التناوب اللغوي ودوره في التأقلم مع المجتمع

جدتي "سيسيرا فالبو" (Cesira Falbo) أدعوها "نونا"، هاجرت "نونا" في عام 1960 من "إيطاليا" إلى "كندا"، وساعدتها معرفتها القليلة باللغة الإنجليزية على التواصل؛ ولكنَّها تشعر بالراحة عند الحديث باللغة الإيطالية، وبحكم مرور سنوات على هجرتها، فقد اكتسبنا منها اللغة الإيطالية التي نتحدثها ولكن ليس بطلاقة، ومع ذلك فكلانا يعرف ما يكفي من كل لغة للتواصل مع بعضنا بعضاً.



ماهو التناوب اللغوي؟

تمتزج المحادثات مع "نونا" بكلماتٍ من الإيطالية والإنجليزية، كما تدعوني "تيسورا" (tesora)، والتي تعني حرفياً "الكنز"؛ ولكنَّ المعنى المراد هو "عزيزتي" أو "حبيبتي". تدور أحاديثنا عادةً حول الممارسات اليومية، والأخبار الشخصية باللغتين الإيطالية والإنجليزية، ونقوم طوال محادثاتنا بالتناوب اللغوي.

عملياً تُدرَس هذه الظاهرة في المقام الأول في علم اللغويات؛ إذ تتعلق بكيفية تبديل المتحدثين بين اللغات أو اللهجات أو اللكنات المختلفة في أثناء محادثة واحدة، أو حتى خلال جملة واحدة. ويُعَدُّ التناوب اللغوي أمراً شائعاً بصفة خاصة بين المجتمعات المحلية ثنائية اللغة ومتعددة اللغات.

أرغب في لفت انتباهك إلى أنَّ التناوب اللغوي ليس مجرد التبديل بين لغات مختلفة واللهجات أو طرائق عدَّة تحدث؛ بل إنَّه سلوك اجتماعي واسع الانتشار وأكثر عمقاً من التناوب اللغوي كظاهرة لغوية، فهو يُعرَف اجتماعياً باسم التناوب اللغوي الثقافي، ويتعلق ذلك بكيفية تعديل أسلوبنا العام في الكلام والسلوك والمظهر، كاستجابة لتغيرات بيئتنا الاجتماعية؛ وعندما نقوم بالتناوب اللغوي، فنحن نغير الطريقة التي نقدم بها أنفسنا للعالم لتتناسب مع توقعات ومعايير محددة.

لاحظت الفيلسوفة "جنيفر مورتون" (Jennifer Morton) كيف ينطوي التناوب اللغوي الثقافي على "تحولاتٍ جليَّة أكثر عمقاً بكثير من مجرد التبديل بين اللغة أو اللهجات" وتقول: إنَّ هذا النوع من التناوب اللغوي "ينبع عن دوافع نفسية"، وعلى نحوٍ مماثل يناقش الفيلسوفان "روبن ديمبروف" (Robin Dembroff) و"كات سانت كروا" (Cat Saint-Croix) كيف يعمل التناوب اللغوي الثقافي كوسيلة فعالة للتداول بين هويات مجتمعية كاملة وفي بعض حالات الانتقال بين الهويات الحقيقية والهويات الاجتماعية الظاهرة أو السطحية فقط.

يعمل التناوب اللغوي على تعزيز انتماء الفرد ضمن المجموعة، وغالباً ما يساعد على إشعار الآخرين بالراحة في المجتمع.

نقوم بالتناوب اللغوي الثقافي طيلة الوقت بحكم العادة دون أن ندرك ذلك؛ إذ نمارس التناوب اللغوي عندما نتحرك ضمن المجتمعات المختلفة؛ من مكان العمل إلى الفصول الدراسية وفي لقاءاتنا الأولى، كما نقوم بالتناوب اللغوي حالما نرتدي سترةً أنيقة استعداداً لمقابلة عمل أو عندما نذهب إلى مقابلة حبيبٍ أو صديقٍ حميم؛ إذ نستعمل تعبيرات لا نستعملها عادة في سياقاتٍ أخرى، فمن غير المحتمل أن تنادي غريباً "يا عسل" أو تنادي رب عملك "أبو حميد" فلن يتلاءم السياق مع هذه الكلمات غير الرسمية.

شاهد أيضاً: 6 أسباب تجعلك تتعلّم أكثر من لغة

ما سبب التناوب اللغوي؟

شخصياً أقوم بذلك عند زيارة "نونا"؛ إذ أقوم بالتناوب اللغوي كوسيلةٍ لضمان التفاهم المتبادل، أعلم في كثير من الأحيان أنَّها ستفهم التعبير نفسه لو قلته باللغة الإنجليزية، إذاً فالمسألة ليست مسألة الكفاءة اللغوية، بقدر كونها طريقة للترابط العاطفي معها، فأدمُج الإيطالية ضمن محادثاتنا - حسب لهجة سكان "كوزنسا" مسقط رأسها في مدينة "كالابريا" في جنوب إيطاليا - لتعزيز علاقتنا وإظهار جزء أساسي من هويتنا؛ أي ثقافتنا الإيطالية المشتركة.

لذا؛ فإنَّ إحدى الجوانب الهامة الإيجابية للتناوب اللفظي هي بناء شعور انتماء عميق بالمجتمع والآخرين، كما يعمل التناوب اللغوي على تعزيز انتماء الفرد ضمن المجموعة، وغالباً ما يساعد على إشعار الآخرين بالراحة في المجتمع.

غير أنَّ الاستعمالات الأخرى للتناوب اللفظي مختلفة اختلافاً جذرياً؛ لنتأمل هنا حالة مصففة الشعر "ديستني تومبكنز" (Destiny Tompkins) عندما كانت فتاة في 19 من عمرها، وهي من الجالية الإفريقية، كانت تعمل في عام 2017 في متجر "بانانا ريبابليك" (Banana Republic) في "نيويورك"، وأوقفَتها مديرتها "ذات بشرة بيضاء" وطلبت منها أن تقدم تقريراً إلى مديرٍ آخر "رجل أبيض" بشأن انتهاك قواعد اللباس، وقالت مديرة "تومبكنز": إنَّ الضفائر غير محبذ بها في مكان العمل، كما إنَّ مظهرها غير الحضاري يخل بقواعد العمل ويشوه صورة المتجر، وأمرَتها بإزالة ضفائرها وإلَّا ستُفصَل من العمل.

تكشف العديد من الدراسات التجريبية وعدد لا يحصى من التقارير المباشرة عن قلة حصول النساء "السود" ذوات تسريحات الشعر الطبيعية - على سبيل المثال الشعر الإفريقي مجعد الضفائر - على فرص العمل أو عروض عمل أو ترقيات، فلا نتعجب بعد هذا من التناوب اللغوي الثقافي بطريقة تسريح الشعر لتبدو الموظفة أكثر "مهنية" وغير مهدِّدة لبيئات عمل النخبة وهيمنة ذوي البشرة البيضاء في الغالب.

القدرة على التناوب اللغوي هي مهارة حيوية مطلوبة للتعامل مع المواقف الاجتماعية عالية الحساسية، مثل الخطابات في قاعة المحكمة والفصول الدراسية ومقابلات العمل وغيرها، وفي بعض الحالات يكون التناوب اللغوي ضرورياً لتحصيل التقدم الاقتصادي - مثل التوظيف والتعليم - أو في حالاتٍ طارئة لتجنب المواقف الخطرة التي ستسبب وقوع العقاب أو استعمال العنف، والتي يمكن أن تنجم عن عدم الامتثال للمعايير السائدة.

إقرأ أيضاً: 8 نصائح بسيطة للتخلص من مشكلة الخجل الاجتماعي

الضغوطات الاجتماعية التي تؤدي إلى التناوب اللغوي:

ونلاحظ أنَّ الضغوط الاجتماعية التي تؤدي إلى التناوب اللغوي بهذه الطريقة لا تتم بصورة موحَّدة؛ بل يتحملها في كثير من الأحيان أفراد الفئات المهمَّشة والأقليات الذين يتعيَّن عليهم الامتثال للمعايير الثقافية السائدة من أجل الاندماج الاجتماعي والبقاء.

ولكن في حين يعمل التناوب اللغوي كوسيلة فعالة للاندماج في مجتمعٍ غير مألوف؛ حيث يَظهر تفاوت الطبقات الاجتماعية، إلَّا أنَّه غالباً ما يأتي بعد دفع ثمنٍ غالٍ: "التأقلم"، والذي يبعد كل البعد عن الانتماء الحقيقي.

عندما يضطر المرء إلى التناوب اللغوي لإخفاء أو قمع جوانب هامة من هويته الثقافية وإحساسه بها، فإنَّ النتيجة تكون شكلاً من أشكال قمع الذات، ويتردد صدى هذا بالتوافق مع تحليل "كريستي دوتسون" (Kristie Dotson) في المثال السابق على ما أسمته " فلترة الكلمات" (testimonial smothering) نوعٌ من الصمت، يحدث عندما يقاطع المتحدث سيل كلماته أو فرض رقابةٍ عليها، لعلمه بافتقار مستمعيه إلى الكفاءة اللازمة لفهم ما يقوله.

ينصبُّ تركيز "كريستي دوتسون" على التناوب بالكلمات، ولكن يمكننا توسيع نطاق تحليلها ليشمل حالات التناوب اللغوي القسرية؛ إذ تدفع عضوية المرء في مجموعة اجتماعية مهمشة لاستعمال التناوب اللغوي كوسيلة لحماية الذات، وهذا أمرٌ ضروري لتجنب صدور أحكام جائرة بحقه وضمان عدم المعاملة السيئة من قِبل أصحاب السلطة.

إذاً فالتناوب اللغوي في ظل هذه الظروف ينطوي على أكثر من مجرد تغيير جوانب الخطاب أو "فلترة الكلمات"؛ لكنَّه يشمل شكلاً أوسع من القمع الذاتي والرقابة الذاتية اللفظية التي يمكن أن نسميها خنقاً ثقافياً، وتضع الضغوطات لممارسة التناوب اللغوي في ظل هذه الظروف المرءَ في بؤرة التركيز الحاد وتدفعه إلى انتقاء الألفاظ والموازنة بين المكان الذي أتى منه؛ حيث يتمسك بقيمه الأساسية وتقاليده ويكوِّن أسرته فيه، وشعوره العام بذاته المستقبلية ضمن مجتمعٍ مغاير.

يظهر هذا التوتر عادةً "كقيدٍ مزدوج"؛ إذ تصف الفيلسوفة الأمريكية "مارلين فراي" (Marilyn Frye) القيود المزدوجة في مجموعة مقالات بعنوان "سياسة الواقع" (In The Politics of Reality) نُشِرَت عام 1983 بأنَّها: "الحالات التي تُقلَّص فيها الخيارات لتشمل عدداً قليلاً جداً، وجميعها تُعرِّض المرء للعقوبة أو اللوم أو الحرمان".

فمن ناحية يمكن أن يختار المرء التناوب اللغوي؛ وبهذا يمتثل إلى المعايير السائدة للانسجام والارتقاء الاجتماعي أو لحماية نفسه من الأضرار المحتملة؛ وذلك عن طريق إسكات نفسه وقمع جوانب من هويته الثقافية من الظهور.

الضغوطات الاجتماعية

التناوب اللغوي ومعايير المجتمع:

من ناحية أخرى، يمكن أن يرفض المرء التناوب اللغوي ويرفض الامتثال إلى المعايير السائدة؛ وبهذا يخاطر بالاستبعاد الاجتماعي والرفض كما تقول الفيلسوفة "سوكاينا هيرجي" (Sukaina Hirji)، كما يخاطر بالظهور بمظهر "غير جاد" أو "غير مهني" أو أسوأ من ذلك أن يُصنَّف كعامل "خطر" أو "تهديد"؛ وهذا يقتل فرص تحسين الظروف المادية للمتحدث، وفي الحالات الطارئة يمكن أن يؤدي إلى أضرار جسيمة وتهديد عنيف على الحياة؛ إذ إنَّ وقوف المرء بمفرده ضد مجتمعٍ بأكمله هو حربٌ خاسرة لا محالة.

التناوب اللغوي هو مهارة اجتماعية مرنة جداً وتخدم أهدافاً عدة، ويمكن أن تكون مصدراً إيجابياً حقيقياً؛ كعامل مساعد على تعزيز الانتماء الجماعي وبناء التماسك في المجتمع مع الآخرين، كما يَظهرُ الجانب المظلم للتناوب اللغوي كشكلٍ من أشكال الخنق الثقافي؛ فعندما يُسكِت أفراد الأقليات أنفسهم ويُخفون جوانب من هويتهم الثقافية ليندمجوا مع المعايير السائدة، فهذا يؤيد ويعزز آليات اضطهاد الجماعات السائدة.

ولا ننسى ما يسببه الاضطهاد والإجبار على ممارسة التناوب اللغوي من إنهاكٍ شديد وضريبة عالية تؤخذ على حساب الصحة النفسية، بينما لا يحتاج أفراد مجتمع النخبة إلى دفعها.

إقرأ أيضاً: 7 نصائح لعلاقات اجتماعية أفضل مع الآخرين

في الختام:

تتطلب مقاومة آليات الاضطهاد التي تؤدي إلى خنق الهوية الثقافية من المجتمع نظرة دقيقة بالتعاون مع التواضع والتفكير الصادق في الافتراضات السائدة لشكل "الطالب الجيد" أو "المحترف" أو "المجرم"، وهو ما يتطلب أن نعيد التفكير مراراً قبل التوصُّل إلى استنتاجات حول ذكاء المرء على أساس لهجته أو الملابس التي يرتديها؛ وهذا يعني العمل لتكوين مجتمع لا يسود فيه "تأقلم" المواطنين مع قوالب نمطية جاهزة من قِبل طبقات النخبة وأصحاب السُلطة، فعلينا بناء مجتمع ينمو ويتطور عبر الاختلافات الثقافية، وتُحترَم اختلافاتنا الثقافية فيه ولا تُضطَّهَد، فيسعى الأفراد إلى ممارسة حياتهم وتعزيز انتمائهم إلى بلدهم الأم كما هم.

المصدر




مقالات مرتبطة