فإن أول وثيقة ذُكِرَ فيها البريد تعود إلى حوالي 2000 ق.م، بالإضافة لإيجاد رسائل يعود تاريخها إلى عام 1364 ق.م بين ملوك مصر القديمة وملوك الحيثيين وآشور وبابل وقبرص.
البريد قديماً:
نظم البريد في عهد الفراعنة كما نظم لدى الصينيين والفرس والأشوريين ما ساعد ملوك هذه الحضارات على إدارة ممالكهم الواسعة.
وكان البريد في ذلك الوقت حِكراً على المسؤولين السياسيين والقادة العسكريين دون عامة الشعب.
وقد نظم الفراعنة نظام نقل البريد خارجياً وداخلياً، واستخدموا في نقلها سعاة يحملون الرسائل وينقلونها سيراً على الأقدام متّبعين في تنقّلاتهم داخل البلاد ضفتي النيل، أما خارج البلاد فقد كانوا يسلكون طرق القوافل والجيوش.
وبقي البريد يعتمد على نظام (التتابُع) حتّى القرن السادس عشر، ويعتمد هذا النظام على قيام الفارس أو العداء بحمل الرسالة لمسافة محدودة ليسلمها بعد ذلك إلى فارس أو عداء آخر يكون متواجد في مكاتب بريد وضمن مسافة معلومة، ومن ثم يقوم هذا الأخير بنقل الرسالة إلى مكتب آخر وهكذا إلى أن تَصِل الرسالة إلى المكان المحدد.
مراحل تطور البريد:
البريد هو نظام لنقل الرسائل والمراسلات من مكان إلى آخر، وقد تطور هذا النظام عبر القرون وشهد العديد من المراحل المختلفة.
في العصور القديمة، كان البريد يعتمد على رسل يحملون الرسائل شخصياً، ومع التطور التكنولوجي، ظهرت وسائل نقل أكثر تطوراً كالحمام الزاجل والبريد البحري.
وفي القرن التاسع عشر، شهد البريد ثورة كبيرة مع اختراع الطوابع البريدية والشبكات البريدية الحديثة.
وفي العصر الحديث، أحدث تطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تغييرات جذرية في نظام البريد مع ظهور خدمات البريد الإلكتروني والرسائل الفورية.
وفيما يلي أبرز المراحل التي مر بها البريد بالتفصيل:
1. الإشارات الدخانية:
تعد الإشارات الدخانية وسيلة قديمة جداً لنقل الرسائل، ويعود أول استخدام لها إلى الصين.
حيث استخدم الصينيون الدخان بأنماط معيّنة لإرسال الرسائل لمسافات طويلة على طول سور الصين العظيم، وذلك كإشارات تحذيرية وتنبيههم في حال وجود خطر ما أو لنقل الأخبار لجنودهم خلال وقت قصير.
وقد استخدمت الإشارات الدخانية من قبل الهنود الحمر أيضاً لإرسال إشارات الاستغاثة.
كما أخذ العرب نظام إشعال النيران على القمم والمرتفعات عن البيزنطيين، وذلك لنقل الرسائل المختصرة جداً، والتي يتم الاتفاق على معناها بشكل مسبق.
2. البريد عند العرب:
أجمع المؤرِّخون أنَّ العرب نقلوا النظام الأول للبريد عن الفراعنة والفرس، وفي عهد الدولة الأموية استخدم البريد بمعناه الحقيقي ثم استخدم على نطاق أوسع وازدهر مع اتساع الرقعة الإسلامية في الدول اللاحقة.
ويعد أول من وضع نظاماً للبريد هو معاوية بن أبي سفيان حسب ما تُشير الوثائق التاريخية، والذي وضع مركز البريد في مدينة البصرة في العراق والتي تبعد عن مكة المكرمة مسافة ثلاث أيام.
فيما بعد قام عبد الملك بن مروان بتطوير ما بدأه معاوية بن أبي سفيان، حيث أمر بوضع العناوين على الطرق وإشارات تحدد المدن ومسافاتها واتجاهاتها ليستعين بها سعاة البريد الذين ينقلون رسائل الخليفة إلى الولاة والجنود.
وقد بلغ نظام البريد ذروته في عصر دولة المماليك، ولاسيما في عهد الظاهر بيبرس، الذي اهتم بتنظيم البريد كما اهتم بتنظيم الجيش تماماً، واعتمد عليه في الحروب من خلال شبكة مكاتب للسعاة الخيالة، كما اعتمد على الحمام الزاجل.
3. الحمام الزاجل:
استُخدم الحمام الزاجل قديماً على نطاق واسع لتوصيل الرسائل عبر المسافات الطويلة، ويعود ذلك بسبب قدرة الحمام الطبيعية على العودة لموطنه، وأفضل أنواعه هو حمام العراق المطوق العنق بالأبيض. حيث كانت تصل سرعته من 40 إلى 50 ميلاً في الساعة.
وقد تمَّ استخدام الحمام الزاجل من قبل الرومان، والأغريق، والفرس والمغول. ويعتبر الأغريق أوّل من قام باستخدام الحمام الزاجل للإعلان عن نتائج الألعاب الأولمبية اليونانية من مكان إقامتها إلى المدن البعيدة عام 776 قبل الميلاد.
وأول استخدام عسكري للحمام الزاجل كان في زمن الإمبراطور الروماني أنطونيوس عام 43 ق.م أثناء حصاره لمدينة مورينا، كما استخدمه الفرنجة عند حصارهم للقدس عام 1098، واستخدمه أيضا صلاح الدين الأيوبي أثناء حصار عكا.
أمّا بالنسبة للعرب فقد اهتموا بالحمام الزاجل وكان لهم تاريخ طويل وحافل معه.
حيث كان استخدام الحمام الزاجل من قبل الخلفاء العباسيين الذين أولوه الاهتمام والرعاية وقاموا بتحسين نسله واخضاعه للمراقبة الدقيقة، كما قاموا بتنظيم سجلات خاصة بحركته.
واستخدم الحمام الزاجل أيضاً في عهد المماليك، وتم إنشاء أبراج للحمام التي انتشرت لمسافات أبعد من تلك المخصصة للبريد البري. حيث يقوم الحمام الزاجل بنقل البريد بشكل متوالي من برج إلى برج آخر.
وكان يتم تمييز الحمام الزاجل الذي ينقل البريد عن غيره من الحمام الآخر من خلال وضع علامات معروفة على منقاره أو قص بعض من ريشه.
4. البريد في العصور الحديثة:
مع التقدم والتطور الذي شهده العالم أصبحت الرسائل الحديثة تكتب على الورق فتغيرت نُظُم البريد وتم استخدام الطوابع، وقد تطورت الخدمات البريدية بسرعة كبيرة حيث وزعت الرسائل والطرود الثقيلة بواسطة عربات الخيل، ومن ثم بالدراجة العادية والدراجة البخارية، إلى أن تطورت عملية نقل الرسائل والطرود البريدية باستخدام وسائل النقل الحديثة.
فقد أدى تطور الملاحة البحرية، وظهور القطارات إلى تسليم البريد بشكل أسرع من ذي قبل، مما أدى لإقبال الناس بشكل أكبر على كتابة الرسائل.
وبعد ظهور الطائرات كوسيلة نقل جوية تم نقل البريد من خلالها جواً ولأول مرة في عام 1910م وذلك ما بين مدينتين في بريطانيا، ومن ثم بين مدينتين في الهند.
وبعدها بأشهر تم إنشاء «البريد الجوي» في كل من بريطانيا وأمريكا أولاً، ولاحقاً في كل دول العالم.
ويعتبر العراق أولى الدول العربيّة التي تأسس فيها دائرة رسمية للبريد في العهد الحديث.
ولم تعد خدمة البريد مقتصرة على نقل الرسائل فقط وإنما شملت، خدمات نقل الطرود، والبرقيات، والحوالات المالية، والوثائق الرسمية.
5. التلغراف:
التلغراف هو جهاز اتصالات ظهر في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لإرسال البرقيات عبر نبضات كهربائية عبر الأسلاك، وكانت الرسالة المرسلة تُعرف باسم "البرقية" في البلدان العربية.
في عام 1810، اخترع العالم الأمريكي صمويل مورس التلغراف الكهربائي الذي يطبع الأحرف، وفي عام 1827، اخترع الألماني شتينهيل طريقة الإرسال عبر سلك كهربائي واحد.
في عام 1877، ابتكر المهندس الفرنسي جال موريس آميل بودو أجهزة تلغرافية متطورة تستخدم دليل خمسة أعوام، وفي عام 1888، نجح الألماني هنريش هرتز في إجراء أول إبراق لاسلكي.
6. التلكس:
التلكس هي شبكة اتصال دولية تربط بين أجهزة إرسال عن بُعد، تمكن من إرسال واستقبال الرسائل عبر إشارات كهربائية.
وجاء هذا الاختراع نتيجة للتقدم في أبحاث تطوير جهاز التلغراف في منتصف القرن العشرين.
وكانت هذه الخدمة وسيلة الاتصال عن بُعد الأكثر فعالية والأقل تكلفة، مع قدرة نقل تصل إلى 5.45 "بايت" في الثانية.
يتمّز نظام التلكس بإمكانية التأكد بدقة كبيرة من استلام الرسائل من قِبل المرسَل إليهم، وذلك بفضل نظام الردّ الآلي.
وكانت ألمانيا أول من أنشأ أكبر شبكة للتلكس في سنوات الثلاثينات من القرن العشرين، في حين تم تشغيل هذه الخدمة في فرنسا اعتبارًا من 18 يونيو 1946.
7. الفاكس:
شهد ميدان إرسال النسخ والوثائق تطوراً كبيراً خلال سنوات الستينات من القرن العشرين، حيث أصبح من الممكن استقبال النسخ على أوراق حرارية أولاً، ثم على أوراق عادية بفضل آلات النسخ.
وقد شكل هذا بداية ظهور الفاكس، الذي يستخدم الخط الهاتفي لإرسال نسخ الوثائق.
يعمل جهاز الفاكس على تحويل صورة الوثائق المرسلة إلى نبضات كهربائية، لكي يتم إرسالها عبر خط هاتفي أو وصلة متخصصة.
بعد ذلك، يتم استقبال هذه النبضات من قبل جهاز فاكس آخر أو حاسوب أو هاتف محمول، والتي بدورها تقوم بتحويل هذه النبضات الكهربائية إلى نسخ للوثائق المرسلة، ليتم تخزينها في ذاكرة الأجهزة أو طباعتها.
8. البريد الإلكتروني:
تمَّ اختراع البريد الإلكتروني من قبل المبرمج الأميركي الرائد في مجال التكنولوجيا "ايموند توملينسون" في عام 1971م، وكان اختراعه هذا سبباً في تغيير طريقة تواصل الناس في أنحاء العالم.
عمل توملينسون في شركة "بولت بيرانك ونيومان" "BBN" والتي لعبت دوراً أساسياً في تطوير نسخة بدائية من الإنترنت تدعى أربانت ARPANET، والتي ترمز إلى الشبكة التي تربط المعاهد العلمية والجامعات في الولايات المتحدة الأميركية.
وسعى توملينسون لإيجاد طريقة تمكن الناس من إرسال الرسائل عن طريق الحاسوب، وفي عام 1971م ابتكر توملينسون برنامجاً يتيح إرسال رسائل شخصية بين مستخدمي الكمبيوتر على خوادم مختلفة وذلك لصالح شبكة وكالة مشاريع البحوث "أربانت".
كما استخدم إشارة @ للدلالة على هوية المتراسلين، وقد قام باختيارها كونها أداة قليلة الاستخدام على لوحة المفاتيح، قبل أن تُصبِح من أكثرها شهرةً الآن.
في شهر يوليو/تموز من عام 1982 قام ريموند توملينسون بإرسال أول رسالة إلكترونية في التاريخ والتي وصلت على الفور إلى العنوان المرسلة إليه، حيث أرسلها توملينسون إلى نفسه.
وقد شكل اختراع توملينسون ثورة في مجال التواصل، حيث انتشر البريد الإلكتروني على نطاق أوسع وبشكل كبير، وقد مكن هذا الاختراع مستخدمي الكمبيوتر من إرسال رسائل شخصية فيما بينهم على خوادم مختلفة.
يوم البريد العالمي:
يوم البريد العالمي هو يوم عالمي يصادف كل عام في 9 أكتوبر، ذكرى تأسيس الاتحاد البريدي العالمي (UPU)، الذي بدأ عام 1874 في سويسرا.
حيث كان الاتحاد البريدي العالمي بداية ثورة الاتصالات العالمية، حيث قدم القدرة على كتابة الرسائل إلى الآخرين في جميع أنحاء العالم.
وبدأ يوم البريد العالمي في عام 1969، ومنذ ذلك الحين، تشارك البلدان في جميع أنحاء العالم في الاحتفالات لتسليط الضوء على أهمية الخدمة البريدية.
وهناك أشياء كثيرة تحدث في هذا اليوم، حيث تقيم مكاتب البريد في بعض البلدان معارض خاصة لجمع الطوابع؛ وهناك أيام مفتوحة في المقاييس البريدية وهناك ورش عمل حول التاريخ البريدي.
كما ينظم الاتحاد البريدي العالمي مسابقة دولية لكتابة الرسائل للشباب.
ومنذ عام 1969، يعلن الاتحاد البريدي العالمي عن أفضل الخدمات البريدية السنوية لهذا العام في 9 أكتوبر.
في الختام:
في أيامنا هذه فقد وصلنا إلى قمة التواصل الإنساني عبر الإنترنت والهواتف المحمولة وتطبيقاتها المختلفة مثل الواتساب والماسنجر وغيرها والتي تنقل الرسائل بشكل لحظي وبتكلفة زهيدة.
أضف تعليقاً