اعتماد منظور جديد للتطوير المهني

قد يكون بناء استراتيجية للتطوير المهني أهم أمر عليك توفيره لموظفيك في مؤسستك، وذلك لأنَّ البشر لديهم رغبة أساسية في النمو والشعور العارم بالإنجاز، ولا سيَّما في الحياة المهنية.



وخلافاً للاعتقاد السائد بأنَّ الناس يتركون وظائفهم بسبب مدير سيئ، تشير الأبحاث إلى أنَّ أحد أهم العناصر المساهمة في ارتفاع معدل دوران الموظفين هو قلة فرص التطوير المهني.

كانت تتمحور الاستراتيجيات التنظيمية لبناء خطط التطوير المهني في الماضي حول تنظيم الوظائف كتسلسل هرمي، وذلك من خلال تحديد نقاط انطلاق للصعود التدريجي إلى أعلى السلم الوظيفي، وسنناقش في هذه المقالة لماذا لم يَعُد هذا النهج مجدياً بعد الآن؟ وكيف يمكِن أن تُكيِّف المنظمات عالية الأداء استراتيجياتها لتلبية سوق العمل المتغير بسرعة؟

ما هو سوق العمل "الطبيعي" الجديد؟

ربما لم تَعُد الفكرة التقليدية المرتبطة بالطرائق المهنية الثابتة قائمة في سوق العمل الجديد؛ حيث يجب أن تكون الوظائف والأدوار مرنةً ومتجاوبة مع بيئة ديناميكية فاعلة، وتعيد الشركات اليوم هيكلة نفسها إلى فرق ذات مستويات أقل، وتتغير طبيعة الوظائف بصورة تلقائية لتُناسِب احتياجات ومهارات الزبون أو المشروع، وتعمل التكنولوجيا بسرعة على إلغاء وإضافة الوظائف إلى مكان العمل.

لنستعرض طريقة تَطوُّر مكان العمل مؤخراً:

1. أصبحَت المنظمات مسطَّحة أكثر (أقل هرمية):

لقد وجدَت إحدى الدراسات التي أجرَتها شركة ميرسر (Mercer) أنَّ أكثر من نصف أعضاء مجلس الإدارة الذين شملهم الاستطلاع اتخذوا إجراءات لإنشاء منظمات مسطحة (المعروفة باسم التنظيم الأفقي) ذات مستويات قليلة أو منعدمة من الإدارة المتداخلة بين الموظفين والمديرين، بالإضافة إلى توفير المزيد من التنقلات الأفقية وهياكل الفِرَق المؤقتة؛ حيث بدأ تقليل الخطوات الهرمية يُحوِّل مفهوم الارتقاء المهني الخطي إلى أسلوب عفا عليه الزمن. 

2. الوظائف والمهارات المرتبطة بها في حالة تغيير مستمرة:

سواءً كنتَ تسميها الثورة الصناعية الرابعة أم الجيل الرابع من العولمة ( هي حقبة جديدة من العولمة، تَحدث فيها تغيرات كبيرة في الأنماط الجيوسياسية والتكنولوجيات الجديدة الناشئة، وتحديات خطيرة في حماية البيئة)؛ فيوجد حاجة إلى مهارات جديدة أسرع من المهارات التي تُدرِّب المنظمات موظفيها عليها من أجل استخدام التعلم والتطوير التقليديين ضمن الأدوار الوظيفية، وبالنظر إلى هذه التغييرات السريعة، قد تكون المهارات المطلوبة لوظيفة محددة اليوم لا تناسب هذه الوظيفة في المستقبل؛ وبالتالي، فإنَّ بناء مصفوفات تفصيلية للوظائف مع كفاءات ومسؤوليات محددة قد يسبب المزيد من الإرباك والإحباط للموظفين الذين يحاولون بناء مستقبل مهني يتناسب مع الخطوة المقبلة.

3. الوظائف تختفي وتظهر:

إلى جانب التغييرات التي ترافق متطلبات المهارات، فإنَّ أنواع الوظائف المتوفرة بالأمس واليوم وغداً تتغير بسرعة أكبر مما كانت عليه مسبقاً؛ فقد أدَّت الأتمتة إلى إلغاء العديد من الوظائف التي تتطلب عملاً بدنياً، وتشير التقديرات إلى أنَّه من الممكن أتمتة 30% من ساعات العمل على مستوى العالم مع حلول عام 2030، ومن ناحية أخرى، تَظهَر وظائف جديدة في الأماكن التي يمكِن دمج التكنولوجيا والتفاعلات الاجتماعية فيها (مثل الرعاية الصحية وتحليل البيانات)، وبالإضافة إلى ذلك، خلقَت أزمة جائحة كورونا (COVID-19) مجموعة واسعة من الوظائف وإعادة الهيكلة التي لم يكن من الممكن البحث في أمرها مسبقاً؛ مما يعني أنَّ التخطيط الوظيفي مع الأدوار والمسؤوليات الحالية قد لا يعكس ما سيكون متوفراً ومطلوباً في المستقبل.

شاهد بالفيديو: كيف تسوق لنفسك في سوق العمل؟

نماذج التطوير الوظيفي الديناميكية البديلة:

تتكيف الشركات ذات الأداء العالي مع سوق العمل المتغير بسرعة، من خلال تغيير الأدوار الثابتة والتقدم الوظيفي الخطي إلى نموذج يُركِّز على خطة فردية لتنمية المهارات المتطورة التي يمكِن تطبيقها على العديد من الفرص المحتملة.

في مقال نُشِرَ مؤخراً، تحدى ميكائيل باكستروم (Mikael Bäckström)، أحد مديري الموارد البشرية في شركة "سبوتيفاي" (Spotify) المنظمات على إعادة التفكير في استخدام الأُطر والمسارات المهنية التقليدية، فلا ينبغي للموظفين تحديد المهارات المطلوبة للوظيفة التي سيعملون بها، وتوقُّع تحقيق التقدم دون مراعاة احتياجات الأعمال التجارية أو توافر الأدوار المطلوبة، وبدلاً من ذلك، أسَّسَ باكستروم حاضنات النمو لشركة "سبوتيفاي" (Spotify Growth Incubator) - وهي عبارة عن عملية ديناميكية لتطوير الأعمال تساعد الشركات الناشئة على النمو وإنشاء قاعدة مستقرة لعملياتها، حيث يمكِن إقامة ورشة عمل للموظفين والمديرين عن طريق تطوير مهارات جديدة أكثر تعمُّقاً لتلبية احتياجات المنظمة في المستقبل.

لقد طبَّقَت العديد من الشركات ذات الأداء العالي مثل: سيسكو (Cisco)، ونستله (Nestle)، وجوجل (Google)، وآي بي إم (IBM)، وجنرال إلكتريك (GE)، وبروكتر وغامبل (Procter & Gamble)، وجنرال ميلز (General Mills)، ويونيليفر (Unilever)، وبنك أوف أمريكا (Bank of America)، فكرة "سوق المواهب" (Talent Marketplaces)؛ وهو عبارة عن منصة تتيح للمديرين في المؤسسة نشر الفرص لشغل الوظائف الشاغرة، والمهام المؤقتة، والمشاريع قصيرة وطويلة الأمد بدوام جزئي، وأي مبادرة أخرى تتطلب المواهب داخل المؤسسة؛ حيث يُوفِّر هيكل عمل أكثر مرونة يتيح للموظف التنقل ضمن فِرَق مختلفة ومشاريع متعددة بحسب قدرته على المساهمة، ووفقاً لمهاراته، ولتحقيق أقصى استفادة ممكنة من هذا النهج؛ يجب تقسيم العمل إلى مشروعات ومهام أصغر؛ وقد وَجدَت فيكي واليا (Vicki Walia)، رئيسة مكتب المواهب والقدرات في شركة "برودنشال فايننشال" (Prudential Financial)، أنَّ بناء سوق يبحث عن خبراء ماهرين لتولِّي عناصر عمل محددة بدلاً من تأدية دور معيَّن؛ يمكِن أن يؤدي إلى الحصول على طرائق أكثر كفاءة وفاعلية لإنجاز العمل.

بالإضافة إلى ذلك، تُطوِّر بعض الشركات مثل: إيه تي أند تي (AT&T) برامج التعلم والتطوير (L&D) الداخلية التي تُركِّز على تطوير المهارات، حيث يُركِّز برنامج "وورك فورس" (Workforce 2020) الخاص بهم على تَعلُّم المهارات القابلة للتغيير، ويُقدِّم أداة جديدة لتوصيف الحياة الوظيفية، بحيث تدعم مسارات التطوير المهني للعمال الذين يمكِنهم اكتساب المهارات المناسبة لتتناسب مع متطلبات العمل المستقبلية، وبالإضافة إلى ذلك، تَظهَر دورات التعلم المُصغَّر التي تُسَهِّل التعلم الذي يُركِّز على تعزيز مهارات الإصغاء وتقديم التغذية الراجعة؛ حيث تُعدُّ هذه الكفاءات ضرورية للعمل مع الآخرين في المنظمة، بغضِّ النظر عن المستوى أو الدور الوظيفي، وتزداد أهمية هذه الأمور عندما يترقى الشخص إلى منصب إداري أعلى؛ حيث يتطلب الكوتشينغ والتحفيز وتوجيه الآخرين مهارات شخصية ووعياً.

إقرأ أيضاً: 25 مهارة يحتاج إليها سوق العمل الحر

يتطلب التطوير المهني إجراء مناقشات هادفة:

مع تزايد الوعي بأنَّ اكتساب المهارات المناسبة يُعدُّ أمراً هاماً للتطوير المهني والنجاح التنظيمي في هذا العصر الجديد الذي يشهد تغيراً سريعاً في مكان العمل؛ فإنَّ العامل الهام التالي هو تحديد أفضل الطرائق لتطوير مهارات الموظفين، ومن الواضح أنَّ وضع قائمة بالمهارات ومصفوفات الوظائف، ثمَّ ترك الموظفين يتنقلون بين الخيارات بأنفسهم لم ولن ينجح، ولن يكون هناك نهج يفرض فيه المدير مسار التطوير على الموظف، وبدلاً من ذلك، تُعدُّ المهارات والتطوير المهني مسؤولية تقع على عاتق الموظف والمدير، أي يجب أن يكون مجهوداً تعاونياً.

مع وضع هذا التعاون في الحسبان، يمكِننا تعريف الإدارة الفاعلة بأنَّها القدرة على إلهام وتحفيز ودعم الموظفين لبذل قُصارى جهدهم، وإظهار الاهتمام الشخصي العميق والتواصل معهم. بالتأكيد، يجب على المديرين القيام بهذا الأمر مع تحقيق النتائج المرجوة من الأعمال التجارية باستمرار، حيث يساعد المديرون الفاعلون في وضع أهداف وظيفية متبادلة المنفعة تعكس غايات الشركة والموظفين وقيمهم، ولتحديد هذه الأهداف استناداً إلى الغاية والقيم، يحتاج المدير إلى إجراء مناقشات شخصية مهنية منتظمة ومستمرة وعالية القيمة مع كل موظف.

تتكوّن عملية المناقشة من ثلاث خطوات:

1. أخذ الوقت الكافي للتعرف إلى الموظفين شخصياً:

اطلب منهم أن يخبروك عن حياتهم منذ صغرهم إلى اليوم، وما هي أصعب الخيارات التي اتخذوها في حياتهم الشخصية والمهنية؟ وكيف ولماذا اتخذوها؟ وما هي الدروس التي تعلَّموها من تجاربهم؟ يجب أن تعرف الأمور التي تحفزهم وتلك التي تعيقهم.

2. اكتشاف الإمكانات:

اطرح أسئلة تستفسر فيها عن الوظائف التي يطمحون إلى نيلها، وعن رؤيتهم عندما يحققون ذروة نجاحهم المهني؟

إقرأ أيضاً: التطوير المهني الإلكتروني

3. مساعدة الموظفين على وضع خطة:

مع وضع الرؤية المستقبلية في الحسبان، يجب أن تتعاون مع موظفيك في وضع خطة تساعدهم في الوصول إليها وتحقيقها، ويجب أن يُركِّز الهدف على المهارات التي يريد الفرد أن يُطوِّرها، وكيف يمكِنكما تحقيق ذلك الهدف، وفكِّر في الأمر بمثابة خطة لتحقيق الذات.

بالتأكيد، المديرون ليسوا مُهيئين للمشاركة بفاعلية في هذه المناقشات بعد؛ حيث يمكِن صقل مهارات التغذية الراجعة والإصغاء من خلال الممارسة ومتابعة دورات التعلم المصغر عبر الإنترنت.

كما ذكرنا سابقاً في هذا المقال، لا يترك الموظفون عملهم بسبب مدير صعب المراس فحسب؛ وإنَّما عندما لا يساعدهم المديرون في المهام الصعبة والشاقة لبناء حياتهم المهنية.

الخلاصة:

مع التغييرات الهامة التي تحصل في سوق العمل، تحتاج منظمتك وموظفوك إلى التركيز على النمو ودفعهم نحو التطوير ليتمكنوا من تغيير أنفسهم مع تغير الظروف؛ إذ علينا التوقف عن التفكير في الطرائق القديمة لبناء أُطر مهنية صارمة واقتراح أن يتبع الموظفون مساراً من المرجح أنَّه أصبح قديماً قبل أن يحققوا أهدافهم، وبدلاً من ذلك، تقع على عاتقك مسؤولية تمكين الموظفين لتعلُّم المهارات المناسبة والحرص على إجراء مناقشات متواصلة حول تَقدُّمهم وأدائهم؛ كما ومن الضروري تقدير أهداف الموظفين ومعرفة كيف يسعون إلى تحقيقها.

أخيراً، نظراً لأهمية التطوير المهني، فمِن الهام تقييم الدرجة التي يَعتقد الموظفون أنَّهم يتقدمون فيها ويتلقون كوتشينغ مؤثِّراً من قادتهم، ومن خلال إجراء استطلاعات منتظمة حول فكرة المشاركة، يمكِنك تحديد مدى نجاح نهجك في التطوير والكوتشينغ، وتحديد الجوانب التي تحتاج إلى مزيد من التركيز لتحسينها.

 

المصدر




مقالات مرتبطة