الاندماج الوظيفي ودوره في الاحتفاظ بالموظفين

تهتم معظم الشركات بالاحتفاظ بالموظَّفين، ومع وجود عوامل شتَّى قد تساهم في ارتفاع معدلات التسرب الوظيفي ودوران العمالة بين الأفراد، تُلقي الأبحاث الحديثة ضوءاً جديداً على الوسائل العملية لتحسين الاحتفاظ بالموظفين وتقليل التكاليف المرتبطة بدوران العمالة المفرط.



يستطيع خبراء الموارد البشرية كسب أفضل الرؤى في أفضل ممارسات الاحتفاظ بالموظفين؛ وذلك من خلال التعلُّم عن الاندماج الوظيفي وآثاره؛ إذ إنَّه يُعَدَّ مقاربة للاحتفاظ بالموظفين مختلفة قليلاً عن المقاييس التقليدية كالرضا الوظيفي، وتقدِّم نظرية الاندماج الوظيفي وسائل متعددة الأوجه لتمييز ومعالجة التحديات التي من المحتمل أن تقود إلى تحول غير مرغوبٍ فيه ضمن المنظمة.

ما هو الاندماج الوظيفي؟

طُوِّرت نظرية الاندماج الوظيفي " Job embeddedness" خلال أكثر من عقدٍ من الأبحاث التي أجراها "بروكس س.هولتوم" (Brooks C. Holtom) وزملاؤه في "جامعة جورج تاون" (Georgetown University)؛ إذ تطرَّق بحثهم "زيادة رأس المال البشري والمجتمعي من خلال تطبيق نظرية الاستقرار الوظيفي" (Increasing human and social capital by applying job embeddedness theory)، المنشور في مجلة "أورغنايزيشنل دايناميكس" (Organizational Dynamics) في عام 2006، إلى العناصر المتنوِّعة المؤدية إلى الاحتفاظ بالموظفين، ودمج هذا البحث نطاقاً من المفاهيم والتطبيقات المحتمَلة التي قد تجدها أقسام الموارد البشرية مفيدة.

يفترض "هولتوم" (Holtom) أنَّه يمكن رؤية الموظفين بصفتهم أفراداً لديهم سلسلة من العلاقات والروابط بين جوانب مختلفة من الحياة؛ إذ إنَّ هؤلاء الذين تضم حياتهم أدواراً ومسؤوليات وعلاقات أكثر، تكون لديهم روابط أكثر؛ وبذلك يمكن وصفهم بأنَّهم أكثر استقراراً واندماجاً، ويُعَدُّ الأشخاص المعنيون بنطاق أوسع من الأدوار والمسؤوليات والعلاقات المرتبطة بالعمل، أكثرَ "استقراراً وظيفياً".

عند النظر إلى الاندماج الوظيفي للأفراد على أنَّه سلسلة من الروابط، يصبح جليَّاً أنَّ مَن لديهم نقاط ارتباط أكثر قد يختبرون إزعاجاً أشد عبر نواحٍ أكثر في حياتهم ومهنتهم، إن هم أزالوا أنفسهم من نقطة الارتباط المركزية، التي هي عملهم، وقد يتجنَّب مَن لديهم اندماج وظيفيٌّ عالٍ مغادرة عملهم بسبب تأثُّر عدد أكبر من العوامل بهذا التشويش.

وبخلاف ذلك، يُعَدُّ الأفراد الذين لا يملكون العديد من الأدوار والمسؤوليات والعلاقات في مكان العمل، أقلَّ استقراراً وظيفياً؛ فوفقاً للأبحاث، قد يملك هؤلاء الأفراد روابط أقل عبر جوانب متنوعة من حياتهم، ويواجهون إزعاجاً أقل إن قرروا مغادرة منظمتهم، وهذا ربما يقلل قدرة الموارد البشرية على إبقائهم.

العناصر الجوهرية للاندماج الوظيفي:

تمتلك نظرية الاندماج الوظيفي ثلاثة عناصر حاسمة تدلُّ على مستوى التواصل الذي قد يطوره الأفراد ضمن مؤسستهم، ويمكن تعريفها عموماً كالآتي:

  • الملاءمة: كيفية ارتباط عمل الفرد بقيمه وأهدافه.
  • العلاقات: كيفية ارتباط الفرد بأشخاص ونشاطات أخرى.
  • التضحية: مستوى الإزعاج الذي قد يختبره الفرد إن استقال من عمله.

شاهد بالفديو: 5 نصائح لتحقيق التطور المهني

من خلال فهم هذه العناصر الجوهرية للاستقرار الوظيفي، نستطيع تقييم مقدار خطورة مغادرة الموظفين لمؤسسة ما، وأفضل طريقة للاحتفاظ بهم عند الرغبة في ذلك.

الملاءمة:

يُعرِّف "هولتوم" (Holtom) وزملاؤه ملاءمة الموظف على أنَّها "انسجامٌ ملموسٌ أو راحةٌ مع مؤسسته أو بيئته"، ويمكن للموارد البشرية تقييم الملاءمة من خلال السعي إلى فهم الأهداف المهنية للفرد ومواهبه ومعارفه، لتحديد إلى أي مرحلة يستطيع التكيُّف مع المؤسسة ومجتمعها.

عندما يندمج الموظف وظيفياً من ناحية الملاءمة، فمن المُحتمَل أن يشعر بصلةٍ أقوى تجاه المنظمة نفسها، وبالنسبة إلى أقسام الموارد البشرية التي تسعى إلى تحسين التكيُّف الوظيفي، فقد تسمح لهم فعاليات التأهيل وجلسات التعلُّم الجماعي بتطوير التناغم والراحة تجاه مؤسسة ما؛ وهذا ما يحسِّن الاستقرار الوظيفي.

العلاقات:

علاقات العمل

تُعرَّف العلاقات على أنَّها الروابط بين الفرد ومؤسسته ومجتمعه، وقد تكون هذه الروابط رسمية؛ كالتي بين الإدارة والموظفين، أو غير رسمية؛ كالصداقة والتفاعلية بين زملاء العمل، كما يمكن عَدُّ المجموعات ضمن المؤسسة وبيئة العمل المادية، روابط تؤثر في الاندماج الوظيفي للفرد.

يمكن أن تؤدي زيادة الروابط بين الموظف ومؤسسته إلى اندماج وظيفي أفضل، ويمكن للموارد البشرية تطوير هذه الروابط من خلال طرائق متنوعة، كتشجيع التفاعل الإيجابي بين الإدارة والموظفين، وتهيئة الفرص لتطوير التلاحم في مختلف المجموعات، وحتى تنفيذ تغييرات في بيئة العمل في المؤسسة بما يسمح بتوطيد العلاقات بين الموظفين.

التضحية:

تُعرِّف نظرية الاندماج الوظيفي التضحية على أنَّها "الثمن الذي يدفعه الموظف نتيجة خسارة الفوائد المادية أو النفسية بسبب مغادرة المنظمة"، بالإضافة إلى الفوائد الأكثر بديهية للعمل، كالدَّخل والتأمين؛ فقد تُسترجَع أو تُسحَب مجموعةٌ من الحوافز الثانوية إن قام الشخص بترك عمله، وقد تتضمن هذه الحوافز فوائد رسمية؛ كخطط التقاعد وخيارات شراء الأسهم، أو فرص الترقية الوظيفية مُستقبلاً.

وقد تتضمن فوائد غير رسمية؛ كصداقات زملاء العمل، ومهمَّات أو مشاريع شخصية، أو حتى سمعة شغل منصبٍ معيَّنٍ، ويمكن أن يؤثِّر مستوى التضحية التي يتكبدها الشخص عند مغادرة عمله بقوة في الاستقرار الوظيفي.

وقد يأخذ أرباب العمل، الذين يتمنَّون تخفيض دوران العمالة، في الحسبان زيادة الفهم لقيمة الفوائد المنظَّمية، الرسمية وغير الرسمية، وافتراضياً، سيزيد تطوير الرضا الفردي تجاه القيمة الملموسة، ممانعة الموظفين للتضحية بالفوائد المرتبطة بعملهم ومجتمعهم المؤسساتي.

إقرأ أيضاً: الأمان الوظيفي: أهميته، وإيجابياته، والعوامل التي تؤثر عليه

كيف تستعمل نظرية الاندماج الوظيفي لزيادة الاحتفاظ بالموظفين؟

تتفاوت المؤسسات على نطاق واسع عبر الصناعات المتنوعة، لكن توجد سبل عدة يمكن بها لأقسام الموارد البشرية السعي إلى تحسين الاندماج الوظيفي وتقليص دوران العمالة؛ إذ ينبغي فهم العوامل الشائعة المساهمة في دوران العمالة، وبعدها، يجب الأخذ في الحسبان مؤشرات الاندماج الوظيفي، ومهمة المؤسسة في تسخير هذه المعلومة لتحقيق ما تصبو إليه.

ووفقاً لدراسة أجراها موقع "غلاس دور" (Glassdoor)، توجد مقاييس عدة تتنبأ بترك الأفراد لأرباب عملهم، وتشمل:

  • تغيير المناصب: يستقيل 73% من الموظفين الذين يبدلون مناصبهم ضمن المؤسسة في النهاية.
  • العمر: يستقيل 69% مِمَّن تتراوح أعمارهم بين 18-24 عاماً، و32% مِمَّن أعمارهم بين 40-48 عاماً، خلال سنة واحدة في مؤسسة ما.
  • القطاع الوظيفي: تُودي بعض الصناعات بنفسها إلى معدَّلات أعلى لدوران العمالة، بينما تميل أخرى إلى الاحتفاظ بالموظفين مدة أطول؛ إذ تواجه المؤسسات الحكومية، ومؤسسات الفضاء الجوي، والصحافة، والإعلام، وتقانة المعلومات، والقطاعات غير الربحية، صعوبات أكبر بتقليل دوران العمالة.
  • الدخل: يكسب 63% من الموظفين التاركين لعملهم دخلاً أكبر بمعدل 5.2% من أرباب عملهم الجدد.
  • الثقافة: تزداد معدلات دوران العمالة في المؤسسات؛ إذ يوجد إدراك سلبي شائع لثقافتها، أو لا توجد ثقافة تنظيمية مُميَّزة لها.

ويمكن أن تساعد استراتيجيات عدة مرتبطة بالاستقرار الوظيفي المؤسسات على تحقيق معدلات احتفاظ توظيفية أعلى، على سبيل المثال، يُدرِج موقع "غلاس دور" ما يأتي على أنَّها عوامل جوهرية في الاحتفاظ بالموظفين:

  • الثقافة التنظيمية: احتمالية استقالة الموظفين الذين يَعُدُّون أنفسهم جزءاً من ثقافة وقيم المؤسسة أقل بـ 5%.
  • التوقُّعات: احتمالية استقالة الموظَّفين الذين يؤمنون برؤية إيجابية لفرص تطورهم المهني ضمن المؤسسة أقل بـ 5%.
  • الدخل: احتمال استقالة الذين يكسبون 10% أكثرَ من متوسط الأجر بسبب مركزهم أقل بـ 1.5%.
  • الترقية الوظيفية: إنَّ الشركات التي تفشل بتقديم مسارات واضحة للتدرُّج المهني وفرص الترقية، قد تقلل الاحتفاظ بالموظفين بنسبة 1%.
إقرأ أيضاً: التركيز على تجربة الموظف الرقمية بدلاً من إدماج الموظفين

سلبيات الاندماج الوظيفي وكيفية التغلب عليها:

مع أنَّ نظرية الاندماج الوظيفي تقدم وعوداً لتطبيقات عدة ضمن الموارد البشرية والاستراتيجيات المؤسساتية، فتوجد جوانب سلبية محتمَلة للأخذ في الحسبان. ولأنَّ الاندماج الوظيفي يشدد على الاحتفاظ بالموظفين، فقد نجد حالات يشعر فيها الأشخاص بالتقييد تجاه مركزهم ومسؤولياته، وفي بعض الحالات، يكون دوران العمالة أفضل من احتجاز الموظفين الذين لا يرغبون في العمل لدى المؤسسة، أو لا يجدون أنفسهم يتوافقون مع القيم المؤسساتية.

قد تأتي جهود الموارد البشرية لزيادة الملاءمة، والعلاقات، والبصيرة الإدراكية تجاه التضحية في سبيل تحسين الاندماج الوظيفي، بنتائج عكسية في المواقف؛ إذ لا يعود موظفٌ معيَّنٌ ملائماً لمركزه، وإذا تعرَّض الأشخاص لمبادرات تتعارض مع أهدافهم؛ وبمعنى آخر، إن شعروا أنَّهم مجبرون على البقاء في عمل لا يرغبون فيه، فقد يتصرفون باستياء أو بطرائق عكسية بوصفها وسيلة لتجاهل التشديد المؤسساتي على الاندماج الوظيفي.

لذا لمنع التطبيق المفرط لنظرية الاندماج الوظيفي، ينبغي على المؤسسات أن تحدد مقاييس نجاح معيَّنة، إضافة إلى تحديد أيِّ مواقف محتمَلة لا يكون الاندماج فيها مرغوباً، كما يجب موازنة الجهود المبذولة لتحسين الاندماج الوظيفي مع النظر في الأهداف والقدرات الإجمالية للمؤسسة؛ فكما يمكن لدوران العمالة أن يؤثِّر سلباً في استقرار وربح الشركة، فإنَّ إجبار الموظَّفين على التكيف يؤثِّر في مكاسب استثمار المؤسسة.

الارتباطات بين التدريب ونجاح الأعمال:

اختتم "هولتوم" (Holtom) وزملاؤه بحثهم بالتأكيد على وجوب توظيف استراتيجيات من قِبل الشركات والمؤسسات التي تزيد الاندماج الوظيفي بفاعلية على الأمد الطويل؛ إذ إنَّهم ينصحون المؤسسات بتقدير الحاجات والرغبات النوعية لموظَّفيهم، وإيجاد طرائق لجمعها وفقاً لبرامج ومبادرات وتدريبات اقتصادية، ستؤدي بنفسها إلى زيادة الاندماج الوظيفي.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن للتدريب ضمن الموارد البشرية نفسها زيادة وعي القسم وأهليته لاستراتيجيات الاندماج الوظيفي؛ إذ إنَّ هذا جدير بأن يجهزهم للعمل من أجل التوجهات الإيجابية للاحتفاظ بالموظَّفين تماشياً مع أهداف وحاجات المؤسسة.

إقرأ أيضاً: التدريب والظروف الجديدة في مكان العمل

في الختام:

تُقدِّم نظرية الاندماج الوظيفي العديد من التطبيقات العملية لأقسام الموارد البشرية والمؤسسات التي تتطلَّع إلى تحسين الاحتفاظ الوظيفي، وتقليل خطر دوران العمالة المفرط؛ إذ ينبغي الحفاظ على التوازن بين مبادرات الاندماج الوظيفي ومكاسب الاستثمار الشاملة.

تشير الأبحاث إلى توقعاتٍ إيجابيةٍ بالنسبة إلى المنظمات التي تتبنَّى مقاييس الملاءمة والعلاقات والتضحية لتحديد المجالات؛ إذ قد يستفيد الأفراد من النشاطات والمبادرات الموجَّهة نحو الاندماج الوظيفي.

المصدر




مقالات مرتبطة