الاحتراق الوظيفي عند المديرين: المشكلة التي لا يتحدث عنها أحد

عندما توفي مؤخراً الرئيس التنفيذي لشركة "فيات كرايسلر" (Fiat Chrysler) "سيرجيو ماركيوني" (Sergio Marchionne)، نعى عالم الشركات أحد أعظم قادة التغيير في عصر الأعمال الحديث. كان "ماركيوني" أحد أكثر الرؤساء التنفيذيين عزيمةً واحتراماً في صناعة السيارات؛ إذ تولى إدارة شركة "فيات" (Fiat) في عام 2004، وبدأ بالاستحواذ على شركة "كرايسلر" (Chrysler) في عام 2009.



في ذلك الوقت، كانت كلتا الشركتين على وشك الإفلاس، ولم تكن أمامهما فرصة كبيرة للنجاح؛ لكنَّه أثبت خطأ المعارضين له؛ إذ إنَّه خلال 14 عاماً من عقد الصفقات الجريئة والتركيز الحازم على النتائج، ضاعف قيمة "فيات" نحو 11 مرة، وأنقذ كلتا العلامتين التجاريتين من خطر الإفلاس، وطوَّر الشركة لتصبح سابع أكبر شركة مُصنِّعة للسيارات في العالم.

مشكلة شائعة:

اشتهر "ماركيوني" بإدمانه على العمل؛ فكان يعمل 7 أيام في الأسبوع على مدار العام. وقد توفي عن عمر يناهز 66 عاماً، تاركاً وراءه شريكاً وولدين، ليتساءل بعضهم: هل كان الأمر يستحق ذلك؟

يُعَدُّ هذا السؤال شائعاً في عالم الشركات؛ حيث كان العديد من المديرين التنفيذيين في جميع أنحاء العالم يعملون على مدار الساعة لتحقيق التوقعات المطلوبة منهم في مجالهم؛ علماً أنَّ انعدام التوازن هذا يؤثر تأثيراً كبيراً في الصحة البدنية والعقلية للمديرين التنفيذيين.

في حين أنَّ قلة من المديرين التنفيذيين يعترفون علناً بحالة الاحتراق الوظيفي التي يعيشونها، يقول الباحثون الذين يدرسون هذه المسألة إنَّها أكثر انتشاراً ممَّا كان يُعتقد سابقاً؛ فوفقاً لدراسة أُجريت في عام 2013 على كبار المديرين والمديرين التنفيذيين، اعتقد نحو نصف المشاركين أنَّ الرئيس التنفيذي لمؤسستهم يعاني من الاحتراق الوظيفي، في حين قال 75% إنَّ كبار مديريهم يعانون من الاحتراق الوظيفي.

كما وجدت هذه الدراسة، التي أجراها أستاذ مساعد في الطب النفسي في كلية الطب في "جامعة هارفارد" (Harvard University)، الدكتور "سريني بيلاي" (Dr. Srini Pillay)، من خلال شركة استشارية تدعى مجموعة "نيورو بيزنس" (NeuroBusiness Group)، أنَّ الأسباب الرئيسة الثلاثة للاحتراق الوظيفي هي عبء العمل الزائد (قال 69% إنَّهم كانوا يعملون بأقصى طاقتهم)، والعجز، وعدم كفاية المردود المادي.

يؤثر الاحتراق الوظيفي تأثيراً متسلسلاً على جميع الأصعدة، في الشركات وثقافاتها وإدارة المواهب؛ إذ وفقاً لإحصائية محلية أجرتها شركة "كرونوس" (Kronos) وشملت 614 من قادة الموارد البشرية، وُجِد أنَّ 95% منهم يعترفون بأنَّ الاحتراق الوظيفي يؤثر تأثيراً سلبياً في الاحتفاظ بالقوة العاملة، وأنَّ العنصرين الأكثر أهميةً وإسهاماً في الاحتراق الوظيفي، يشملان أعباء العمل المرهقة بنسبة (32%)، والكثير من العمل الإضافي بعد ساعات العمل بنسبة (32%).

تقول "بولا ديفيس لاك" (Paula Davis-Laack)، الخبيرة العالمية التي تساعد المديرين التنفيذيين على منع الاحتراق الوظيفي، وبناء القدرة على الصمود في وجه الإجهاد: "يؤثر الاحتراق الوظيفي تأثيراً كبيراً في الحياة العملية وخارج العمل"؛ فإنَّها، وبعد أن عملت مع شركات مثل "كوكا كولا"، و"جنرال إلكتريك" للرعاية الصحية، وكلية الحقوق في "جامعة هارفارد"، رأت بشكل مباشر تأثير الاحتراق الوظيفي في الأفراد والمؤسسات على حد سواء.

"نواجه في العمل مشكلات انخفاض الشعور بالصحة والعافية، والانخفاض في استبقاء الموظفين، وارتفاع تكاليف النظام التنظيمي، وارتفاع معدلات دوران القوى العاملة، وانخفاض الروح المعنوية، وعدم التماسك في المنظمة ككل".

تضرب آثار الاحتراق الوظيفي الصحة الشخصية والسلامة في الصميم؛ إذ تقول "ديفيس لاك" إنَّ الاحتراق الوظيفي يرتبط بزيادة انتشار الاكتئاب واضطرابات القلق، وإدمان الكحول، وارتفاع مستويات اضطراب النوم، والصداع والتهابات المعدة والجهاز الهضمي. ناهيك بأنَّه عامل خطر للتعرض للعدوى مثل الإصابة بنزلات البرد ومرض السكري من النوع 2. كما أثبتت الأبحاث وجود علاقة تربط بين الاحتراق الوظيفي والتغيب عن العمل؛ إذ يرتبط عنصر الإرهاق الناجم عن الاحتراق الوظيفي بالمرض طويل الأمد (مدة 90 يوماً أو أكثر).

شاهد بالفديو: 7 علامات للاحتراق المهني

تمييز الاحتراق الوظيفي:

ركَّزت دراسة مجموعة "نيورو بيزنس" في الغالب على المديرين التنفيذيين الذكور؛ إذ وصف كلٌّ منهم الرغبة في "الحصول على السلطة من خلال التعرض للإجهاد". كما نقل تقرير عن الدراسة لـ "صحيفة وول ستريت" (Wall Street Journal) عن لسان أحد المديرين التنفيذيين قوله: "إذا أردت أن تصبح قائداً حقيقياً، فلا يمكنك الاستمرار في حالة عدم الاستقرار العاطفي". وقال مدير تنفيذي آخر إنَّه شعر بأنَّه "يراوح مكانه"، لكنَّه تردد في تسمية حالته بأنَّها "احتراق وظيفي"؛ إذ يُعَدُّ الإنكار مشكلة رئيسة في تعرُّف أعراض ما قبل الاحتراق الوظيفي. وقد أوضح أستاذ في كلية إدارة الأعمال في "جامعة هارفارد"، افتقار العديد من المديرين التنفيذيين إلى "مقاييس جيدة" لمعرفة مدى اقترابهم من الهاوية.

يشرح "ستيوارت تايلور" (Stuart Taylor)، الرئيس التنفيذي لشركة "سبرينغ فوكس" (Springfox)؛ وهي شركة استشارية تساعد المنظمات ومديريها التنفيذيين وموظفيها على بناء القدرة على الصمود ومحاربة الاحتراق الوظيفي؛ إذ يقول: "نحن البشر نعتاد عالمنا، ونعتقد أنَّ من الطبيعي العمل فوق طاقتنا، إلا أنَّ هذه الحالة من العجز تجعلنا أشبه بضفدع في الماء المغلي، والذي لا يدرك أنَّه يُسلق ببطء.

وقبل أن تدرك الأمر، سيصبح هذا الإجهاد هو القاعدة الجديدة، وهذا هو الجزء الخطير؛ إذ يعتقد الكثير منَّا أنَّنا بحاجة إلى أن نكون بكامل طاقتنا في الشركة، وأن نعمل بجد حتى نتمكن من تلبية الأولويات الخارجية. ولكن مع ذلك، علينا الاهتمام بأنفسنا أيضاً، وإلا فلن نكون بصحة جيدة بما يكفي لتلبية تلك الأولويات".

تؤكد "بيلا زانيسكو" (Bella Zanesco)، المديرة التنفيذية لشركة استشارات استراتيجية الرفاه النفسي "ويلبورد" (Wellboard) على أهمية تعرُّف المديرين التنفيذيين وأصدقائهم، وخاصةً العاملين في قسم الموارد البشرية، إلى مؤشرات الاحتراق الوظيفي، والمعروف باسم "عدم الرغبة في العمل"؛ إذ تقول إنَّ الاحتراق الوظيفي هو عملية مكونة من سبع مراحل، وتُعَدُّ الثلاث الأولى منها مؤشرات على عدم الرغبة في العمل:

  1. الإحباط: كقول الموظف على سبيل المثال: "لا أستطيع أن أفعل هذا"، و"إنَّه في غاية الصعوبة".
  2. الغضب: كرفض الموظف القيام بمهامه، وقوله "إنَّها غلطتك"، فضلاً عن كثرة الانتقاد.
  3. اللامبالاة: عدم اهتمام الموظف.
  4. الاحتراق الوظيفي: الانهيار، والتدهور، وفشل الغدة الكظرية.
  5. الانسحاب: يتمثل في الحضور مع الامتناع عن القيام بالمهام، أو التغيُّب عن العمل، أو الانسحاب من الحياة أو مكان العمل.
  6. المعرفة الذاتية (القبول).
  7. التعافي.

والأهم من ذلك، يقول "زانيسكو" إنَّ عملية التعافي يمكن أن تستغرق في كثير من الأحيان ضعف المدة التي تستغرقها المراحل الست الأولى.

إقرأ أيضاً: الاحتراق الوظيفي: تعريفه، أعراضه، أسبابه، واستراتيجيات التعافي منه

ما يمكن للموارد البشرية القيام به:

يُعَدُّ الاحتراق الوظيفي مشكلة تؤثر في الأفراد والمؤسسات على حد سواء، وفقاً لـ "ديفيس لاك"؛ إذ تقول إنَّ الشركات وإدارات الموارد البشرية الخاصة بها يجب أن تركيز على توازن متطلبات وموارد العمل؛ ويُقصَد بمتطلبات العمل، تلك الجوانب التي تتطلب من الموظف جهداً وطاقة ثابتين، في حين أنَّ الموارد الوظيفية هي تلك الجوانب من العمل التي تُشعِر الموظف بالأهمية وتزوده بالطاقة.

وتضيف "ديفيس لاك" أنَّ أفضل ما قد تقدمه الموارد البشرية هو التركيز على زيادة الموارد الوظيفية بالدرجة الأولى، لا سيَّما في مجالات الاستقلالية، والانتماء (تطوير علاقات عالية الجودة)، والإتقان (مساعدة الموظفين على تنفيذ أكثر المهام صعوبةً؛ وهذا يجنبهم الإصابة بالخمول)، وإعطاء تغذية راجعة ملائمة للعمل، والتقدير المستمر.

علاوةً على ذلك، يمكن أن تساعد الموارد البشرية على التخفيف من متطلبات العمل، تقول "ديفيس لاك" إنَّه من الهام بشكل خاص الحد من الغموض الذي يكتنف المهام (كشعور الموظف بالارتباك حول ما يجب عليه القيام به، أو عدم تزويده بما يكفي من المعلومات لتنفيذ المهمة الموكلة إليه بشكل صحيح)، وتضارب الأدوار (عند توكيله بالكثير من المهام القادمة من مصادر متعددة؛ وهذا يؤدي إلى عدم معرفته للأولويات)، فضلاً عن الظلم.

توضِّح "زانيسكو" أنَّ الاحتراق الوظيفي غالباً ما يكون مشكلة ذاتية ومستديمة داخل المؤسسات، والأمر متروك للموارد البشرية لتحديد ذلك، ضمن الفروق الثقافية الدقيقة للمؤسسة. كما تضيف بقولها: "يتمتع العديد من القادة الشباب بالتوازن التام عند الانضمام إلى العمل، لكنَّهم يدخلون بيئةً غير متوازنة؛ الأمر الذي يحتم عليهم الالتزام بالممارسات الثقافية للمؤسسة، والعمل حتى وقت متأخر، وإجهاد أنفسهم، ناهيك بإتاحتها على مدار الساعة طوال الأسبوع؛ لذا، تكمن المشكلة بين المنظمات والأفراد بنسبة 50/50".

كما تتحدث "زانيسكو" عن ضرورة مراقبة الموارد البشرية لبعض أنواع الشخصيات الأكثر عرضة للإصابة بالاحتراق الوظيفي، بما في ذلك ذوي الإنجازات الكثيرة غير الواثقين بأنفسهم، والباحثين عن الكمال، والطموحين.

إقرأ أيضاً: ما هو دور الموارد البشرية في تطوير الشركات والمنظمات؟

يجب أن يتسم المديرون التنفيذيون بالإدراك الذاتي:

بالنسبة إلى المديرين التنفيذيين الأفراد، قال "تايلور" إنَّ العملية تبدأ حقاً بتلبية احتياجاتهم الخاصة، حتى يتمكنوا من المشاركة في الحياة على أكمل وجه. ويضيف: "يبدأ الأمر بزيادة الوعي حول الرحلة التي يمكنهم القيام بها؛ وهذا يوفر لهم القدرة على التعافي".

"يجب على المديرين التنفيذيين فهم مراحل الإصابة بالاحتراق الوظيفي، بدءاً من الإجهاد والانسحاب العاطفي والتعب الذهني، وصولاً إلى الفشل الروحي في نهاية المطاف، وهو ما يسمى بالاكتئاب؛ إذ إنَّهم بحاجة إلى الوعي الذاتي لمعرفة في أيِّ مرحلة بدؤوا الإخفاق".

كما يحتاج المديرون التنفيذيون أيضاً إلى التأكد من ارتباطهم ارتباطاً جيداً على المستوى الشخصي بحيث يتمكن الآخرون من ملاحظة مؤشرات الاحتراق الوظيفي. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي عليهم المشاركة بنشاط في استراتيجيات الرفاه النفسي المتعلقة بالنوم وممارسة الرياضة والتغذية الجيدة والتأمل. ويوصي "تايلر" بقوله: "وازن بين عملك وحياتك".

ينبغي للمؤسسات والموارد البشرية التركيز على بناء ثقافات الثقة، لا سيَّما على المستويات التنفيذية. يقول "تايلر": "البديل هو ثقافة قائمة على الخوف، وهو أحد المسارات المؤدية إلى الإجهاد والاحتراق الوظيفي في نهاية المطاف. يمكن إزالة وصمة العار المرتبطة بالصحة النفسية في مكان العمل من خلال التوعية والتعليم. كما يجب تشجيع استراتيجيات الرفاه النفسي على المستوى التنظيمي بحيث ينبغي على المديرين التنفيذيين أن يكونوا قدوة للآخرين في تخصيص الوقت للاهتمام بأنفسهم".

المصدر




مقالات مرتبطة